من تلوّث: تلطّخ، توسّخ، تشوّه.
التلوث الدماغي مرض فتاك ينتشر بسرعة مثل الحصبة والجدري والطاعون، وفيروسات هذا المرض تشبه فيروسات الأنفلونزا، التي تخترق حواجز الخلايا والنويّات، وتطلق جيناتها نسخا جديدة ذات تأثيرات معدية، مما يدفعنا إلى اكتشاف لقاح جديد كل عام، يقينا من أضرارها الفادحة.
ولا ندري كم من اللقاحات الوقائية من التلوث الدماغي علينا أن نكتشف يوميا، في هذا المعترك الالتهابي المعدي الفتاك. ولا ندري كم من الأقنعة الواقية علينا أن نرتدي في اليوم الواحد، لكي نمنع الأفكار السامة من الوصول إلى تلافيف الأدمغة، والاستحواذ على تفاعلات العُصيبات الدماغية وتواصلها فيما بينها.
إنه لأمر عسير حقا!! فملوثات الأدمغة متوفرة في كل مكان، ومتجددة على مدار اللحظات، وهي تهب كزوابع وعواصف، وتأتي كرعود أو جحافل انقضاض فيروسي لا يبقى أحدا من دون إصابة. أو ربما تكون مروعة، كأنها انفجار نووي فكري وثقافي يهاجم المدن، كما هاجمت القنبلة النووية ناكزاكي وهروشيما في اليابان.
الملوثات الدماغية فتاكة وقتالة للبشر بالجملة!!
إنها أقوى من أسلحة التدمير الشامل التي تعبت مسامعنا منها، إنها أسلحة التضليل الشامل المرعبة، فهي أفكار فيها كل ما يسبب التفرقة والشقاق والنفور والاحتراب ما بين أبناء النوع الواحد فوق الأرض الواحدة أو في البيت الواحد. وهي كل مفردات الخراب والقتل والدمار وتناقضات الفعل والمقال، وضاغطات النفوس تحت أهوال الوعيد والخوف والهلاك.
الملوثات الدماغية، دينية وسياسية واجتماعية وعدوانية تأتي إليك عبر كل القنوات المتاحة للاتصال البشري، وامتلاك الآراء وصياغتها وفقا لإرادة جرثومة التلوث وفيروس الدمار والانتهاء والاحتراق. وعندما تتلوث الأدمغة البشرية، يصعب تطهيرها لأنها ذات قدرة على التشكل وفقا لإرادة الفيروس الفاعل فيها.
والواضح والمعروف أن البشر يمكن أن يشكل دماغ البشر الآخر ويستعبده، ويحوله إلى أداة مطواعة لتحقيق ما يريده منه. أي أن البشر يمتلك دماغ البشر الآخر وفقا لمعطيات الزمن المعاصر، وهذا الامتلاك ليس كأي امتلاك، إنه يعني أن البشر قد أضاف إلى رصيده طاقة أخرى قابلة للتنامي، وتحقيق إرادة المالك البشري بواسطة المملوك البشري، الذي تم مصادرة دماغه وامتلاك إرادته وتشكيل اتجاهاته ومواقفه وآراءه وتصوراته، وتحويله إلى أداة ضد نفسه وكل قيمه وموروثاته الحضارية والاجتماعية والدينية.
ووفقا لقدرات ونوع التلوث يمكن تسخير الأدمغة الملوثة للقيام بما لا يخطر على بال من الأفعال والمهمات.
فمن يلوث مَن؟
وكيف تنتقل عدوى التلوث الدماغي بين البشر؟
وكيف يصاب البشر بالطاعون الدماغي؟
وكيف يلتهب الدماغ وتنتقل إليه عدوى أنفلونزا الأفكار المقيتة؟
إن التلوث بحاجة إلى وَسط ملوّث يؤهل عُصيبات الأدمغة لاستقبال كل ملوِثٍ يراد لها أن تهضمه، وتتمثله وتحقق إرادته من خلال نشاطاتها الدماغية، التي ستؤثر في السلوك العام لصاحب الدماغ وبكل استجاباته البدنية. ولكل ملوث دماغي أجواء وظروف موضوعية وذاتية يتم توفيرها، لكي تتحقق الإصابة به والسقوط في حبائله والانصياع لما يريد ويقرر.
ولا بد من توفير الأجواء الانفعالية عالية الشدة لتحقيق أكبر إصابة جرثومية فتاكة، وهكذا نجد أن الظروف والأحداث المشحونة بالقوة الانفعالية تتبدل وفقا لنوع الملوث الذي يراد انتشاره.
ترى كيف يبعد البشر الملوثات الدماغية ويتخلص من أمراض الاستعباد بها وتشكيل الرؤى والتصورات والفتك بالذات والموضوع البشري القائم؟
إن المعركة بين البيئة النفسية والاجتماعية والعقائدية والاقتصادية والإنسانية، وبين المنغصات المختلفة والشاملة لحالة الحياة في احتدام وعلى مر الأزمان والعصور، وأن الملايين من البشر سقط في أتون نيرانها التي ما هدأت أبدا.
فهناك على الدوام معارك طاحنة تدور ما بين ملوثات الأدمغة الساعية إلى استرقاقها والسيطرة على إنتاجها المعنوي والمادي. والبشر عموما لم يتخلص من العبودية التي أخذت أشكالا أخرى معقدة وغير مرئية بوضوح، لكنها في حقيقتها قائمة بين البشر.
وقد لعبت الملوثات الدماغية الدور البديل والأرخص لتحقيقها وإدامة الحصول على أحسن الفوائد منها، وبسبب هذه الملوثات تخندق البشر في عقائد ومذاهب وتحزبات، وبنى متاريس كونكريتية سميكة من أجل منع تسرب الملوثات إليه، لكن التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات جعلت أمر منع دخول الملوثات من أصعب المهمات التي على البشر أن يواجهها.
وبسبب ذلك فإن عواصف وأعاصير التلوث قد هبت على كل الأدمغة واعتملت بها، وصنّعتها وفقا لمنهجها وأهدافها وطموحاتها، فصار للهدف قوة ذاتية لتحقيقه، بمعنى أنك عندما تريد الحصول على شيء ما، لا تحتاج إلى أن تسعى إليه بكل ما عندك من طاقات، بل من الممكن أن تسخر مفردات الهدف المطلوب لكي تنصاع لإرادتك، وتسلم نفسها لك من غير جهد أو عناء من قبلك. فما عليك إلا أن تطلق فيروسات التلوث المطلوب الُمصنّعة لخدمة ما تريد بطاقة وقوة ما تريد، نحو هدفك، فإنه يأتي إليك عبدا ذليلا مجللا بجراحه التي تسبب له بها التلوث الدماغي وأسقطه فريسة بين يديك.
وهكذا فإن الوجود البشري لأية مجموعة أصبح غير محصن، ويعتمد على قدرة الراغب فيها بتوليد ونشر الملوثات الدماغية التي تخدم أهدافه وتطلعاته. وكلما كانت المجموعة البشرية في حالة جهل وقلة معرفة وإدراك، كلما سهل تلويثها وامتلاكها ووضعها في زنازين الإتلاف البشري.
والمجموعات التي تعرف، يكون عندها قدر ما من المقاومة والقابلية على مجابهة أي فيروس يسعى إلى تلويثها، لأنها صنعت موانعها المنطقية وبديهياتها المفيدة لصيرورتها وديمومتها الأرضية.
ووفقا لهذا، فإن المعرفة تكون قوة مانعة، والجهل قوة تدعو إلى أن ينتهي صاحبها ضحية للملوثات الدماغية أينما وجدت. وقد أصاب التلوث الدماغي أدمغة كثيرة فتحولت إلى طاقات هدم ودمار لنفسها ومجتمعها ولدينها ومذهبها وكل ما يمت بصلة إليها.
أي أنها قد تحولت بسبب التلوث المتواصل إلى قدرات ذاتية معادية للوطن والمجتمع، وهي تحقق ذلك يملئ إرادتها، واندفاعها دون القدرة على الخروج من مصيدة التلوث والإتلاف الذاتي والموضوعي.
فاحترزوا من الملوثات يا أولي الألباب إن كنتم تتبصرون؟!!
واقرأ أيضاً:
الأهواء المُعقلنة!! / الماء يجري والجرف يهرأ!! / تعقيد الفلسفة!! / العقل المقتول!! / التفاؤل الشافي!!