إذا كنت في مصر الآن فستقتحم عيونك وأذنيك بل وأنفك علامات انهيار الذوق العام !!!
وستسمع إذنك وترى وتشم أصواتا ....... وصورا........ وروائح، ضوضاء......... وشتائم ......... وفوضى ألوان وأشكال......... وأدخنة .............. وأبخرة... إلخ .
منذ شهور كتب أحدهم مقالاً في جريدة عربية دولية عن قذارة القاهرة بمبانيها وشوارعها، ولعله لم يذكر البشر تأدباً،... ..................... وثارت عليه زوبعة تدافع عن "شرف" و"كرامة" الشقيقة الكبرى، وضمن تلك الكتابات لن أنسى العبارة التي ختمت بها الكاتبة اللاذعة صافيناز كاظم عمودها حينذاك حين قالت:
وبالمناسبة ... القاهرة فعلاً قذرة حالياً، واللي مش عاجبه ... ينزل ينظفها... بلا فلقة !!!
تراكم أكوام القمامة: صورة وروائح وذباب، وعشوائية المعمار في المدن بل والقرى، وطبقات التراب فوق أسفلت الشوارع والأرصفة، والذي يتحول إلي طين لازب حين تغرق بالمطر مصر في شبر ميه، أو حين تنكتم من الغيظ أو سوء الاستخدام ماسورة مجاري فترى وتشم وتخوض !!!
و في قلب المعادي أرقى أحياء القاهرة حيث الفيلات الفخمة، و أكبر مساحة خضراء بين المباني في مصر يعلو دخان حرق ما يجف أو يتساقط من أوراق الشجر أو أغصانها !!!
انهيار الذوق العام صار وباءاً عابراً للطبقات الاجتماعية، والمستويات الاقتصادية والتعليمية، لا فارق بين قرية ومدينة، والعجب لمن نجا ... كيف نجا ؟!
الأسباب... متوقعة
الكسل والسبهللة، والفوضى وانعدام النظام والترتيب والنظافة... موبقات يميل كل البشر إلى ارتكابها، والسؤال هو: ما الذي يمنع الناس أفراداً وجماعات من الاستسلام لها، أو الوقوع فيها ؟!
• وجود الوازع الداخلي: الضمير أو التقوى أو خشية إغضاب الله أو الحرص علي احترام النفس، هذا المعني بالأسماء المختلفة له يتربى مع النشأة حين ينشأ الإنسان وسط أسرته، وفي مدرسته، ووسط أقرانه على أن النظافة من الإيمان، وأن أنكر الأصوات هو صوت الحمير لأنه مرتفع وقبيح، وأن الجمال الذي أودعه الله في الكون حري بنا أن نحافظ عليه ونرعاه لنستمتع به جميعاً.
فإذا تربي طفلنا على أن حدود النظافة المطلوبة تنتهي عند باب الشقة التي يسكنها، وأن الضوضاء مستنكرة فقط إذا كانت صادرة عن الآخرين، أما ضوضاؤه هو فلا مشكلة طالما هو مستمتع بالصوت العالي لجهاز التسجيل، أو أنه قرر أن يحفر بالمثقاب مكاناً لمسمار في الحائط أو السقف بعد ساعتين من منتصف الليل !!!
أو لأنه قرر أن يشرك جيرانه في الشوارع المجاورة في الحداد علي متوفاه بإسماعهم تلاوة المقرئ ـ بالإكراه ـ أو يشركهم في أفراحه ـبالإكراه ـ حين تقتحم أصوات مطربي الأفراح عليهم بيوتهم، وتطاردهم في خلواتهم، وعلى فرشهم !!!
ولأنه لم يجد أحداً يقول أمامه لأحد يفعل ذلك أن هذا عيب، بل و حرام، وانتهاك لحرمة حياة الناس، وإيذاء للجار الذي أوصي الله به ورسوله وجبريل زعيم الملائكة الذي مازال يوصي النبي صلي الله عليه وسلم بالجار حتى ظن أنه سيورثه كما في الحديث الشريف !!!
عندما انفصل الدين عن تهذيب سلوكيات الناس في معاملاتهم مع بعضهم البعض، و أصبح غالباً مجرد طقوس تعبدية تقال باللسان أو تمارس بأعضاء الجسم خالية من الهدف الأصلي الذي جاءت من أجله وهو "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"
وعندما أصبحت التربية عندنا مجرد تسمين وترفيه ومحاسبة علي الدرجات والشهادات الدراسية، ونسيت في غمرة الزحام أن الهدف الأول لها هو تنمية الأخلاق.
التنشئة في عصرنا، والتربية في مجتمعاتنا ومدارسنا هي محض خيانة للحاضر والمستقبل، وللأجيال القادمة، واستمرار وتكريس لانهيار الذوق، وغياب المروءة والإحساس.
القانون ... خالد الذكر
لا يمكن أن يظن أحد أو يتوقع أن كل الناس ستنشأ على الأخلاق الحميدة، أو سيكون ضميرها حياً أو ذوقها راقياً نتيجة للاختيار الحر أو مجرد التربية السليمة، ويأتي القانون بضوابطه وحدوده، وعقابه لمن يخالف أو يعتدي على حرية الآخرين أو حرمة حياتهم أو يجرح مشاعرهم بصورة خارجة أو صوت مزعج أو غير ذلك، ورغم أن لدينا جحافل بوليسية وأجهزة نيابة و قضاء بأنواعه، وجسد قانوني ضخم بكل المقاييس حكماً وتنفيذاً إلا أنه يبدو مشلولاً عاجزاً عن التدخل في مسألة الذوق هذه ربما لأنه يعتبرها من الكماليات، أو لأنه مشغول بأولويات أخرى يراها أهم وأخطر، وربما لأنه لا يعتقد أن تقويم السلوك وملاحقة "قلة الذوق" مهمة من مهامه !!!
والنتيجة أن من يشعل سيجارة، أو يبني عمارة، أو يصدر عنه قول أو فعل "في الممنوع" لا يجد الرادع الكافي، وغالباً لا يجد أي رادع فيتمادى في قلة الذوق مجرماً وهو في ذات الوقت ضحية ظلمه من حوله فلا كلمة تربية تلقى، ولا قانون.
والثقافة داخل الحظيرة
ولأن أجهزة ونخبة ثقافتنا دخلت الصوبات، ولم تخرج بعد من الحظيرة فإن الدور المتوقع والمفتقد للثقافة والفنون والآداب في ترقية البشر وأذواقهم ستظل حلم ليلة صيف أو كابوس شتاء بارد ثقيل .
ومنذ قال يوسف إدريس: أهمية أن نتثقف يا ناس، فلم يسمع له أحد، ومات بحسرته، و هو يحارب العشوائية والفساد في الذوق والذمم.
ولأن الثقافة أيضاً صارت من الكماليات أو ضاعت على الفضائيات أو تفرق دمها بين المدرسة المنهكة بمنهاج الوزارة الثقيل، والأسرة المضغوطة بمطالب الحياة المتزايدة والإعلام الراكض وراء الإثارة والفرقعات والفضائح، والاتجاهات الدينية التي تحترمها أو تنظر إليها شذراً في أحسن الأحوال، أو لا تنظر إليها على الإطلاق في أحوال ثالثة، نحصد النتيجة صفراً في الثقافة كما حدث في المونديال !!!
وتضييع فرصة ذهبية لترقية ذوق الناس، وليصبح البني آدم إنساناً بمعنى الكلمة عنده شعور وإحساس يتأثر ويحب ويتذوق، ويري الآخرين ويراعيهم... إلخ.
المرض .. عفواً .. الوباء منتشر وواضح، والعلاج معروف :
هل أقول العودة للدين ؟! ولدينا من يزعم التدين وهو نموذج في الجليطة والفظاظة وقلة الذوق ؟!!
هل أقول التنشئة السليمة ؟! وقد ضاعت واضطربت معانيها مع لخبطة مفاهيم وممارسات الدنيا والدين ؟!
هل أقول تطبيق القانون ؟! وهو حين يسري يستهدف الضعفاء، ويستعرض العضلات على من لا ظهر لهم، وعلى بطونهم يضربون ؟!!!
هل أقول لثقافتنا والفنون ودورها ؟! وهي في أغلب ما نتعاطاه رطانة مستوردة أو معاني غريبة مغتربة ؟!! ماذا غير الدين والتنشئة والقانون والثقافة.
ماذا أقول ؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
واقرأ أيضًا:
الاستعمار، والقابلية له: هل يعيد التاريخ نفسه ؟!! / كيف تدفع عصابة بوش الثمن فادحًا؟!