المفردة اللغوية قوة فكرية وسلوكية، وضعف المفردات يساوي ضعف القدرات، ومعرفة مفردات أكبر يحقق سلوكا أفضل في الحياة ويدفع بها إلى التقدم الأمثل، وتوفر مفردات أقل يعني اللجوء إلى السلوك الضعيف والمؤذي. ولو أجرينا امتحانا لأصحاب السلوكيات المقيتة، لتبين لنا أن مخزونهم اللغوي أو مفرداتهم قليلة وقدراتهم على التعبير بالكلام ضعيفة أيضا، ولهذا يميلون إلى السلوك الأولي المتوحش الذي يُظهر لنا الإنسان وكأنه أخرس ومعوق عقليا، ويتفاعل بيديه وقدميه وأسنانه ولا يعرف معنى السلوك الحضاري المفيد.
إن أفكارنا وسلوكنا وحياتنا ثلاثة أركان تصنع وجودنا القائم في أي عصر، ولا يمكننا الخروج من هذا المثلث الذي نؤسسه وفقا لتفاعلات أضلاعه، ومدى قدراتها في التعبير عن الأفكار وترجمتها إلى بيئة نفسية واجتماعية نكون فيها.
وهذا المثلث محكوم بالمفردات اللغوية التي تمنحه القوة والقدرة على صياغة التفاعلات، التي تحافظ على ما فيه من الأجيال البشرية التي يتحدد مصيرها بأضلاعه.
المفردات اللغوية تؤسس وحدة تفاعلية جادة ولا تساهم في صياغة النظريات، التي لا تعرف واقع الحياة وتأخذ الأجيال إلى سوء المصير.
إن الضعف العربي تحقق بضعف اللغة العربية وسيادة الجهل والأمية في أركان الأرض العربية، التي كانت تنطق اللغة وتتعامل معها بحب وإبداع وقوة ثقافية وحضارية عالية. ولا زلنا لا نعي هذه العلة ولا نقترب منها ونحسب الحديث فيها نوع من التأخر والرجوع إلى الوراء، في حين أنها مهماز الصيرورة الكبرى والتطلعات الحضارية المشرقة.
فلا توجد أمة على وجه الأرض وعبر الأزمان استطاعت أن تبني وجودها الحضاري من غير المفردة اللغوية، التي تحفظ أفكارها وتمنح العقول المادة اللازمة لصناعة رمز الفكرة، وتجسيدها الواضح في الواقع والتعبير عنها في الكتابة، التي تحفظها وتودعها في عقول الأجيال المتعاقبة. ولهذا فقد اخترع السومريون الكتابة والمفردات اللغوية وأسسوا نظامهم اللغوي، الذي بواسطته تمكنوا من اكتشاف الدروب الحضارية المنيرة، وانطلقوا من بيئة القصب والطين إلى بيئة البناء والتحضر والإبداع.
وعندما نقارن ما بين أجيال اليوم التي تتوطن بيئة السومريين نجد أنهم أقل تحضرا منهم، وذلك لقلة مفرداتهم اللغوية وأميتهم المهيمنة على حياتهم مما حوّلهم إلى أدوات يستخدمها الغير لتحقيق مصالحهم المتنوعة. فما هي حضارة هذه الأجيال وهي تتعامل مع ذات البيئة التي تعامل معها الأوّلون؟
قد يأتي البعض بآلاف الأسباب والتبريرات لكن السبب الواضح والعملي والصريح هو الفقر اللغوي، الذي أصاب هذه الأجيال وحدد قدراتها العقلية والفكرية وسجنها في زنزانة الأمية الشاملة مما جعلها غير قادرة على الإبداع والتطور، والانتقال إلى واقع الحضارة الإنسانية والمعاصرة الثقافية.
وهذا مثل تجلى في بلدنا على مدى العقود الماضية التي لم تترك لنا أثرا واحدا يشير إلى همة حضارية وفكرية وثقافية. فما رأينا إلا غوصا متواصلا بالقصب والماء ومفردات بسيطة لم تتطور بل تكلست، وحققت تحجيما للدماغ والنفوس وصنعت مجتمعا مقيدا بالعثرات والأمراض والآهات، ولا تسمع فيه إلا صوت الأنين وبكائيات الأحزان واللطم السعيد، أجيال معدمة لغويا ولهذا فهي محطمة حضاريا.
وعندما تأخذ عينة عشوائية من بلد متقدم وآخر متأخر تندهش من الفرق الكبير ما بين عدد مفردات الطرفين، ويتضح لك أن العلة الكبرى تكمن في هذا الخلل العقلي والنفسي، الذي أسسه نضوب المفردات في عقول المتأخرين، بينما غزارتها في عقول المتقدمين دفعت بهم إلى تحقيق المستجدات والرقي المعاصر والمتواصل، لأن سيل المفردات المتدفق لا ينضب في عقولهم ويتنامى من حولهم ليثير كل خلية دماغية، ويحثها على التفكير والإنجاب الجديد لرموزها التي تصنع الحياة المتألقة الأركان.
إن الكلام عن القدرات والتطلعات يكون بلا معنى عندما يتجاهل موضوع المفردات اللغوية وأهميتها في صياغة الحياة والتطور، وترميم السلوكيات الضارة الناجمة عن القحط اللغوي، الذي نكابده ونسقط ضحايا بريئة تحت وطأة قهره وتدميره لوجودنا الفعال، لأنه يلغي العقل وينمي العواطف والانفعال فيخلق اضطرابات سلوكية قاسية النتائج ودموية التفاعلات والرؤى والتصورات.
فاللجوء إلى العقل لا يمكنه أن يكون ناجحا من غير أن نضخ الأدمغة بالمفردات اللغوية، ونشحنها بطاقات وأدوات التفكير والاستنتاج والاستنباط وفقا لأصول التفكير العلمي المعاصر.
أما أن يتسيّد الانفعال ويموت العقل بسبب الفقر اللغوي فإن الآفة ستتفاقم، لأن العصر بحاجة إلى مفردات غزيرة لكي نتواصل معه وبدونها سنبقى خلفه، وسنتساقط على هامشه المظلم ولا نرى النور ونمضي كالخفافيش الحائرة في ضوء الظهيرة الساطع .
فأعيدوا للمفردات اللغوية قوتها ودورها في حياة الأجيال!!
واقرأ أيضاً:
المجتمعات المفخخة!! / هزي قهر يا أمة!! / التسامح والسلام بين الطبع والتطبع؟!!