"أسْوأُ في تسعينيات القرن العشرين كنت أواظب على حضور الحوارات الشعرية والأدبية في المكتبة العامة في المدينة التي كنت فيها، وكانت أسبوعية تتوجه شهريا جلسات لقراءات شعرية وأدبية متنوعة لكتاب وشعراء، يتم دعوتهم لهذه النشاطات المنتظمة والتي يحضرها الكثير من أبناء المدينة.
وكنت مولعا بما يدور ومشاركا في القراءات الأدبية بأنواعها وبلغةٍ غير العربية، واكتشفت من هذه التفاعلات أن الموضوعات التي يتناولونها في إبداعاتهم ذات روح مستقبلية وقدرات إبحار في الآتي البعيد، فهي استشرافية واستحضارية لكينونات تواجدت في فضاءات الخيال ويمكنها أن تتحقق في الواقع الأرضي.
ورحت أتأمل فيما يكتبونه من الأدب بأنواعه، فأذهلتني تخصصاتهم، فلكل شاعر اهتمامه وتخصصه بموضوع أو بفكرة فيغرق فيها، ويطورها ويخوض عبابها ويستخلص منها ما يمكنها أن تمنحه وترتقي إليه. وكان صديقي أندرو وهو مهندس بارع، شاعر ولديه دواوين مبحرة في الكون والأجرام السماوية، ويقرأ ما يتصل بذلك من موضوعات وإصدارات جديدة.
فعندما تقرأ ما يكتبه شعرا، تشعر أنه قد اطلع على العلوم وغاص فيها، وكثفها بعبارات ذات مدلولات إيقاظية تنويرية تحفيزية إلهامية، وذات رؤى إنسانية. فوجدت أن المفهوم المعاصر لأي نشاط إبداعي (قصة، رواية، مقالة، قصيدة) عبارة عن فكرة تتجسد بالشكل الذي يراها فيه كاتبها، فهم يبحثون ويبحثون، ويدرسون لكي يكتبون، فما عادت الكتابة الشعرية كما نسميها في مجتمعاتنا، وكأنها حالة إلهامية أو غير ذلك من التصورات.
فالقصة بحث، الرواية بحث، القصيدة بحث، المقالة بحث، وإن لم نصل إلى هذا المستوى من الوعي الإبداعي، فلا تقل لدينا إبداع، فالبحث أساس القوة والحضارة والتقدم والإبداع الأصيل. فقبل أن نكتب لنتساءل كم قرأنا وبحثنا في الموضوع الذي نريد الكتابة فيه، فالكتابة موهبة لكنها مهذبة بالدراسة والبحث اليومي الدؤوب والمضني.
أما أن نكتب كما يحلو لنا فهذا هو العبث وليس الإبداع، وأن نرتكن إلى ذات التعريفات الميتة للأشكال الإبداعية، فإننا نكتب بأقلام الأموات وبرؤى الأجداث، وهذا ربما يفسر إقامتنا في مواطن الغابرات.
فأغراض شعرنا وكتاباتنا، تعد لا قيمة لها ولا معنى في عصر المعارف والعلوم والثورات التكنولوجية والابتكارية.
فهل سنكتب بمداد الإنسانية وبأقلام ذات تطلعات كونية؟!!
واقرأ أيضاً:
العقل المقتول!! / التفاؤل الشافي!! / الأدمغة الملوثة!! / محبة الحكمة!! / الجُهلاء!!