ذكريات الطفولة تنحفر في داخلنا، وتراودنا بين الحين والآخر لتعرض أمام أعيننا شريطاً جميلا من الذكريات.
هاجت الذكرى في نفسي حينما استمعت لمجموعة من الأشرطة التي تتناول موضوع تربية الأطفال وكان أحدها بعنوان: "أولادنا في رمضان" لأحد أساتذتي الأفاضل.
أولادنا في رمضان........ عنوان سرد أمام عيني شريطا جميلا لطفولتنا مع والدين أسأل الله تعالى أن يبارك في أعمارهما ويحفظهما ويجزيهما عنا خير الجزاء، لذا فكرت أن أكتب ذكرياتي مع الطفولة في رمضان، ولست أكتب سيرة ذاتية قدر ما أحكي قصصا واقعية عن لمحات تربوية لا أنساها كنت فيها الطفل وليس الوالد أحكي فيها مشاعر الطفل.
ترقب وانتظار......... الوالد يخرج لصلاة المغرب في الحرم المدني وينبه أنه سيتأخر اليوم فالجميع ينتظرون...................
الأم تتابع التلفاز في انتظار الخبر، والأطفال يشعرون بأن هناك شيئا أو شخصا أو حدثا مهما ينتظره الجميع، الكل ينتظر.... يدخل الوالد متهلل الوجه، صوت مذيع التلفاز الذي قطع البرامج العادية وهو يذيع الخبر بلهجة رصينة يرن في آذان الأطفال، ويرتبط بالسعادة الغامرة التي تبدو على وجه الأم، الهاتف تصيبه حالة من النشاط فلا يكاد يسكت حتى يرن مرة أخرى وتنهال المكالمات والوالدان يتمتمان بعبارات التهنئة.
"رمضان جاء"
الأطفال يقفزون ويتصايحون ويهللون ويركضون في أنحاء المنزل "رمضان جه، رمضان جه" ولكن لحظة!!!: ما هو أو من هو رمضان؟ حقيقة هم لا يعرفون تحديدا بل إنهم كانوا يحسبون أنه شخص مهم جدا يحبه الأب والأم وبالتالي فالأطفال يحبونه دون أن يرونه وهو قادم لزيارتهم، لا يهم، المهم أن: "رمضان جه"
التغيير يعم المنزل، ويبدأ الاستعداد للضيف القادم، وعيون الأطفال الصغيرة ترقب الحدث، ومنذ ليلة الرؤية يشعر الأطفال أن حدثا مهما وتغييرا كبيرا يحدث، لكنه تغيير محبب لنفوسهم، ربما لا يفهمون كل أبعاده لكن ابتسامة الأم والفرح الغامر على وجه الأب وفرحة جميع المحيطين تقول بالتأكيد أن حدثا سعيدا ومهما في الطريق إليهم.
طقوس رمضان التي كانت لا تخلو من معنى، بل إن الأطفال فهموا معنى رمضان قبل أن يقرؤوا ويفهموا الآيات والأحاديث التي تحكي عن فضله.
وكأنه كان اتفاقا بين الوالدين يتناغم فيه سلوك الأب مع سلوك الأم لتصل الرسالة نفسها للأطفال.
السحور..... الأطفال المتعبون نائمون، الوالدة تعد المائدة ذات الأصناف المميزة، بينما يتولى الوالد مهمة إيقاظ الأطفال، يبدأ الأطفال بالتذمر، ويبدأ الوالد الحنون بمداعبتهم، وتقبيلهم والهمس في آذانهم "تسحروا فإن في السحور بركة"، والأطفال بالتأكيد يعلمون أن تأخير السحور سنة مهمة يحرص عليها الوالدان، وحنان الوالد مع إصراره على أن يستيقظوا يوصل لهم مدى أهمية الأمر لكنهم يقاومون النعاس ودفء الفراش، الحل الأخير "حسنا يا بابا لا أريد أن آكل" الوالد يهمس "تسحروا فإن في السحور بركة"، ويحمل الوالد الطفل نصف النائم على كتفه بحنو شديد ثم يستمر الوالدان بمداعبة الأطفال حتى ينفضوا عنهم غبار النوم.
الله أكبر الله أكبر......... بدأ اليوم، وبدأت مراسم استقبال رمضان، صلاة الفجر يؤديها الجميع حتى طفل الخامسة.
الوالدان يمسكان المصحف منذ أول يوم في رمضان، والأطفال يصرون أن يفعلوا مثلهم، الطفلة الصغيرة تطالب والدتها أن تفتح لها المصحف على سورة الإخلاص وأن تشير لها عليها بإصبعها لكي تقرأ هي الأخرى، فهي كبيرة مثل الجميع.
أما الطفلة الكبرى فقررت أن تبدأ القراءة من الجزء الأول كما يفعل الكبار، وكانت المسابقات تقام في المدرسة مع زميلاتها عمن قرأت أكبر قدر، بل كانت المناوشات بين الزميلات تحدث كثيرا بسبب أن فلانة تقرأ بسرعة وبلا تجويد فتسبق الجميع وهو ما يعتبره الأطفال غشا في المسابقة التي كانت تحمل عندهم معنى المتعة واللعب أكثر من غيره، وكثيرا ما كانت الطفلة تقضي الشهر كله في محاولة إتمام الجزء الأول وتهجئته، وكان الوالدان يشجعان ذلك بالجوائز المغرية فمن تقرأ كذا فلها كذا ومن تزيد فلها كذا وكذا.
الواضح جدا هو جو الدفء الذي يسود المنزل، والسكون النفسي الذي ارتبط في ذهن الأطفال بهذا الضيف الجميل الغالي رمضان.
الصيام......... معاني الصيام المتعددة رسخت في أذهان الأطفال بأشكال عدة، ابتداءا بتشجيع الوالدين الأطفال على الصوم منذ نعومة الأظافر مع تقديم التسهيلات التي تسهل المهمة، فكانت الطفلة الصغيرة ذات الخمسة أعوام تصر على أنها كبيرة وتستطيع الصيام مثل الكبار بينما أخواتها يعايرنها أنها صغيرة وهن كبيرات، الوالد يقول نعم يا حبيبتي يمكنك الصيام معنا، وحينما تخور قوتها وتأكل كانت الوالدة الحكيمة تستقبل الوالد عند العودة من العمل لتقول بفخر: هل تعرف يا بابا ماذا حدث اليوم لقد صامت فلانة إلى الظهر صياما كاملا، الوالد يرسم الدهشة والإعجاب على وجهه وكأنه غير مصدق: هل تمزحون معي؟ هل صحيح يا فلانة؟، فتقول الطفلة والزهو يملؤها وكأنها قائد حربي انتصر في معركة حاسمة: نعم، ويرد الأب: ولا لقمة ولا رشفة ماء، فتؤكد بقوة وثبات: نعم، فيحتضنها الوالدان وتقول الأم: وقد قررنا أن تصوم يوم الجمعة القادم اليوم كله هل تصدقون ذلك؟....... سترون؟
الأم تحرص على تمييز رمضان بأطعمة خاصة محببة للأطفال، هم يحبون كثيرا أطعمة رمضان، وكثيرا ما تسمح لهم الأم بمشاركتها في إعداد الحلوى الخاصة بالإفطار، الأم تتمتم بالذكر وهي تطهو الطعام، والأطفال يروحون ويجيئون إلى المطبخ يقاومون الروائح الذكية التي تدغدغ البطون الجائعة لكنهم يشعرون بالسعادة أنهم كبار يصومون مثل الكبار ويتحملون وكانت الأم تضحك حينما تسمع حواراتهم عن خطط كل واحدة منهن حول ما ستأكله بعد المغرب.
الوضوء............ ما أجمل الوضوء في رمضان أو تحديدا في نهار رمضان، الأم تلحظ الأطفال وهم يصرون على الوضوء لكل صلاة بل وقد يتوضؤون بغير صلاة فالوضوء وخاصة فقرة المضمضة فرصة لا تعوض لتخفيف العطش الشديد الذي يشعرون به، وما أجمل إتقان المضمضة فإذا كانت أفعال الوضوء تفعل ثلاثا فلا مانع من بعض التقوى وجعل المضمضة ثلاثين مرة مثلا، والأم ترقب من بعيد وتضحك خاصة حينما يسألها الأطفال عن حكم ابتلاع الماء "بغير قصد" أثناء الوضوء فتجيب: "لا شيء في ذلك إن شاء الله لكن علينا أن نأخذ الحذر لكيلا نبتلع الماء" فهي تعطيهم المعلومة صحيحة لكن بشيء من المرونة تقديرا لسنهم.
الصائم لا يتشاجر ولا يضايق والديه ولا إخوته وإلا ضاع صيامه ، ولا يكذب ولا يغتاب ولا يغش هكذا رسخت هذه المعاني في نفوس الأطفال فكانوا يعودون من المدرسة محملين بالقصص حول زملائهم الصائمين، بل ويتحدثون بكل دهشة عن فلانة التي كذبت وهي صائمة، أو فلانة التي أفطرت في رمضان.
شجار الأطفال.......... أمر لابد منه وتأتي الطفلة الصغيرة باكية تشكو لوالدها أختها فيقول الوالد قولي لها: اللهم إني صائم، تركض الطفلة بفرحة منتصرة وتقف بتحد أمام أختها وتقول وهي تضغط على حروف الكلمات: "اللهم إني صائم" وتشعر بذلك أنها شفت غـليلــها وردت اعتبارها.
برامج الأطفال في رمضان أيضا كانت مميزة، والوالدان يفهمان صعوبة الصيام على الأطفال في جو صحراوي، لذا كانت مشاهدة تلك البرامج والرسوم المتحركة هي وسيلة لتمضية الوقت وشغل الأطفال حتى يحين الإفطار، لكن الأطفال يفهمون أن الصائم لا يضيع وقت رمضان الثمين في اللعب فقط بل يعطي قدرا للعبادة.
ومن مميزات رمضان عند الأطفال تغير مواعيد النوم والاستيقاظ حيث أصبح يسمح لهم بالنوم في موعد متأخر قليلا عن موعد نومهم في غير رمضان وهو ما كان يعني لهم وقتا أطول للعب يااااه....... كم يحب الأطفال رمضان.
ويتبع>>>>>> : أولادنا في رمضان2
واقرأ أيضاً:
كيف نستفيد من رمضان/ معلومة تهمك في رمضان/ على باب الله نعمة رمضان30/9/2006 / على باب الله: رمضان العهد والوفاء / رمضان دروس وعِبَر