لماذا أحدث فيلم الجوكر كل هذه الضجة في العالم كله؟ .. ولماذا أخذ كل هذا الاهتمام من النقاد والمحللين؟. سنحاول الإجابة عن تلك التساؤلات من خلال قراءة نفسية لأحداث الفيلم وتحليل نفسي لبعض المشاهد.
آرثر فليك نموذج للمواطن الأمريكي الفقير المهمش الذي يحاول أن يجد له موضع قدم ولقمة عيش وسط مجتمع رأسمالي ساحق للفقراء بالعمل كمهرج أجير في النهار أملا منه في أن يكون فنان "ستاند أب كوميدي" في المساء. وهؤلاء كثيرا ما تراهم في شوارع نيويورك والمدن الأخرى خاصة من السود والمهاجرين. وهو يواجه ضغوطا نفسية تفوق احتماله وفي نفس الوقت لا يشعر به أحد ولا يتعاطف معه أحد, فصخب المدينة أعلى من أناته وصرخاته, والكل منشغل باحتياجاته بشكل نرجسي أناني, وهو كما يبدو نحيل الجسد ضعيف البنية لا يعرف له أبا, وأمه مريضة ومقعدة, فتكون تلك المقدمات مهيئة لظهور هذه الشخصية المضطربة العنيفة.
نحن الآن بصدد فتح الصندوق الأسود لشخص بسيط جدا يحاول أن يعيش ويحقق أحلامه البسيطة ولكن المجتمع الذي عاش فيه ضن عليه بتحقيق هذا المطلب فتعرض لإهانات وإساءات عديدة زرعت الشر في نفسه رويدا رويدا حتى تورط في أبشع الجرائم وهي القتل.
يقف المهرج الفقير في أحد شوارع جوثان يحمل لافتة تدعو لعرض ما, فيتعرض له بعض المراهقين ويخطفون منه اللوحة تندرا عليه وسخرية منه وتسلية بينهم, وحين يحاول اللحاق بهم لاسترداد لوحته يطرحونه أرضا ويضربونه بأيديهم وأرجلهم, وحين يركب المترو وهو في حالة مزرية ينظر إليه عدد من الشباب نظرة استغراب وسخرية من المساحيق الرخيصة والرديئة والمشوهة التي يضعها على وجهه ويتنمرون به, وحين حاول أن يدفع الأذى عن نفسه زادوا من قمعه وإهانته واستفزوه لأقصى درجة فأخرج المسدس الذي كان يحتفظ به وأطلق النار على أحدهم, وكانت هذه بداية متوالية العنف, وكأن بركان الغضب انفجر بداخله وتوالت خروج الحمم الرهيبة المختزنة فيه من سنين طويلة, فهو قد تعرض للإيذاء من أمه المضطربة نفسيا, وتعرض للإيذاء البدني والجنسي من عشيقها الذي هو في ذات الوقت أبوه الذي لم يعترف به, وقد ظل سنوات لا يعرف أباه, وتوالت الإحباطات, وخرج ليعمل بوظيفة تافهة هي وظيفة الجوكر أو المهرج, والكثيرون يسخرون منه نظرا لبوهيميته وضعفه النفسي والجسدي, ثم يظهر المسدس معه فجأة وبدون مناسبة وهو يقدم عرضا بهلوانيا أمام أطفال في مستشفى, ويتم فصله بناءا على هذا التصرف الغريب.
وعلى الرغم من ظهوره كراع وحيد لوالدته المريضة إلا أنه قتلها في النهاية, فقد حملت ذاكرته إهانات وإساءات كثيرة منها, فهي قد أنجبته سفاحا من توماس وين الذي كانت تعمل خادمة لديه, ولم يعترف به هذا الشخص, ورفض تقديم أي مساعدة له حين ذهب إليه. لم يكن في حياته أي شخصية طيبة باستثناء القزم الذي كان زميلا له في العمل لم يجد في نفسه غضبا منه ربما لأنه شعر أنه ضعيف ومقهور مثله في هذه الحياة.
ونظرا لما تعرض له من إهانات وإساءات كانت ضحكته غريبة فهي "ضحكة باكية", وضحكة هستيرية تنفجر في مواقف غير مناسبة. وهو يعاني من اضطراب شديد في هويته فهو لا يعرف على وجه التحديد من أبوه, وحين أخبرته أمه رفض ذلك الأب الاعتراف به. وفي نهاية الفيلم يقوم بثورة على المجتمع الذي مارس معه كل ألوان الاحتقار والظلم والإهانة والتمييز. والشكل الذي اتخذه الجوكر ينم عن اضطراب في الهوية الجنسية فملامحه التي تشكلها الألوان على وجهه تجمع بين الذكورة والإنوثة في آن.
وحين ثار على أبيه ثار على كل سلطة وكل رمز في المجتمع الذي يعيش فيه, فكما احتقروه واستهانوا به, بادلهم هو نفس المشاعر العدائية. ويبدو في بعض المشاهد معجبا بجارته, ويظهر معها في علاقة غرامية جنسية, ولكن ليس مؤكدا إن كانت هذه حقيقة أم مجرد تخيلات في رأسه.
والفيلم يجسد قسوة المجتمع على المهمشين والفقراء والمسحوقين, ويحذر من تراكم مشاعر الإحباط والغضب وتكون براكين للغضب تنفجر ربما في مواقف قد تبدو بسيطة, وحين تنفجر تحرق من يقف في طريقها. والجوكر يعاني من اضطراب في الشخصية هو أقرب للشخصية الحدية فلا توجد صداقات في حياته, ولديه تقلبات هائلة في حياته العملية واندفاعات غير مفهومة, واضطراب في الهوية, وينتقل من فشل لفشل, وينتهج سلوكا هادما لذاته.
والفيلم يفتح ملف شائك جدا في المجتمعات الغربية وفي المجتمعات المعاصرة عموما وهو ملف الأطفال مجهولي الآباء, فقد كان آرثر مجهول الأب وكان موراي صاحب دار العرض أيضا مجهول الأب, وحين التقيا بالصدفة احتضنا بعضهما بحرارة وبدا عليهما شعور الجوع للأبوة, ذلك الشعور الذي يمكن أن يهئ صاحبه للجنسية المثلية.
وآرثر يسخر من الضحك والبكاء فالضحك بالنسبة له ليس إلا رفع جانبي الفم لأعلى والبكاء ليس إلا رفع خفض جانبي الفم لأسفل (كما كان يفعل). وقد كانت أمه تجبره أن يبدو أمام الناس ضاحكا كي يستطيع أن يعيش, وقد أشعره هذا بمزيد من القهر والإهانة وكأن وظيفته في الحياة فقط أن يسعد الناس وأن يضحكهم بينما يبتلع هو احتقارهم له. والأغنياء هم الذين يضعون القوانين ويحددون ما هو صواب وماهو خطأ, وحتى النكات هم من يحددون ماهو مضحك وما هو سخيف, ولهذا حين يطلب منه أن يقول نكتة كان يصر أن يقول "نق .. نق" وهي نكتة غير مفهومة بالطبع, وهو يقصد ذلك, وكأنه يرفض أن يكون مجرد مضحك على هوى الآخرين من الأغنياء. وهذه التركيبة نراها في المضحكين أو المهرجين فهم غالبا لا يضحكون رغم أنهم يضحكون غيرهم, وتكون لديهم عدائية كامنة تخرج في سخريتهم اللاذعة من الآخرين, خاصة من ذوي الحيثية وكأنهم يعاقبونهم على تعاليهم, ويسخرون أيضا من المغفلين والبسطاء وكأنهم يعاقبونهم على سذاجتهم وضعفهم, وهؤلاء المضحكون يتأرجحون بين السادية والمازوخية, بين السخرية اللاذعة من الآخر والرغبة في أن ينالوا رضاه واستحسانه.
ونظرا لحرمانه من حنان الأب والأم معا, كان يلفت نظره علاقة الأطفال بأمهاتهم فينظر إليهم في تحسر صامت, فأمه لم تكن فقط جافة المشاعر ولكنها أيضا كانت مريضة نفسية (تعاني اضطرابا ضلاليا وشخصية نرجسية) وهذه التركيبة النفسية تجعلها أنانية وشكاكة وعدائية وغير قادرة على إعطاء أي مشاعر لابنها.
وهو يتعاطف ويتوحد مع الفتاة اليهودية التي تعرضت للابتزاز الجنسي من أستاذها في الجامعة حتى تستطيع النجاح في مادة "مدخل إلى العالم الغربي", وتخشى أن تذكر اسمها الأخير لأنه يشير إلى يهوديتها, فهو أيضا يشعر بالنبذ والتمييز ويشعر بالتهميش وبالمعاملة العنصرية.
وتتكشف وسط الأحداث عبثية عقل السياسيين حين يسخر منهم موراي, فيورد خبر هجوم الجرذان المرعبة على المدينة ويورد حلا هزليا على لسان عمدة المدينة بأنه اقترح مقاومتها بالقطط الخارقة. وحين كان يذهب أرثر إلى المعالجة النفسانية في بداية الفيلم لمساعدته على التغلب على اضطراباته ومعاناته النفسية, قالت له في إحدى المرات أن علاجه سيتوقف نظرا لعدم وجود ميزانية لعلاجه حيث ستتوجه الميزانية لأغراض أخرى تراها الحكومة أكثر أهمية من علاج الفقراء والمهمشين والمعدمين. والغريب أنه بعد أن ارتكب عدة جرائم قتل وأصبح مسجونا, أتيحت له فرصة العلاج النفسي وراح يطلب من المعالجة أن تساعده على أخذ دواء إضافي يساعده كما ذكر على "تقليل ما يشعر به من إساءات", وهنا ذكرته المعالجة أنه قد وصف له سبعة أنواع من العقاقير, وهكذا في المجتمعات المعاصرة قد تضن بالرعاية الطبية على الناس ولكنها تقدمها أحيانا مرغمة ليس رفقا بالمريض ولكن خوفا من شره أن يهدد سلامهم ورفاهيتهم.
والأحداث تتوالى لتكشف الصراع الطبقي العنيف والمذل, وتكشف التشوهات الخلقية في العالم المعاصر الذي يسحق الفقراء ويذلهم بلا رحمة. وتبدو جذور العنف المجتمعي متمثلة في : 1 – التنشئة الأسرية المضطربة, 2 – التهميش للفئات الفقيرة, 3– التمييز العنصري, 4 – الصراع الطبقي, 5 – الحرمان المادي والعاطفي,6- الظروف الحياتية السيئة, 7 – الاضطرابات النفسية, 8 – العزلة والوحدة, 9 – فقد أو تشوه الرموز الأبوية, 10 – الإساءات الجسدية والنفسية والجنسية للأطفال, 11 – انعدام العدالة الاجتماعية.
كل هذه العوامل قد تجمعت في حياة آرثر فدفعته, وهو الكائن الضعيف المسالم ظاهريا, لأن يثور ثورة عنيفة على كل من حوله حتى أمه وزملائه في العمل.
وثمة رسالة في ثنايا الفيلم للطبقات الغنية الأنانية المترفة وللحكومات المتعالية المستبدة أنها حين تسحق الفقراء يمكن أن تدفع الثمن رغم قوتها وضعف المسحوقين, وهذا طبقا لنظرية ضعف القوة وقوة الضعف. وتبدو عبقرية واكين فينكس الذي أدى دور أرثر في قدرته على التعبيرات المركبة والمعقدة, فهو يضحك وكأنه يبكي, وقد قام بعمل ريجيم قاس قبل بدء الفيلم ليكون نحيل الجسد ولتبرز أضلاعه وعظام سلسلة ظهره وليأخذ وجهه وجسده هذا الشكل البائس. والفيلم عبارة عن مسيرة حزينة باكية ساخرة مضطربة وفوضوية للأشخاص المهمشين وغير المرئيين الذين سحقتهم المدنية المعاصرة وأدار لهم المجتمع ظهره فتسلسلت شخصية الجوكر أرثر فليك حتى وصل إلى أقصى درجات جموحه وعدوانيته.
والفيلم كتبه المخرج تود فيليبس, وساعده في الكتابة سكوت سيلفر, ويبدو أنهما لم يكونا محترفين في الكتابة فبدى السيناريو من وجهة نظر النقاد ضعيفا, ولكن من ناحية أخرى يبدو أن السياق العام للفيلم من تشتت وفوضوية يناسبه هذا السيناريو. وأحداث الفيلم منطقية جدا من الناحية العلمية والنفسية فقد أثبتت الدراسات أن الصدمات النفسية المبكرة في الطفولة تؤثر في تركيبة الشخصية بشكل كبير خاصة إذا كانت صادرة عمن يتوقع منهم الرعاية, فكلما فقدت الثقة في جودة العلاقات الأبوية المبكرة كلما توقعنا اضطرابات في الشخصية وفي الحالة النفسية, إذ يتشكل برنامج في نفس الطفل أن هذا العالم غير آمن وأن الآخرين قساة القلوب وأشرار لا يوثق بهم, وهنا يتبنى الشخص قانون الصراع في علاقاته بالآخرين.
وقد جاء توماس وين في الفيلم أشبه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب غني يتاجر بمعاناة الفقراء وينظر إليهم باحتقار وعنصرية وعنجهية, ويتلاعب بهم من أجل الحصول على المال والسلطة والنفوذ. وآرثر فليك حين يثير الرعب والفوضى في المدينة يعبر عن الرغبة في الانتقام من الأب والممثل في النظام أو القانون أو المجتمع, والذي كان مفترضا أن يحميه ولكنه كان أول من انتهك جسده وروحه, وهنا يبدو الصراع بين الهو والأنا والأنا الأعلى, فالهو مليئ بالذكريات المؤلمة وبغريزتي الجنس والعددوان وفيه مخزون كبير من الإحباطات والإساءات, والأنا يحاول أن يبدو مهذبا وأن يتأقلم مع الحياة والظروف القائمة في المدينة, والأنا الأعلى ممثلا في القانون والضوابط الأخلاقية المجتمعية المنحازة للطبقة الأعلى ممثلة في الأب ومن على شاكلته.
وربما يكون من المفيد عقد مقارنة موجزة بين شخصية الجوكر وشخصية باتمان وهما أشهر شخصيتان شريرتان في السينما, وكلاهما تعرض لصدمة صنعت فيه الشر فالجوكر يرغب في الفوضى وفي تخريب وانتهاك كل الأعراف والقوانين لأنها في نظره زائفة وصنعها الأب المشوه في وعيه, حتى الأم قتلها وداس على مشاعر البنوة لديه فهو يشعر بالخيانة والإساءات المذدوجة من الأب والأم معا, أما باتمان فقد اتجه للشر بعد رؤيته لمقتل أبويه فتحول إلى شرير ليعاقب المجرمين, فهو يخترق القانون من باب إعادة إرساء قواعد العدالة ولكن من منظوره هو. والفرق بين موقف باتمان من القانون وموقف الجوكر, أن باتمان كان يحب الأب ويتوحد معه ويحترم قانونه, أما الجوكر فهو يكره الأب وما يمثله من قانون وعادات ومعايير اجتماعية.
وعلى الرغم من روعة هذا الفيلم بما يحمله من رسائل تربوية ونفسية واجتماعية وإسقاطات سياسية, وعلى الرغم من روعة الأداء التمثيلي لفينيكس, إلا أنه قد يشكل خطرا إذا شاهده الشخص الخطأ ولذلك فهو للكبار فقط.
واقرأ أيضًا:
أنماط الجنسية المثلية / الطلاق العاطفي / زوجة سقراط .. المفترية والمفترى عليها