وصف بعض العلماء والدعاة للموسيقى (كمثال فقط) بأوصاف رهيبة شيطانية تنفيرية، (والأهمّ، وهذا سبب المنشور) ربطها بالضنك والشقاء النفسي والتعاسة الدنيوية وإثبات ضررها الصحيّ... هو شيء أراه لا يختلف نهائيا عن "منهج أصحاب الإعجاز العلميّ" في ربط كل عبادة أو طاعة أو تشريع بفائدة صحية أو اكتشاف علميّ أو سعادة وراحة نفسية...
إلا أنّ الفرق هو المصادر التي يأخذ منها الطرفان. فالعلماء والدعاة والوعّاظ ينهلون من سلف رحمهم الله، كانوا ينظرون للأمور بطريقة مختلفة حسب "العقل السائد آنذاك"..وقدّموا تفسيرات ليست من صلب الشرع بالضرورة، إنما هي امتداد للاعتقاد بالتحريم والعقوبة... وطبعا لم تكن الاكتشافات العلمية بلغت مبلغها في زمانهم كي نجد عندهم ما نجده عن الإعجازيين. وهذا قد يفسّر اعتراض بعض العلماء والدعاة وطلبة العلم الديني على أصحاب الإعجاز العلمي.. لا من جهة إنكار المبدأ الذي هم أنفسهم يعملون به في أمور أخرى (الضرر الحسي أو النفسي للمعاصي) ولكن من جهة أن السلف لم يعرفوا مثل هذا التفسير والفهم... مع أنّ المنطلق هو نفسه واختلفت النتائج فقط... فكان الإنكار على المضمون مع تشابه السبيل الموصلة إليه...
أما الإعجازيون فبحسب زمانهم، كان الحديث من طبيعة أخرى له علاقة بالعلوم ومكتشفاتها... وهم أيضا قدّموا تفسيرات ليست من صلب الشرع وإنما امتداد لاعتقادهم بعظمة وشرعية أو صِدق ما يتحدثون عنه.
وما أؤمن به وما شهدته وخبِرته من دنيانا هذه، أنّه لا حُكمُ التحريم يقتضي نتائجَ ملموسة أو فسادا ظاهرا... ولا حكم الوجوب أو الإلزام بقضي مصالح ومنافع ظاهرة مباشرة... فلحم الخنزير لم يُحرّم بسبب أنّه "سيء المذاق" كما يعتقد من لم يأكله (مثلي أنا ولكن قيل لي أنه لذيذ)، فهو لذيذ وقد تأكله سنينَ ولا يقع لك شيء. وقد تأكل الدهنيات المباحة وتمرض..
ومن جهة أخرى تشريع الصوم أو الصلاة لا إعجاز خارق فيهما، وقد تصلي ويؤثر ذلك على مفاصلك...
لتبقى الإنابة والطاعة والخضوع لله العلي الكبير هي المقياس... وإلا لما وجدنا رفعا للحرج ولا رُخَصا فقهية في ديننا.. مما يدلّ على أن الطاعة أو ترك المعصية قد يرافقها مشقّة وتضِيع معها مصالح معيّنة.. فتأمّلوا !!
- وقد قال الله تعالى في قتال الأعداء إليه: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) فأين الإعجاز في هذا ؟ وأين المصلحة في هذا ؟
فقد جمع الله تعالى بين الكافر المحارب والمؤمن المجاهد في التألم والعُسر والضعف (وقد يكون كافرٌ أشد جلدا من مؤمن) ولكنْ فرّق بينهما في "الرجاء" والعلاقة بين الله وعباده.. في مآل الآخرة...
أما القوانين فقد سرَتْ على الكلّ !!
فإن كان القتال في سبيل الله شيئا لا يُثبت مصلحة مباشرة (في الدنيا) ولا خارقة من الخوارق، وإن كان التولّي يوم الزحف أو القتال ضد أولياء الله لا يُنزل كارثة بصاحبه (في الدنيا) ولا يُثبت ضررا مباشرا...
فكيف بمن دونه من الطاعات !؟
- بالنسبة للموسيقى (بعيدا عن سجال الموسيقى بين التحريم والإباحة) قد تسمع أحدا يقول بكل ثقة : والله الذين يسمعون الموسيقى ويسمّعونها في بيوتهم غير سعداء، يعيشون الضنك والهوان... و(تنبّه هنا) حتى إن كان الظاهر عكس ذلك !! (مصادرة على المطلوب ومعزة ولو طارت !).. يا فلان والله أنا سعيد... لا تكذب ! أعرف أنك تعيس ولكنك لا تشعر.. قد نُزعَتْ منك السعادة، وأيضا القدرة على الإحساس بالسعادة، خزي على خزيْ !!
وهذا طبعا من قبيل ربط "الطاعة بالسعادة" و "المعصية بالشقاء".. وكأن السعادة لا تتولد في الإنسان إلا عندما يصير مكلّفا طائعا أو عاصيا، مع أنّها شعور يولد مع الإنسان !؟
وإذا رجعتَ للدين فلا تجد أصلا صريحا لكلامه...
أرادها الله تعالى واقعية عِلمية، وأردناها خرافية غير منطقية !!
ومعلوم أنّ خطر هذه الرؤية، كامن في الانسلاخ الوشيك متى تبيّن للإنسان أنّ طاعتَه لا تجلب له مصلحة، وأنّ معصيته لا تُنزِل به ضررا...
واقرأ أيضاً:
المرض النفسي دور الإيمان والعلاج بالقرآن / تحليل لفلم Emily Rose 2005 عن المس / كذبتان في المسلسلات والأفلام الرومانسية
التعليق: بارك الله بكم، هذا ما يغفل عنه كثيرون، -بغض النظر من هم- فإذا المسلم يكاد ينسى هويته كعبد لله، في خضم سعيه وراء المصالح أو هروبه من المفاسد التي يقال له إنها مخبوءة في الأعمال المأمور بها والمنهي عنها.
بالطبع على المسلم أن يندفع إلى الطاعات وينصرف عن المنهيات من باب العبودية وتنفيذ أمر الخالق فحسب، ثم يكون تحصيل المصالح ودرء المفاسد ومعرفة الإعجاز من باب: ((ولكن ليطمئن قلبي)) لكن لي طلب صغير، وهو إعادة صياغة آخر جملة (متى تبيّن للإنسان أنّ طاعتَه لا تجلب له مصلحة، وأنّ معصيته لا تُنزِل به ضررا) وأظنك تلخص الموضوع وتؤكد قولك في البداية: (لا حُكمُ التحريم يقتضي نتائجَ ملموسة أو فسادا ظاهرا... ولا حكم الوجوب أو الإلزام بقضي مصالح ومنافع ظاهرة مباشرة)، كلمة (ظاهرة) و(مباشرة) هامة هنا، وذلك أنه باستقراء الأحكام الشرعية تبيّن أن الشريعة وضعت لجلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم، تفضلًا من الله تعالى ومِنَّة على عباده وليس جبرًا له وإلزامًا.