احترت في أمر متعلمة تطارد خيط دخان!! إذ ترى أن الدنيا ستنتهي عمّا قريب، وأن هناك بقعة ما في الأرض ستنجو منها، وهي تسعى إليها بكل طاقتها، ولا يعنيها أمر عائلتها وحياتها الزوجية، المهم أنها تريد أن تكون في تلك البقعة التي تصورها لها أوهامها وما تعتقده وتراه.
الدنيا ستنتهي، وإننا على شفا حافتها القصوى!!
من أين لكِ هذه التصورات؟
في الإنترنيت!!
متعلمة ومتدينة، وتحسب أن المدينة الفلانية ستنجو من النهاية، وتنتقل إليها، وبعد فترة تغيّر رأيها، وتذهب إلى مدينة أخرى، حتى انتهى بها الأمر في مدينة ما في إحدى القارات، وسمعت بأنها ضجرت منها، والدنيا ما انتهت بعد، وأنها ربما ستكون في مدينة أخرى بعد أشهر. وكانت تقول بأن نهاية الدنيا أوشكت، أبان الثورة المصرية، وأن القاهرة ستنجو، وكادت أن تشد الرحال إليها، لكن ما فيها أوحى لها بمدينة غيرها.
هذه متعلمة وتحمل شهادة تخصصية، فكيف بحال الغير متعلمين؟ّ! وفي واقع ما يجري في الحياة المعاصرة، أن موجة من الأفكار العَدمية تجتاح شبكات الإنترنيت وتجتذب الكثيرين إليها، وتقنعهم بأن الدنيا فانية وعلى وشك النهاية الحتمية، وعلاماتها كذا وكذا، ودلالاتها كذا وكذا، وهي شائعة في جميع الأديان، وما يجمعها جميعا أن الحياة ستنتهي في غضون أيام، أسابيع، أشهر أو ساعات، بل أن بعضهم ينادي بتأريخ محدد، وعندما يمضي ذلك التأريخ، يأتيك بذريعة، ووفقا لهذه الأوهام وربما الألاعيب، يقدم المُغرر بهم على أعمال وسلوكيات لا تخطر على بال، وما عهدتها البشرية من قبل.
وموضوع نهاية الدنيا، وَهْمٌ بشري يتكرر منذ ملايين السنين، لكن أصحابه ذهبوا والدنيا باقية، ومتواصلة إلى أبد الآبدين. الدنيا لن تنتهي، لأن طاقات الأكوان ذات معايير وقوانين ثابتة ومحكمة وخالدة الفعالية والتأثير، وما ينتهي هو المخلوقات التي تبقى بالتوالد، ولا تختفي وإنما تتواصل بنسخ متجددة ومتعددة.
إن مفهوم نهاية الدنيا من الأوهام العَدمية التي يصرّح بها المبلسون اليائسون، الذين يبثون الأفكار السوداوية لينتقموا من الحياة، لأنهم محقونون بالمشاعر السلبية والصِفرية، أي كل ما فيهم وما حولهم، في وعيهم، يساوي صفرا.
إنهم يريدون محق الحياة وإزالة ملامحها، وهذا وهمٌ تحقيقه محال، لأن الأرض باقية والحياة خالدة، وهي تدور وتتبدل منذ الأزل وفي أبدية مقفلة ودائبة وصلدة لا تنال منها أفكار وأوهام اليائسين. والعجيب في أصحاب هذه الأفكار ومروجيها، أنهم لا ينفذونها وإنما يسخّرون الآخرين ويستخدمونهم لتنفيذها، فقادة هؤلاء يتنعمون بتحقيق أقصى رغباتهم وغرائزهم، ويجندون الآخرين للموت في سبيل أفكارهم السوداء، التي يبثونها وكأنها الستارة الحديدية التي تحجب الآخرين عنهم، فيمضون في غيهم وفسادهم وملذاتهم، وغيرهم يُحطبون ويُسحقون.
هؤلاء من ذوي العاهات المروّعة الفاعلة بالبشر، وقد وجدوا في إشاعة العَدمية ورعايتها وتعزيزها، وتسويغ السلوكيات المتصلة بها تجارة مربحة، وآلية لجني المكاسب وتحقيق الرغبات العليلة المكدسة في دهاليز نفوسهم الغابية القابعة في لجج الأعماق السوداء.
إنهم يبثون الأوهام العدمية ويعززونها بالأدلة والبراهين، وبما قال فلان وذكر علان، وما ينسبونه لهذا أو ذاك من الأعلام والقادة، وما يفسرونه على هواهم ويأتون به من وحي أمارة السوء التي فيهم. والعجيب في الأمر لهم أتباع ومروجون لأفكارهم الهدامة وتصوراتهم العدّامة، الساعية لمحق بهجة الحياة وتعليبها في صناديق ضلالهم وبهتانهم، ورؤيتهم الهادفة لمحق ما فوق التراب، وجعل الأرض محض خراب وسراب، فما فوقها لا يتفق ورؤيتهم العَدمية التدميرية الهوجاء.
العَدميون، وجدوا في وسائل الاتصال السريع والتواصل الاجتماعي ميدانا لبث رؤاهم ومشاريعهم المعادية لجوهر الحياة ونبض قيمها الدفاقة الخالدة. وشتان بين هؤلاء، وجدّنا جلجامش، الذي أدرك أن الشعور باليأس لا يتوافق والحياة لأنها باقية ومتجددة وخالدة، ولكي نتوافق مع إيقاع خلودها علينا أن نعطيها أروع ما فينا من طاقات البناء والإبداع وصناعة آليات المستقبل الأفضل، لكي تبتهج أروقة صيروراتها وتفاعلاتها الواعدة بالأجمل.
فالحياة كما أدركها جلجامش، لا كما يريدها المصابون بجراثيم العَدمية، الداعون إلى تفريغ المسيرة البشرية من قيمتها ومعانيها ومميزاتها الساعية لمزيدٍ من التجدد والرقاء.
فالدنيا نهر يجري، ومتى استطاعوا أن يمنعوا نهرا من الجريان، عندها يمكنهم الكلام عن نهايتها!!
واقرأ أيضاً:
الحكام العرب والتمسك بالكرسي!! / حرية التعبير عن الشر عدو الديمقراطية!! / الكرسي حزبنا!!