في مجتمعنا وبصورة عامة لدينا القدرة الفائقة على قتل العقل ورعاية العاطفة والانفعال، والانسياق الأعمى والمبرمج خلف نعيق الغربان.
ولهذا فإن كل سلوك انفعالي ومؤثر في المشاعر البشرية يكون له صدى وأتباع، أما السلوك العاقل فإن له أعداء أكثر من البشر أنفسهم، فأعداء العقل يتعاونون مع أعداء المجتمع لقتل العقل، لأن العقل قوة والعاطفة ضعف.
وبسبب هذا الاقتراب السلبي من العقل، ترانا قد خسرنا مئات الآلاف من العقول خلال السنوات الماضية وما قبلها، ولا نزال ننزف عقول مجتمعنا ونصدرها إلى الخارج.
ولو أن المجتمع لديه آلية تقدير العقل وحماية أصحاب العقول، لما تمكنت أية قوة مهما كانت من استئصال عقوله وتعميم الجهل والخراب في دياره.
والدليل على أننا نناهض العقل ونرفضه، هو أن مجتمعاتنا من أولى المجتمعات الأرضية، التي بدأت بالتفاعل مع الثورات العلمية والصناعية، ونمت فيها عقول كبيرة من أصحاب الكفاءات في ميادين العلوم المتنوعة، لكنها لم توفر لتلك العقول الظروف البيئية الصحية الضرورية للعمل والتعبير عن أفكارها وبناء مجتمعها، وإنما حاصرتها وحاربتها وأطبقت الخناق عليها وقتلتها ووضعتها في السجون والمعتقلات، فهرب الذي هرب وهاجر الذي هاجر وبقي في محنة وعناء وخوف خطر مَن بقي منها، حتى تلقفته عصابات الضلال والظلام وأطعمته للعذاب والتراب، وخلصت المجتمع من مفردات قوته واقتداره الحضاري.
ولو قارنا ما بين مجتمعاتنا والمجتمع الياباني مثلا، حيث أننا بدأنا قبله، لكنه عندما صنع عقوله وتفاعل مع الحضارة الغربية في نهاية القرن التاسع عشر، وفر للعقول، التي أوفدها لتتعلم، المناخات اللازمة للقوة والتطور والمواظبة وصناعة العقول الجديدة في الداخل. حيث أدرك أن القوة تعني العلم والمعرفة، ولهذا استطاعت العقول اليابانية القليلة أن تبني قاعدة علمية معاصرة ذات تأثير إنساني وعلمي كبير، أحدثت ثورات إبداعية في مجالات الحياة الكبيرة، مما جعل اليابان من دول الأرض الراقية اقتصاديا وحضاريا واجتماعيا.
بينما عقولنا الكثيرة والمتميزة لم تسنح لها فرصة للبناء والتطوير ووضع المفردات الضرورية للانطلاق العلمي الصحيح. وهذه العاهة الحضارية أوصلتنا إلى حالة العجز والاتكال على الآخرين، والقيام بدور المستهلك الضعيف الذي يعتمد على غيره في حياته، ولم تنمي فينا روح الإبداع والإنتاج.
ولهذا السبب أصبحنا نتدحرج إلى الوراء، ونندحر ذاتيا وحضاريا ونبقى نتبع أبواق الظلام، ونتشبث بماضٍ مشحون بالدموع والآهات، لأننا لا نملك مستقبلا أفضل منه. فالمجتمعات التي تصنع حاضرا قويا لا تكون مرتبطة عاطفيا بماضيها، وإنما تتعلم منه وتسعى إلى مستقبلها ومواطن قوتها، ونحن نسعى إلى ماضينا ومواطن ضعفنا وعجزنا، ونتسابق نحو الشحناء والبغضاء، وقال فلان وفعل فلان، وما عندنا قول ولا فعل، سوى الدموع والمآسي والويلات واللطم على الخدود والصدور والظهور والرؤوس، ومسيرات الملايين الباكية الشاكية إلى ربٍ لا تعرفه، والمعبرة عن دين تجهله وتجهضه بسوء فعلها وانحراف رأيها وفكرها، وتفاعلها مع الأشخاص الذين لا همّ لهم إلا الكرسي الذي يلخص عقائدهم ومذاهبهم أجمعين.
إن المجتمعات التي تقتل عقولها إنما هي مجتمعات تمضي في دروب الانقراض، فلا حياة اليوم إلا بالعقل، وكل نشاطات المجتمعات وتفاعلاتها، إنما تستند على عقول الكفاءات من أبنائها وليس على الأحزاب المنفعلة، والسياسات الخائبة والأنانية الضالة الساعية إلى خراب الجميع والإجهاز على ذاتها ومصيرها.
ولا يمكن للمجتمع أن يكون حضاريا وقويا، من غير الاعتماد على عقول أبنائه التي تتعامل مع المواقف والتحديات الحضارية بعلمية خالصة، ذات قيمة معرفية وإبداعية ضرورية لإدامة حركة الرقي والتقدم بعيدا عن هوس التخبط بالمآسي والعثرات.
أما هذا التلاحي ووسائل استثارة العواطف وتأجيج المشاعر لغايات في نفس ألف يعقوب ويعقوب، إنما تستهدف القضاء على المجتمع ومنع عقوله من المساهمة في تحقيق القوة الحضارية والتواصل الإنساني اللائق، وجعلهِ يعاني من أوزار الجهل والتأخر لتدوسه سنابك الحرمان والضلال والبهتان، فتمنعه من الحياة وتدفعه إلى الموت السعيد.
فهل من الوطنية أن يقتل المجتمع عقوله، وهل من الدين أن يقتل المسلمون عقولهم؟
أم أن الرجوع إلى العقل هو الحل؟
واقرأ أيضاً:
التسامح والسلام بين الطبع والتطبع؟!! / المفردات اللغوية والقدرات الحضارية!! / الأهواء المُعقلنة!! / الماء يجري والجرف يهرأ!! / تعقيد الفلسفة!!