الرشد: التَعَقُل
كتبت عددا من المقالات عن العالم الفيلسوف الكبير ابن رشد، وتدربت لسنوات في مستشفى باسمه، وقرأت بعض كتبه وتابعت كتابات محبيه، والداعين إلى رشدية جديدة لإنقاذ الأمة من محنتها التفاعلية مع عصرها.
واطلعت على كتابات بلغات أجنبية تتناول دوره في انبثاق الثورة التنويرية المعرفية في بلاد الغرب، وما أسهمت به رؤاه ومنطلقاته في بناء العقل وتفعيله، ولا يمكن لأحد أن ينكر قيمة وأهمية ابن رشد في مسيرة الإنسانية، وطروحاته الثاقبة بخصوص التفعيل العقلي وتنمية إرادة الإدراك المعرفي وتواصلها بآليات متجددة باعثة للأنوار.
وابن رشد عاش في القرن الثاني عشر وعانى من زمانه الكثير، خصوصا بعد أن أخذ يواجه أعداء الفلسفة، والذين لا يرون ضرورة لإعمال العقل بالنص الديني، وخالفهم في رؤيته لمعنى التأويل ومعطياته، وقد ثبت على رأيه، ومات الذين آذوه وبقي حيا في مسيرة البشرية، ولهذا تجدنا نكتب عنه اليوم ونطرح أفكاره ورؤاه للنقاش والاعتبار.
وليس الموضوع اتفاق أو عدم اتفاق، وإنما النظر إلى مفردات ومنطلقات العصر الحالي، وهل هي ذاتها التي كانت في القرن الثاني عشر، البعض يرى أنها كذلك، وفي هذا إلغاء للواقع المكاني والزماني، رغم أن بعض ترسبات القرون قد تتواصل في قرون بعدها، لكن القرون لا يمكنها أن تتطابق وتتماثل مهما توهمنا، لأن ذلك يتنافى وحركة الدوران المفضية إلى تغيير حتمي ولازم.
وأفكار ومناهج ابن رشد لم تنجح في مكانها وزمانها، وإن نجحت في غير مكانها ولكن بتقارب زمني، وظرف ملح استدعى وجوبها وأهميتها، لكننا في القرن الحادي والعشرين، الذي يعيش ثورات معلوماتية تكنلوجية تقنية غير مسبوقة.
فالفكر السائد تكنولوجي تقني إليكتروني وأكثر، وما عاد فكرا كما تعارفت عليه القرون السابقة، مما يعني أن لا بد من عدم النظر إلى الوراء، والتطلع إلى آفاق الكينونة التكنولوجية المتعاظمة التي ترفدنا بما لا يخطر على بال. فما قيمة إعمال العقل في النص الديني، في عصر ما بعد الدين، وما قيمة التأويلات والدنيا تتعامل مع المعلومات، وتستحضر عطاءات العقول الأرضية حول أي موضوع كان.
فالدنيا تبدلت تماما، والعقول تنورت وتفتّحت، والنفوس تعرّت، فما عاد البشر مستعبَدا بفكرة أو منطلق ما، إلا في المجتمعات التي تريد الانقراض والموت اختيارا. ولهذا فإن حشر ابن رشد في عالمنا المعاصر يبدو اعتداءً عليه، وتعجيزا لأفكاره ومنطلقاته ومناهجه المعرفية، لأنها خارج العصر، ولا تمت بصلة إلى ما صارت إليه البشرية، شأنه شأن أي مفكر وفيلسوف آخر، حتى المعاصرين منهم الذين وجدوا من اللازم أن يتغيروا ويتنازلوا عن الكثير من أفكارهم ورؤاهم، لأن العصر قد تفوق عليها وكشف كينونتها الخاوية.
ويبدو أن من الأصلح أن يفكرَ الفلاسفة والمفكرون بالمنهج العلمي، وضرورة نشر التفكير العلمي الإبداعي الابتكاري في المؤسسات التعليمية والتربوية من رياض الأطفال وما بعدها، لكي تتحقق صناعة جيل معاصر مبتكر مبدع تقنيا وتكنولوجيا، ومتوافقا مع إيقاعات العصر الوثاب إبداعيا.
وهذه المقالة إنصاف لابن رشد وليست غير ذلك، فهو العالم المفكر الفقيه الطبيب الفيلسوف، الذي أهتمُ به وأدرسُه وأتخذُه قدوةً ومنارا فكريا وثقافيا.
فهل سيولد الرشد من رحم يعقلون؟!!
واقرأ أيضاً:
الأهواء المُعقلنة!! / الماء يجري والجرف يهرأ!! / تعقيد الفلسفة!! / السبائك السلوكية والحياة!! / الأخبار السلبية!!