لقد ابتليت البشرية على مدار التاريخ بشخصيات كريهة لطخت صفحات التاريخ بالظلم والعدوان والدم والعار، نذكر منهم على سبيل المثال: فرعون الذي أضل قومه فأطاعوه حتى قال لهم أنا ربكم الأعلى وصدقوه فتمادى في غيه إلى أن أغرقوا جميعاً في البحر، وهتلر الذي قاد شعبه (والعالم) إلى هاوية سقط فيها ومعه45 مليون من العسكريين والمدنيين، وصدام حسين الذي أذاق شعبه كل مرارات الحكم الدكتاتوري المستبد ودفع به إلى أتون حروب مدمرة ثم تركه في النهاية بعد أن ورطه في احتلال أمريكي ظالم.
ولكي لا تدفع البشرية ثمن خطايا مثل هذه الشخصيات في المستقبل يجب أن نعرف جميعاً معالم تلك الشخصيات وعلامات الإنذار المبكر فيها كي لا نشارك في صنعها أو دفعها إلى صفوف القيادة فتأخذنا إلى شفير النار والدم.
ولقد جمعت هذه الشخصيات صفات مشتركة مكنت علماء النفس والاجتماع من تصنيفهم تحت بند" الشخصية البارانوية الملوثة بسمات سيكوباتية ونرجسية".
وإذا عدنا إلى النشأة الأولى للشخص "البارانوي" نجد أنه قد عاش في الغالب طفولة مضطربة تتسم بصعوبة إقامة علاقة ثقة دافئة مع أحد الأبوين أو كليهما، وفي معظم الأحيان تتسم الأم بالسيطرة والقسوة والتلذذ بمعاناة الآخرين.
وفي أحيان أخرى تكون الأم عنيفة ومسيطرة والوالد ضعيف ومستسلم وفي هذا الجو الأسرى المضطرب الخالي من الحب والثقة يتعلم الطفل أنه لا أمان ولا ثقة ولا حب، وأن العالم المحيط به يتسم بالعدوانية والقسوة ولا مكان فيه إلا للقوى المسيطر المستبد.
وهو يتعلم أن التعاون مع الآخرين غير مجدٍ ولا يعطى ثقته لأحد ومن هنا تنشأ جذور استبداده برأيه واستخفافه بكل من عداه فهو وحده الذي يملك الحقيقة المطلقة. وهذا الشخص حين يكبر يكون بالغ الحساسية لأية كلمة أو إشارة تصدر من الآخرين (حتى ولو بدون قصد) ويعطيها تفسيرات كثيرة تدور كلها حول رغبة الآخرين في مضايقته وإيذائه والحط من شأنه، فهو لا يعرف النوايا الحسنة، بل إن كل شئ بالنسبة له يحمل نوايا عدوانية شريرة من الآخرين وهو يحتقر العواطف العليا (مثل الحب والتسامح والرحمة والتعاطف) ويعتبرها نوعاً من الضعف في الشخصية، وتصبح القيم السائدة عنده: القوة والتفوق والتملك والانفراد بكل شئ، ويصبح الصراع عنده بديلاً عن الحب في كل علاقاته بالآخرين حتى أقرب الناس إليه.
وبناءاً على هذه النظرة للعالم نجد أن الشخص البارانوي يسخر كل إمكاناته ويستغل إمكانات من حوله في سبيل الوصول إلى مركز يمكنه من السيطرة والتحكم والانتقام والتشفي، فهو دائماً شديد الحسد، شديد الغيرة، لا يطيق أن ينافسه أو يطاوله أحد. وهو يبالغ كثيراً في تقدير ذاته وقدراته ولديه شعور بالعظمة والأهمية والتفرد، وفي المقابل يحط كثيراً من قيمة الآخرين ويسفههم ويميل إلى لومهم وإلصاق الدوافع الشريرة بهم.
وفي بداية مشوار هذا الشخص البارانوي (مشروع الطاغية) يكتشف أن صفاته السابق ذكرها تجعله معزولاً عن الناس، ويشكل هذا عائقاً في طريق طموحاته وأطماعه الواسعة، فيبدأ في اكتساب بعض السمات السيكوباتية النفعية حتى يصل إلى ما يريد، فيتعلم الكذب والخداع والتظاهر بالمودة والاحترام والصداقة، وربما يتوشح ببعض القيم الدينية والأخلاقية ذات القيمة الاجتماعية والإنسانية العالية بغرض خداع الناس، أو يبدو في صورة الضحية المظلوم.
وفي رحلة خداعه لغيره يكتسب هذا الشخص الصفات التالية:
1- العجز عن الولاء الدائم للأشخاص أو المجموعات أو القيم الاجتماعية أو الدينية إلا بقدر ما تحقق له من مصالح ذاتية مرحلية، ثم سرعان ما ينبذ هذا الولاء أو يدوسه بقدميه.
2- المبالغة في الأنانية فيسخر كل شئ لتضخيم ذاته.
3- التبلد في الشعور مما يمنحه قسوة حتى على أقرب الأقربين له.
4- النزوية وعدم المسئولية، مما يدفعه لمغامرات خطرة العواقب.
5- انعدام الشعور بالذنب، وهذا يجعله يتمادى في قسوته إلى آخر الطريق.
6- القدرة على تقديم تبريرات ظاهرة الوجاهة والإقناع لما يقدم عليه من تصرفات.
وإذا اكتملت هذه التركيبة الشخصية للطاغية (الشخصية البارانوية الملوثة بسمات سيكوباتية ونرجسية)، وإذا استطاع أن يحتل موقعاً قيادياً (غالباً بالغدر والخديعة) فعندئذ يندفع هو ومن وراءه نحو حلم القوة والسيطرة والتميز والعنصرية، ويستطيع الطاغية بما يملكه من قدرات وأحياناً كاريزما شخصية أن يقنع اتباعه الذين يحلمون بالبطل الأسطوري بأنه هو ذاك البطل الذي جاء ليقود العالم، وهكذا يبدؤون في تمجيده ويغالون في ذلك إلى حد تقديسه فيصنعون له التماثيل والصور ويضعونها في الميادين العامة وفي كل مكان (كان لصدام حسين أربعة آلاف تمثال في العراق بالإضافة إلى آلاف أو ملايين الصور في كل مكان).
وهو في سبيل استمراره في لعبته يمنى من حوله ويعدهم بالمستقبل الباهر والجنة على الأرض ويبالغ في تصوير قدراته وانتصاراته فتصدقه الجماهير ويعيشون جميعاً في سكرة الوهم حتى يفيقوا في لحظة ما لابد آتية على انهيار كل شئ، ولما كانت علامات الخطر والإنذار هذه واضحة في شخصية الطاغية، بل ويمكن التنبؤ بها في وقت مبكر لذلك اقترحت الجمعية العالمية للطب النفسي إجراء فحوص نفسية لمن يتولون مناصب قيادية على مستوى العالم تحت إشراف الأمم المتحدة بواسطة لجان علمية محايدة، وذلك لتجنيب العالم شرور مثل هذه الشخصيات المضطربة التي تدفع الإنسانية ثمناً غالباً جراء سلوكها وخاصة إذا طال السكوت عليها حتى يستفحل خطرها.
وربما نرى حاليا وفي السنوات القادمة نوعاً جديداً من طغيان المؤسسات بديلاً عن طغيان الأفراد، كما نرى حاليا في المؤسسة الأمريكية الحاكمة أو المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، فهي تسلك سلوكاً دكتاتورياً تحت مظلة الديموقراطية ولذلك يمكن أن نطلق عليها " الديموكتاتورية" وهي ربما تصل في خطورتها إلى درجة تفوق طغيان الأشخاص.
وبعد فهذه علامات الإنذار المبكر للبشرية لعلها تتفادى صنع طغاة آخرين أخطر من سابقيهم نرى علامات طغيانهم في أماكن كثيرة من العالم ويمتلكون ترسانات هائلة من الأسلحة الفتاكة، وسيشكل السكوت على طغيانهم اليوم جريمة يدفع ثمنها العالم كله غداً أو بعد غدٍ ووقتها لن ينفع النوم.
واقرأ ايضا :
التحليل النفسي لشخصية صدام حسين