تعلمنا متابعة حياة الإنسان البيولوجية أن الإنسان إذا ما حبس في بيئة شديدة التعقيم فإنه قد يهلك إذا ما حدث وأطلق سراحه وتعرض لأقل قدر من الميكروبات العادية، أما إذا تدرب جهازه المناعي على التعامل مع البيئة المحيطة بشكل طبيعي، بما تحويه من ملوثات وميكروبات، وتفاعل معها بما وهبه الله في جهازه المناعي من إمكانات الدفاع فإنه يصبح شيئا فشيئا قادرا على مواجهة الأخطار، حتى إذا حدث وأصيب بمرض مؤقت، فإن كل تجربة مرض من تلك التجارب تزيد جهاز مناعته خبرة وحصانة.
ولكن هل يمكننا أن نزرع في الإنسان -تمثلا لطبيعته البيولوجية- مناعة فكرية، بدلا من محاولة وضعه في بيئة فكرية وثقافية "معقمة"؟ وهي المحاولة التي باتت أقرب إلى الفشل، مع تطور تقنيات الإعلام والاتصال وتعددها ووصولها إلى كل بقعة في العالم، فما الحل إذا مع تصاعد الحديث حول الاستراتيجية الإعلامية الأمريكية تجاه المنطقة، أو حول برامج تنقل لنا الإباحية على الفضائيات العربية في إطار ما يسمى بـ "تليفزيون الواقع"؟
والحقيقة أن ذلك الوضع الذي بتنا نواجهه يثير في الذهن العديد من التساؤلات الملحة: هل يمكننا أن نظل نتقبل الصراخ المستمر منذ عقود من قبيل "الغزو الفكري" و"الاختراق الإعلامي"؟ أما آن لنا أن نغير من استراتيجياتنا في مواجهة طوفان الصوت والصورة والخبر والفكرة، في عصر يتسم بالتدفقات السريعة لرؤوس الأموال والمعلومات، وأيضا التدفقات السريعة للأفكار والثقافات؟
الأديان تقفز من فوق الأسوار
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أطرح فيها تلك الأسئلة على نفسي، بل إنها تلح على ذهني منذ سنوات، وبالتحديد منذ انشغالي بتأليف كتاب حول الاتجاهات الجديدة في التنصير، الذي تابعت فيه تطور مسألة اختراق حدود الدول بالرسالة التنصيرية.
ولنتتبع معا بإيجاز مسيرة الإعلام المتجاوز للحدود في مجال كمجال نشر الاعتقاد بالدين المسيحي "التنصير": ففي 25 ديسمبر عام 1931 بدأت "جماعة الراديو التبشيري" الأمريكية في بث إذاعة "نداء المسيح" من الإكوادور وهي أول إذاعة تنصيرية يتجاوز بثها حدود دولة المنشأ، وفي نفس العام قبل ذلك بعدة شهور، وتحديدا في شهر فبراير من نفس العام كان الفاتيكان قد بدأ بثه الذي يتجاوز حدوده إلى الدول المجاورة.
ومنذ ذلك التاريخ توالى ظهور أمثال تلك الإذاعات هنا وهناك في أنحاء العالم، وقد كانت الإذاعة بالراديو وقتئذ "هي الوسيلة المثلى لمخاطبة الجماهير العريضة على اختلاف مستوياتها الثقافية والتعليمية "الأميين والمتعلمين" والكبار والصغار والنساء والرجال على حد سواء فضلا عما تتمتع به من إمكانات وقدرات تيسر لها الوصول إلى هذه الجماهير المتنوعة في أماكن متعددة على مساحات واسعة من الأرض والبحر... متخطية حواجز المسافات وحواجز الرقابة وحواجز الأمية في آن واحد".
وقد تطورت مراحل العمل التنصيري من خلال الإذاعات من مجرد بث برامج إلى برامج وكتيبات ونشرات، ثم إلى برامج وكتيبات ونشرات وضباط اتصال لتبني متقبل الرسالة وتعهده بالتربية الخاصة.
مزيد من وسائل تخطي الحواجز
ولم يزل استخدام وسائل الاتصال الجماهيري في هذا المجال يتوالى ويتطور، إذاعة ثم تليفزيون، ثم فيديو ثم فضائيات وسينما، ثم إنترنت. وقد "صار –الإنترنت- الحدث الإعلامي للأعوام الأخيرة من تسعينيات القرن الماضي، وقد صارت كل تكنولوجيات الاتصال الأخرى من فيديو واسطوانات ليزر وكاسيت وتليفزيون وراديو منضوية تحت لواء الإنترنت"، والتي يمكن عن طريقها الوصول للملايين من البشر حول العالم في نفس اللحظة، وعن طريقها يمكن تخطي الحدود في ثوان معدودة؛
كما أنها واحدة من أكثر وسائل الاتصال انتشارا في أوساط الشباب، ومن ثم فإنها الوسيلة الأنسب للتنصير، والأخطر من ذلك والأيسر، أنها الوسيلة الأنسب لنشر الثقافة ونمط الحياة الغربية والأمريكية السائدة، ببساطة وبكل يسر من خلال الموسيقى والغناء والأفلام وغيرها من المشهًيات.
جدوى غلق الأبواب
ومن ثم فلم تعد سياسة غلق الأبواب تجدي، فالفضائيات تنتشر في البيوت العربية انتشار النار في الهشيم، خاصة مع ظهور أشكال من التحايل والتعاون بين الجيران لإيصال البث الفضائي للبيوت بأقل التكاليف، في ظل عقم وبله التليفزيونات الأرضية العربية وملل جمهور المشاهدين منها.
كذلك فإن الإنترنت ينتشر انتشارا سريعا بخاصة في أوساط الشباب إن لم يكن في البيوت ففي مقاهي الإنترنت والتي صارت"بيزنس" ميسور ومربح للكثير من أصحاب الأموال. فماذا نحن فاعلون للحفاظ على هوية وأخلاقيات الجيل القادم من أبنائنا؟
وسؤالي الذي أتوجه به إلى الآباء والمربين هو: هل سنستمر في سياسة المنع والغلق والرقابة والحجب؟ وهل نستطيع بذلك أن نحمي أبناءنا وبناتنا، بل وأنفسنا من الغرق في طوفان الإعلام والمعلومات ووسائل التسلية والترفيه التي تأتينا عبر تلك الوسائل؟
وسؤالي إلى حكوماتنا الرشيدة هو: هل تستطيع الحكومات أن تستمر في منع وحجب ورقابة هذا الطوفان الذي يأتيها من فوقها ومن تحتها، وعن أيمانها وعن شمائلها، هل تستطيع أن تحمي شعوبها من فيروس الديمقراطية والحرية على الطريقة الأمريكية أو حتى على الطريقة الهندية؟ هل ستظل تنظر إلى تلك الشعوب على أنها مجموعة من القصر والمعتوهين وفاقدي المناعة، علما بأنها أعطتهم من الحقن في أوردتهم وعضلاتهم بما يكفيهم حصانة من فيروس الديمقراطية والحرية لعشرات السنين، فلم الهلع؟
هل لنا في مناعة يا أهل الله؟
وكما تعلمنا طبيعة الأشياء في الإنسان وعلاقته ببيئته الطبيعية بما فيها من ممرضات محتملة، كذلك الحال في تعاملنا تربويا مع أبنائنا، أو تعامل الحكومات مع شعوبها: فإما أن ندرب أجهزة مناعتهم الفكرية والأخلاقية، وإلا فإن الانزلاق وربما الهلاك الفكري والأخلاقي سيكون مصيرهم عند التعرض لأول وأضعف ميكروب وهو احتمال وارد بسهولة مع تعدد وسائل اختراق الحواجز.
ومن ثم فلن نتمكن من تدريب مناعتهم تلك إلا في أجواء مفتوحة، من خلال النقاش الحر، والتجربة والخطأ. ولا يظنن أحد أن الناس في تلك الأجواء المفتوحة ستكون معصومة من الزلل والخطأ وبعض الانحراف والزيغ، ولكن في ظل الأجواء المفتوحة والصراحة والنقاش الحر والصدر الرحب، وتربية العقل القادر على التمييز بين الخطأ والصواب، وعلى النظرة النقدية للأمور، والقدرة على الحكم على الأمور بشكل متزن، في ظل كل ذلك يمكن إصلاح كل خطأ وتقويم أي اعوجاج، وعلاج كل زلل، بل إن الخطأ والزلل والاعوجاج تكون أمور ضرورية لاستمرار وتقوية الصحة الفكرية للأفراد والشعوب.
وصدق الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي قال في حديثه الشريف الذي رواه أبو هريرة: "والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم" رواه مسلم.
* كاتب ومحرر مصري-يمكن التواصل معه عبر البريد الإليكتروني: magdyas@hotmail.com
اقرأ أيضا:
الحرية في الله..ثورة بلا دماء / الحزب الوطني القديم