مجتمعاتنا أصابها الخسران على مدى قرن تشامخت فيه الأوطان، وتسامقت بعطاءاتها وإبداعاتها وأنظمتها المحفزة لطاقات الإنسان، فأنجزت مشاريعها الحضارية، وجسدت غاياتها الاقتدارية، في مجالات الحياة الإبداعية.
وعلة انكسارنا وتخبطنا، أننا لا ننتمي لحزب أو عقيدة أو مذهب أو فكرة، ولا نملك غاية أو هدفا، وإنما اختصرنا كل ذلك وأكثر بكلمة واحدة، وما أدراك ما هي، إنها مفردة "الكرسي" البغيضة، مفتاح الويلات والتداعيات، وانفراط عقد الألفة الوطنية والمحبة والأخوة والرحمة والتفاعلات الآدمية.
الكرسي حزبنا، وهويتنا، وذاتنا، وعقلنا، وشخصيتنا، ورغباتنا، وشراع مسيرة أمّارة الأسوء التي تتحكم فينا. فالذي يتصور بأن في مجتمعاتنا أحزاب وسياسات، فإنه واهم وسكران!!
فلا يوجد عندنا إلا حزب الكرسي، وأي حزب يدّعي ما يدّعيه من الشعارات والمنطلقات والأهداف والنظريات، لكنه في جوهره، لا يعرف شيئا سوى التعبير عن إرادة الكرسي، ولهذا فإن جميع الأحزاب قد تآكلت وانهزمت وتحطمت، لأنها اتخذت من الكرسي إماما لها، فاستعبدها وأذاقها سوء المصير، ولا تزال دائرة الكرسي تدور، ولا مَن يتعلم ويتفهم ويرتقي برؤيته إلى آفاق الوطن والمجتمع والحاضر والمستقبل، ويعي العوامل التأريخية والحضارية اللازمة لصناعة الحياة الأفضل، وإرساء دعائم الانطلاق الإنساني الواضح الواثق المتفاعل بإيجابية مع عناصر المكان والزمان.
فالكرسي هو الحزب وهو القائد والمرشد وجميع المدعين بالسياسة عبيد للكرسي، فإرادتهم مصادرة وكل ما يقومون به هو تنفيذ أوامر سيادة الكرسي، حتى تجدهم في كراسيهم يحترقون.
لا جديد في التذكير بالموضوع، ولا يمكن للمأسور بالكرسي أن يعي هذا القول، لأنه يحسبه عدوانا عليه، فالكرسي يتسبب بعماء البصر والبصيرة، ويجعل الجالس عليه يعيش في عالم الأوهام منقطعا عن واقعه، فهو لا يتحسس الأرضية التي تستند عليها قوائم الكرسي، لأن ما في الكرسي يحلق فيه فوق غيوم دكناء تحجبه عن رؤية ما تحته، وتأمره بالنظر التوحدي نحو بقعة سوداء في أفق النهايات المريرة.
فتحية لأحزاب الكراسي التي جنت وتجني على نفسها وأهلها، وتخرب وطنها وترمي بمصيرها في مهاوي الإتلاف والضياع.
وكلٌّ بكراسيهم فرحون، ولكن إلى حين، وهكذا هي تدور، بلا عظة وترشد وتفهم وحضور!!
ومالك الشيء لا يعطيه، وبينه وبين فقدانه أنهار دمٍ، وتدمير وطن وشعب، ويبقى الحبل على الجرار، وناعور الويلات والمآسي يدور، فلا فرق عندهم ما بين النار والنور!!
واقرأ أيضاً:
مؤهلات ضعفنا وإضعافنا!! / الحكام العرب والتمسك بالكرسي!! / حرية التعبير عن الشر عدو الديمقراطية!!