التفكر (1)
مابين التأمل والتفكر الارتقائي:
لقد انتشرت ممارسة التأمل الارتقائي في أوروبا وأمريكا بشكل واسع لم يسبق له مثيل في تاريخ هذه الأمم. وذلك بعد أن أثبت هذا التأمل- بجذوره الهندية والشرقية القديمة – مقدرته الفائقة في علاج الأمراض المرتبطة بالمشاكل الانفعالية والمعرفية وشفاء غيرها من الإضرابات والإدمان والقلق وجميع أنواع العصاب.
ومن هذا المنطلق نسأل أنفسنا عن قيمة التفكر والتأمل من حيث هو عبادة بالنسبة للصحة الجسمية والنفسية للمؤمن وستجد الجواب في المئات من الكتب والأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة لتؤكد قيمة التأمل الارتقائي والعامل الروحي والإيماني في علاج التوتر والقلق وضغط الدم والصداع النصفي والأرق وتخفيض نسبة الكولسترول في الدم وغيرها من الاضطرابات النفسية السيكوسوماتية: Psychosomatic Transcendental Meditation Faith Factor.
إن الدراسات الحديثة في ميدان الطب السيكوسوماتي النفسجسمي يؤكد بأن التفكير والنشاط المعرفي للإنسان له دور فعال بالنسبة لإصابة الإنسان بشتى الأمراض، كما أن تغيير هذا التفكير وهذا النشاط المعرفي الذي يتسبب في إحداث هذه الأمراض والإضرابات يساعد كثيرا في شفاء الفرد أو تحسين حالته الصحية بقدر كبير، وهذا مصداق الأثر المشهور، لا تتمارضوا فتمرضون فتموتون إن تأثير العوامل النفسية على الناحية الجسمية العضوية أمر بديهي يلاحظه الفرد في حياته اليومية.
وقد اهتم العلماء في الآونة الأخيرة بهذا الموضوع، خصوصا بعد أن ثبت بأن النشاط المعرفي والانفعالي للإنسان له أثر مباشر على مقاومته الطبيعية للأمراض الجسمية.
لقد اتضح من مئات التجارب والأبحاث أن الضغوط النفسية المزمنة المصاحبة للحزن والإكتئاب والقلق والإحساس بالوحدة القاتلة ومقدار الثقة بالنفس، وتؤثر تأثيرا بالغا على مقاومة الإنسان للأمراض الجرثومية وحتى السرطان فهذا الضغط النفسي المزمن يجعل الغدد الكظرية adrenal glands تزيد من إفرازها للهرمونات المحتوية على مادة الكورتيزون التي تكف من نشاط المقاومة الطبيعية.
وقد كان من تأثير هذه الأبحاث أن ظهر تخصص جديد هو علم المقاومة النفسية والعصبية psychoneuro- Immunology الذي يجمع بين الأخصائيين في ميدانين مختلفين لم يكن بينهما مثل هذا التعاون في الماضي ألا وهما ميدان العلوم الاجتماعية وعلم النفس وميدان دراسة كيمياء جهاز المقاومة في الإنسان، كما ظهر في مئات المؤلفات التي تدعو لتحسين صحة الإنسان الجسمية بتغيير أفكاره ومشاعره وانفعالاته، حتى وصف بعض العلماء هذه الظاهرة بالثورة الثالثة في الطب الغربي الحديث التي كانت أولاها تطور الجراحة وثانيها اكتشاف البنسلين والمضادات الحيوية ذلك أن الذي يشكل فكر الإنسان ونشاطه المعرفي ليس هو الأحداث والمثيرات التي يتعرض لها في بيئته بشكل مباشر بل الذي يؤثر بالفعل في تقييمه وتصوراته لهذه الأحداث والمثيرات.
* إن الإرشادات التي يطلب الطبيب أو المعالج من المريض تنفيذها تبدو بسيطة وساذجة ولكن نتائجها سريعة المفعول فعلى سبيل المثال يطلب بينسون – وهو أشهر الباحثين في هذا الميدان – من المريض أن يجلس جلسة مريحة في مكان هادئ باسترخاء جسمي شامل ويغمض عينيه ويتنفس بعمق وهدوء، مركزا ذهنه في عملية التنفس هذه كما يطلب منه أن يختار كلمة أو جملة قصيرة من مفاهيمه الإيمانية أو الدينية ويرددها متفكرا في معانيها بشكل رتيب كلما أخرج الهواء من رئتيه وإذا فضل المريض أن يختار معنى أو شكلا يتصوره بدلا من كلمة يرددها فعليه أن يتمثل هذا التصور بالذات الأسلوب المتكرر الرتيب.
لقد وجد أن ترديد هذه العبارات ذات المعنى والقيمة العقيدية أو الدينية لدى الشخص المتأمل أو تفكره في صورة ذهنية لإحدى مفاهيمه الإيمانية له أثر كبير في تعميق تفكره وسرعة علاجه. وفي التأمل الارتقائي أن تركيز الذهن مع الترديد المستمر لمعنى إيماني أو لصورة ذهنية لها قيمتها الكبيرة لدى الشخص المتفكر وسيؤدي به حتما إلى تصور أعمق ومفاهيم جديدة عن الشيء موضع التفكر والتأمل، ويرتقي به إلى أفق أرفع من المعاني والتصورات التي لم يكن ليدركها بسبب الحياة العادية والألفة القاتلة والإدراك الحسي الروتيني المحدود ومن ثم كانت تسمية التأمل الارتقائي.
* ومن الإرشادات الهامة التي يجب على المتأمل اتباعها في إهماله للأفكار والخواطر التي لا تفتأ تحشر نفسها، في ذهنه لتمنعه من التركيز فيما يتأمل فيه، ويجب عليه أن يعود لتركيز ذهنه مرة أخرى فيما اختاره لموضوع تفكره وتأمله، وأن يتخذ في جلسته التأهيلية أسلوبا سبيا استرخائنا حتى يدرب نفسه مع الأيام على هذا التمرين فيزداد تفكره وتأمله عمقا وجسمه استرخاء وتخف وطأة الخواطر المرضية والأفكار الجانبية، ويختفي معها التوتر والقلق والأعراض الجسمية التي كانت يشكو منها، ويمكن التأكد من هذا التحسن بالقياسات الفسيولوجية الدقيقة كانخفاض ضغط الدم ونسبة الكولسترول مما يدعو الأطباء لتخفيض جرع الدواء أو إيقافه بالمرة لمرضى من بينهم كانوا يتناولون هذا العلاج الكيميائي قبل ممارسة التأهل الارتقائي لسنوات طويلة.
ومن التغيرات النفسية الهامة التي يذكرها المتأملون من المرضى والأشخاص العاديين، ذلك الإحساس بالسكتة والوصول إلى مستوى راق من المعرفة الذاتية، وإلى إحساس غامر بصلة الفرد الحميمة بكل الموجودات في هذا الكون. وبعاطفة مباشرة للناس وبتفاؤل عظيم وقدرة متنامية على الإنتاج والتفكير الخلاق.
ويؤكد Le shar بأن هذا الإحساس الغامض لما وراء العالم المادي الملموس ليس أمرا متوهما ولا إيحاء ذاتيا بل هو حقيقة يثبتها التشابه المذهل بين الخبرات الروحية التي يسجلها العباد في شتى أنحاء العالم. فهم كما يقول، يصلون إلى مراتب من المعرفة لا تستطيع أن تنقلها الكلمات التي يستخدمونها في لغاتهم، لكن التشابه الكبير بين خبراتهم رغم ذلك يدعو المرأ إلى قبول مصداقيتهم. كما أنه يلاحظ التناقض بين هذه المعرفة الارتقائية وبين ما اعتاده الفرد في حياته المادية العادية من مفاهيم.
والخلاصة مما سبق تبين لنا أثر الفكر والانفعال والعاطفة على الصحة الجسمية، وكيف يمكن للإنسان أن يصيب نفسه بشتى الأمراض السيكوفسيولوجية أو يضعف مناعته حتى يصبح فريسة للأمراض الجرثومية اذا اعتل فيه الجانب المعرفي وتمارض حتى يمرض بالفعل كما وضحنا أثر العوامل المعرفية من مشاعر وانفعالات وتنكير في علاج هذه الحالات المرضية وركزنا على التأمل الارتقائي بصفته أهم الأساليب النفسية التي أثبتت فائدتها في هذا الميدان العلاجي ولصلته الواضحة بموضوع التفكر.
0 ان المؤمن المتأمل لهذا النوع من العلاج التأملي لا يجد كبير عناء في ملاحظة التشابه الظاهري الكبير بينه وبين التفكر في خلق السموات والأرض وما يصاحبه من تسبيح وذكر الله تعالى فهما يشتركان في تركيز الذهن في موضوع التأمل وفي التخلص أو التخفيف من المشوشات الخارجية والداخلية، أي ما يصرف الذهن عن التفكر من صخب في الخارج وخواطر وأفكار عارضة من داخل النفس. ويتفقان أيضا في إعادة النظر وترديد المعاني التأملية بإيقاع متكرر حتى يظهر للمتفكر المسبح وللمتأمل في كل مرة معنى وإدراك وتصور لم يخطر على البال. فكلاهما يستخدم التفكر العميق ليحرر الإدراك الحسي الجامد من سجية الروتين اليومي للحياة المادية وقمقم الألفة وزنزانة الاعتياد حتى ينطلق إلى آفاق أرحب ومعرفة أوسع.
0 إن المسلم الدارس لإرشادات العلاج في التأمل الارتقائي والاسترخاء مع الاستفادة بالعامل الإيماني لا تخطر بباله وهو يدرسها إلا تلك الصورة الحية لمؤمن يجلس القرفصاء بعد أداء الصلاة وهو مستغرق في آلاء الله والتفكير في عظمته ودقة صنعه، مرددا اعتبارات التسبيح والتحميد والتكبير.... ومن الطريف أن نذكر ونحن نتحدث عن هذا التشابه الظاهري أن يختار بنفسه الكلمات والعبادات الإسلامية التي تصلح للتزويد بالنسبة للمؤمن الذي يمارس التأمل الارتقائي والاسترخاء.
ولعل المتأمل في التأمل الارتقائي وأصوله في الديانات الشرقية القديمة والتشابه الظاهري بينه وبين التفكر والتسبيح، أن يدرك الغاية الحقيقية، ألا وهي توجيه هذا التأمل لعبادة الله وتسبيحه والتفكر في مخلوقاته.
ويبدو أن تركيز الذهن والتأمل الجاد في موضوع روحي أو قيمي معين مع ترديد ألفاظه ومعانيه والاستغراق في حالة استر خائية هادئة، يخلص الإنسان فيها نفسه من الخواطر والمشاغل اليومية، ويحاول الخلود إلى إيقاعات ما وراء المادة واستشفاف ما وراء الحس له فائدة عظيمة بالنسبة لحالته النفسية والجسمية. بل أن الإنسان ليستفيد هذه الفائدة بتركيز ذهنه على المثيرات الطبيعية في بيئته كشقشقة العصافير وأصوات العصافير والأشجار الباسقة تداعبها الرياح الهادئة أو حتى التركيز في إيقاعاته الجسمية الداخلية الرتيبة كتنفسه وضربات قلبه(Mindfulnees meditation)
0 هذه الفوائد التي يجدها غير المسلم الذي يمارس التأمل الارتقائي أو أي نوع من أنواع التأمل الارتقائي. هي كالتي يجدها إذا واظب على السواك والاغتسال ونظافة الجسم وتقليم الأظافر والرياضة البدنية الخفيفة، إن مجرد استماع المسلم لآيات من القرآن الكريم –سواء كان من المتحدثين باللغة العربية أو بغيرها– يأتي بجميع التغيرات الفسيولوجية الدالة على خفض التوتر والقلق ونزول السكينة وزيادة المناعة ضد الأمراض وأثبت التجارب التي استخدم فيها أحدث الأجهزة في المراقبة الإلكترونية لضغط الدم وسرعة ضربات القلب وقوة وشدة العضلات ومقاومة الجلد للتيار الكهربائي، إن لتلاوة القرآن أثرا مهدئا واضحا في 97% من الحالات.
إذن فالفوائد الحقيقية للتأمل تأتي بربطه بعبادة الله وحسن الصلة به تعالى وكل ما ذكرناه من تشابه ظاهري بين التفكر كعيادة إسلامية، والتأمل الارتقائي كعلاج نفسي وجسمي ما هو إلا في الصورة الخارجية وفي القشور أما اللب الحقيقي فهو في العبور من التأمل في المخلوقات إلى خالقها. فالمؤمن المتفكر، وإن لم يفقه تسبيح الكون، لكنه يحس إحساسا لا يتطرق إليه الشك ويشعر بتلاحم وتناغم تسبيحه مع تسبيح كل المخلوقات، فكل ذرة من ذرات هذا الإحساس يزداد عمقا مع مداومة الفكر حتى يصل إلى قمم روحية سامية وإلى شعور بالسرور واللذة الروحية التي لا يشبهها من نعيم الدنيا شيء.
فيتحدث ابن القيم عن هذا النعيم الذي تنقشع فيه هموم الدنيا وأمراضها وأعراضها كما ينقشع نور الظلام إن المؤمن المتفكر الذاكر يفتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة في الأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات.. فإنها تجمع عليه قوة قلبه وإرادته وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه وتشتت قلبه، ثم يفتح الباب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات.... فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيرا من هموم الدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر. نشتاق ما بين الذين يعيشون الشقاء في ظلمات مادية بعضها فوق بعض، تفتح عليهم التأمل والاستشراق لما وراء الحس بصيصا من نور خافت مبهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قامو ا. وبين الذين جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس.
بعض الأساليب القرآنية في الحصن علي التفكير:
0 اذا كان التفكر في مخلوقات الله من أعظم العبادات التي دعا إليها الإسلام، فلا عجب أن نرى القرآن الكريم يحمل بين دفتيه الكريمتين الكثير من الآيات التي تحس على التدبر في خلق السماوات والأرض بشتى الأساليب التي تناسب كل مزاج وحالة روحية، حتى لا تترك وسيلة تصل بها إلى كل من في قلبه بقية من حياة إلا سلكتها. ذلك لتخرج الناس من بلادة الحس وهموم العادة، ورتابة المألوف، ليرو آيات ربهم في السماوات والأرض ببصيرة حية وقلب شفاف.
0 إن هذا الوجود جميل، إن جماله لا ينفد، وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود، قدر ما يريد، وفق ما يريده له مبدع الوجود، وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود فإتقان الصنعة يجعل إتقان الوظيفة في كل شيء يصل إلى حد الجمال وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو وفي كل خلق... انظر هذه النخلة. هذه الزهرة هذه النجمة. هذه الظلال.. هذا الصبح.. هذا الليل.. هذه الموسيقى السارية في الوجود كله. هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين يلفتنا القرآن الكريم إليها لنتملاها ونستمتع بها وهو يقول الذي أحسن كل شيء خلقه.
0 ان القرآن العظيم يستخدم كل وسيلة ليوقظ القلوب من همود الحس ورقابة المألوف. لترى آيات ربها في السموات والأرض بقلوب حية وبصيرة ومستنيرة كذلك نجد في موضوع الإنسان أن آيات الكتاب تتبع نفس الأساليب التي تناسب كل قلب وتوائم كل حالة نفسية. وكما أقسم الرحمن عز وجل ببعض آياته الكونية ومخلوقاته في الأرض كالضحى والليل والشمس والتين والزيتون فاعتبرنا ذلك أعظم دعاية للتفكر فيها، كذلك أقسم الحق تبارك وتعالى بالنفس الإنسانية... فما حقيقة النفس الإنسانية؟ وما الروح؟ وما العقل؟؟! أهي كلها مخلوقات لا يستطيع العقل البشري إدراكها والإحاطة بها، فهي وإن كانت من مكونات الإنسان التي صار بها إنسانا، إلا إنها ليست مادية ولا يمكن حصرها بين فكي الزمان والمكان اللذين لا قدرة للعقل البشري على الإدراك خارج نطاقها. فهذا في حد ذاته أكبر تحد يدعو الإنسان للتواضع والإذعان: أن يعجز عن إدراك بعض مكونات نفسه والإحاطة بها.
وحتى العوامل السيكولوجية (السلوكية) الأثر ببساطة والتي يمكن ملاحظة آثارها في المختبر كالتعلم والتذكر والانفعال والدوافع ما زال علم النفس وهو يدرسها يخطو على شواطئ بحرها اللانهائي خطفا يلهو على ساحل محيط... وفي أنفسكم أفلا تبصرون، هذا الإنسان العجيبة الكبرى يغفل عن قيمته وأسراره الكامنة في كيانه حين يغفل.قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين. وحيثما وقف الإنسان يتأمل نفسه التي بأسرار تدهش وتحير.
تكوين أعضائه وتوزيعها، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف. وأسرار روحه طاقتها المعلومة والمجهولة.. إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها. هذه الصور المختزنة أين؟ وكيف؟ هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف؟ تستدعي فتجئ وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر.
التفكر عبادة حرة طليقة،التفكر في خلق السموات والأرض:
وما يقع عليها من أحداث، أمر لا يحده عائق من اختلاف الزمان أو المكان ولا ماهية الأشياء. هذه عبادة حرة طليقة حرية الإدراك وانطلاق لخيال المؤمن سياحة فكرية وجدانية تحيي القلوب وتنير البصائر عندما يعبر الذهن من آيات الله في الكون إلى خالفها ومديرها، وهذا هو المعنى الحقيقي للاعتبار.
إن القلب الموصول بالله والتصور الصحيح للكون والإنسان، يعني أن الكرة الأرضية ومن فيها وما فيها أن هي إلا ذرة تافهة في ملك الله الواسع. وأن الله خلق الإنسان وما عملت يداه والله خلقكم وما تعملون.
الفروق الفردية في درجات التفكر..
هناك ثمانية أبعاد ومتغيرات متداخلة تتضافر في تكوين هذه الفروق كما يلي:
1- عمق الإيمان كلما زاد إيمان الشخص المسلم كلما سهل عليه الاستغراق في ملكوت ربه استجاشة أنبل مشاعر الخشية والحب وازداد تبعا لذلك عمق تفكره وتدبره في خلق السموات والأرض.
2- القدرة على التركيز الذهني إن درجة إيمان المتفكر ومعرفته بالله هي العامل الأول والأساسي الذي يحدد عمق تفكره أما العامل الثاني فيتعلق ببعض خصائص المؤمن وسمات شخصيته وبقدرته الفطرية على التركيز الذهني دون أن يشعر بالتعب والملل السريع.
3- الحالة الانفعالية والعقلية يحتاج التفكر إلى الطمأنينة والهدوء النفسي والصحة الجسمية والنفسية. وتؤكد الأْبحاث أن التركيز الذهني وحل المشكلات يضعف مع ازدياد التوتر والقلق ولا شك أن المرض النفسي أشد على المؤمن المتفكر من المرض الجسمي العضوي, بل إن كثيرا من العباد يستبشر بما يلاقيه من أمراض جسمية, وريما تصبح هذه الأمراض الجسمية نفسها مجالا للتأمل والتفكر ولا تمنعهم من الذكر والعبادة أما الهم والحزن والاكتئاب وضيق الصدر فأعداء للصفاء الذهني الذي يحتاجه المؤمن الذاكر المتفكر، بل ربما يكون ذلك سببا في تثبيطه ومنعه من القيام بأي عمل مفيد، لذلك فقد استعاذ الرسول صلي الله عليه وسلم في دعائه المشهور من الهم والحزن والعجز والكسل ونرى أن العجز والكسل ربما يكونان نتيجة طبيعية للهم والحزن.
العوامل البيئية: هي درجة معرفة المؤمن بالشيء الذي يتفكر فيه والقدوة الصالحة وأثر الصحبة.
ان التفكر الصحيح – كما أْسلفنا – نشاط يشمل جميع المجالات المعرفية والعاطفية للإنسان. لذلك فانه يزداد عمقا وتجليا بالمداومة عليه ويربطه بذكر الله وتسبيحه. حتى يصل المؤمن إلى درجة عالية يرى بها قدرة الله وحكمته ورحمته وسائر صفاته في كل ما يرى ويسمع من حوله.
- رفاهية الأشياء: إن هناك ظواهر طبيعية تستثير تلقائيا الفكر والمشاعر وتهز الكيان النفسي والروحي للإنسان وتفرض نفسها فرضا على قلبه وفكره، فوميض البرق ونصف الرعد وهطول الأمطار وزمجرة الرياح لها في النفس الإنسانية وقع خاص يأتي فيه التفكر دون جهد مرتبطا بانفعالات الخشية والرجاء (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) صدق الله العظيم. (الرعد آية 12)
- درجة ألفة المتفكر على الأشياء: لا يستغرب القارئ أن تكون الألفة الشديدة والتعود عائقا للتفكر في الشيء وتدبره، فالتكرار الرتيب يفقد أعظم ظواهر هذا الكون روعتها وعظمتها، وإلا فكيف لا تهتز مشاعرنا لرؤية الشروق كل صباح بما فيه من الآيات البينان وكيف لا تمتلئ أنفسنا بالخشوع ونحن نستعرض صباحا ومساء الخلائق التي تعمر أرضنا من نباتات وحيوانات وطيور في جو السماء وأسماك في البحار والأنهار. يقول ابن الجوزي سبحان من شغل أكثر الخلق بم هم فيه عما خلقوا له! سبحانه!
* الخلاصة:
إن أهمية أي عامل من هذه العوامل يعتمد على ظروف الشخص الذي يقوم بعملية التفكر، ففي بعض الحالات يزداد عمق التفكر بشكل ملحوظ إذا تحسنت حالة المؤمن الانفعالية والنفسية، وفي حالات أخرى يجد المسلم نفسه وقد داوم على التفكر والذكر إذا انتقل من صخب المدينة ليعيش في قرية نائية وجد فيها من يعاونه ويشد أزره في طريق البر والتقوى، لكن العمل الأساسي الذي يحدد عمق الفكرة بالنسبة للمؤمن المتدبر في خلق الله هو العامل الإيماني.
فعمق الإيمان والصلة بالله هما العمود الفقري، وما العوامل الأخرى كقدرة المؤمن على تركيز الذهن ودرجة معرفته بالشيء الذي يتفكر فيه وغيرها من العوامل التي ناقشناها ما هي في الحقيقة إلا جوانب ثانوية تخضع لهذا العامل الإيماني وتستمد قوتها على التأثير من طاقته. وقد أخطأ من قال من العلماء المحدثين بأننا اليوم أقدر ممن سبقنا من المؤمنين– حتى في عهد الصحابة– على الوصول إلى درجة أعلى من التفكر في خلق الله لازدياد معرفتنا بخصائص الأشياء بسبب تقدم العلم التقني الحديث.
وذلك لأن التأثير الحقيقي بما يراه ويحسه المسلم في بيئته يعتمد أساسا على عمق إيمانه وخشيته لله وحبه له جل وعلا، أكثر بكثير مما يعتمد على ما يعرفه من معلومات ويكرسه من وقت للبحث في ظواهر الأشياء، فالتدبر حالة انفعالية يتأثر فيها المؤمن بما يحسه ويدركه من دقة وجمال في كون الله الواسع وليس التفكر حالة معرفية باردة تزداد بازدياد المعلومات.
لذلك من كان له إيمان الصحابة يكفيه القليل من الإيمان الظاهر لما يراه في بيئته والقليل من الوقت ليصل إلى أعماق من التفكر لا تشرئب إليها أعناق أمثالنا من الضعفاء وفي المقابل فإن من كان له علم الأولين والآخرين بما يتفكر فبه وكان له كل ما يريد من وقت وهدوء بال ولكنه ضعيف في إيمانه فلن يصل إلى درجة عالية من التفكر مهما بذل من جهد.
التفكر في سنن الكون بين العلم التجريبي والدين:
إن كانت هذه المكانة العالية التي أعطاها الإسلام لعبادة التفكر في خلق الله، فقد تعس من أغلق قلبه وسمعه وبصره وبصيرته عن آيات الله الواضحة التي تعرض عليه صباح مساء في صفحات الكون الناصعة (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) صدق الله العظيم (يوسف 75) بل إن بعضا من هؤلاء الغافلين ليعرفون كثيرا من خبايا آيات الله في المادة والطاقة وفي علم الحياة، لكنهم لا يرتفعون بهذه المعرفة عن جوانبها الظاهرة السطحية فلا ينفذون من بدائع الخلق إلى خالفها وبارئها: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون) صدق الله العظيم (الروم الآية رقم 70)
أننا نلحظ إن تفكر المسلم في الكون وبحوث العالم التجريبي الحديث يتشابهان ولو ظاهريا، في أن كليهما لا يفتش عن الأشياء المتفرقة التي لا صلة بينها، بل يستنصيان السنن والقوانين العامة الثابتة في خلق السموات والأرض. ولعل هذه الفطرة التي أودعها الله جزب قلوب الرجال هي التي تجعل المتفكرين من علماء اليوم يتحدثون بلغة العباد، فنستمع إلى عدد من العلماء حول ذلك أمثال ابن القيم رحمه الله، الغزالي رحمه الله، مصطفى محمود، الزمخشري؛
.. والذين عرضوا أمثلة لعمق تفكر المتدبر من علمائنا وعبادنا تظهر فيها بوضوح قدرتهم على سير الأغوار للأشياء واكتشاف سنن الله في خلقه، وأن هذا البحث من النواميس التي تنظم الكون يشترك فيها العبد المتفكر مع الباحث الحديث وإن اختلفت الغايات وتباينت الملل، ذلك بأن هذا الانتظام في الكون الذي يبحث عن قوانينه ومبادئه العلم التجريبي الحديث، والذي يسمح لنا بالتنبؤ بأحداث الكون بدقة فائقة، هو بذاته من أهم الأدلة التي يستخدمها القرآن الكريم لإثبات حقيقة الحقائق ...
إن لهذا الكون حالقا إلها يمسكه وفي هذا يلجأ الوحي لاستثارة فطرة أعقدها الله في جذب قلوب الناس أولا وهي البحث عن هذه السنن والنواميس التي تنسق الكون:
0 (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ*فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (الأنعام :95، 96 ) صدق الله العظيم.
0 إن ظاهرتي انتظام السنن الكونية هذه ومن ثم التنبؤ بها في ظل هذا التناسق الدقيق، هما في الحقيقة حجرا الزاوية للطريقة العلمية الحديثة method scientific ولا يقوم للعلم التجريبي صرح بدونهما.
0 إن الارتباط بين مداومة الفكر في كون الله الواسع كعبادة راقية وبين تقدم العلم ،أمر يؤكده تاريخ تقدم العلم التجريبي للأمة الإسلامية. فما من شك في أن الكشوفات والاختراعات التي قدمها علماء المسلمين في كل حقل وميدان فأذهلت العالم بأسره، قد علمت أوربا الطريقة العلمية التي قامت على أساسها حضارتها الغربية الحديثة... ما من شك في أن هذا التقدم كان نتيجة مباشرة لإيمانهم العميق بالله وبسبب اتباعهم لتعاليم دينهم بالنظر في السموات والأرض، والبحث عن سنن الله ونواميسه وآياته وحكمته في مخلوقاته مع الاستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العلم.
إذن التصور المادي الجاهلي الذي أوهم الإنسان الغربي بأن التقدم العلمي قهر الطبيعة هو الذي أعطى الحضارة المادية الحديثة صورتها المشهودة والمشوهة المقطوعة الصلة بالله، لذلك فان العالم بأسره في حاجة ماسة لربط العلم بالطمأنينة التي ينشئها التصور الإيماني وإلى السكينة التي تفيضها الفطرة المنبثقة من منهج الله وسننه. "وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً"( الأحزاب – والفتح )62-23 .
* نقلاً عن كتاب من (المشاهدة إلى الشهود) للدكتور مالك بدري .