سؤال يردده الكثير من الآباء والأمهات: كيف نربى أبناءنا وبناتنا؟
والسؤال ليس جديداً وإنما زادت حدته وزاد إلحاحه في السنوات الأخيرة خاصة بعد التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الحادة التي صاحبت فكرة العولمة، فقد أصبحت خصوصيات المجتمعات المحلية مهددة تحت تأثير البث الإعلامي الهائل والمتعدد والمتناقض في آن، ولم يصبح زمام التربية في أيدي الآباء و الأمهات والمدرسين والمدرسات وأئمة المساجد ووعاظ الكنائس فحسب وإنما تعددت الأيدي الممسكة بهذا الزمام فشملت التليفزيون( كأداة تربوية أساسية في الوقت الحالي شئنا أم أبينا وبصرف النظر عن إيجابياتها وسلبياتها) والإذاعة والصحف والمجلات والكمبيوتر والإنترنت... وغيرها من وسائل الاتصالات الحديثة والمتعددة.
وهنا وقف المربون التقليديون في حيرة شديدة فهم لا يعرفون كيف يواجهون هذه « التعددية التربوية» من ناحية، وبعضهم (إن لم يكن أغلبهم) لم يكن من البداية يعرف حدود النموذج التربوي الأمثل لأبنائه وبناته، فنحن في المجتمعات العربية والإسلامية نعانى مما يمكن تسميته « الأمية التربوية» وهى جزء من أميات كثيرة مازلنا نعانى منها كالأمية النفسية والأمية السياسية والأمية الأخلاقية. ونتج عن هذه الحيرة مضاعفات كثيرة فبعضهم بالغ في إغلاق النوافذ على أبنائه وبناته بغية حمايتهم مما يعتقد أنه تلوث ثقافي وديني وتربوي، وبعضهم تساهل في فتح كل النوافذ عملاً بمبادئ الحرية والاختيار والمسئولية، والبعض الآخر ظل مذبذباً لا يعرف ماذا يفعل. ويمكننا أن نرصد بعض النماذج التربوية السائدة في مجتمعاتنا مبينين بعض إيجابياتها وسلبياتها أملاً في توسيع رؤية قاعدة الاختيار للنموذج التربوي الأكثر ملائمة والأكثر توازناً:
1- التربية العفوية ( الفطرية): ويميل إليها سكان القرى والمستويات الاجتماعية البسيطة وهى تعنى غياب تصور مسبق للتربية لذلك يعتمد الوالدان على ردود أفعالهما الفطرية العفوية في المواقف المختلفة، فهم كآباء وأمهات يحبون أبناءهم وبناتهم ويعملون بشكل طبيعي وتلقائي من أجل مصلحتهم، وهذا يكفى (في نظرهم)، خاصة وأنهم-أي الآباء والأمهات – قد تربوا بهذه الطريقة البسيطة وهم يرون أنها صالحة لأبنائهم.
ويستشهد المتحمسون لهذه الطريقة التربوية بآباء وأمهات بسطاء جداً لم يحصلوا على أي قدر من التعليم وقد ربوا أبناءاً وبناتاً تقلدوا أرفع المناصب ووصلوا إلى أعلى الدرجات العلمية والثقافية.
وتتميز هذه الطريقة بالبساطة والعفوية كما تتميز بوجود قدر كبير من المشاعر التلقائية بين الآباء والأبناء، وتتميز أيضاً بالمرونة في المواقف المختلفة، ولكن يعيبها عدم ثبات نتائجها فهي أحيانا ًُتنجح نجاحاً واضحاً والنماذج على ذلك موجودة فعلا، وأحياناً أخرى تفشل فشلاً ذريعاً، وحيثما لا توجد قواعد واضحة يصعب بالتالي التنبؤ بالنتائج.
2- التربية العقلانية (السيكولوجية): ويصف الدكتور عبد المنعم الحفنى هذا النموذج التربوي في الموسوعة النفسية الجنسية (الطبعة الأولى1992 – مكتبة مدبولي) بقوله: « وليس أجدى في التربية مما يسمى بالطرق السيكولوجية فهي أفضل في نتائجها من الضرب والتهديد والتقريع وكم من طفل استقام أمره بحثه على التعقل واستنفار قواه الذاتية، نتيجة ما يستشعره من تأنيب ضمير أو ذنب. وإنه لمن المفيد ألف مرة أن يظهر الأب أنه مستاء أو غير راض دون أن يضرب ابنه أو يهدده أو يقرعه. ولا يفعل العقاب سوى أن يزيد الطفل العدواني عدوانية ويملأ قلبه بالكراهية لأبويه»
وهذا الأسلوب التربوي يميل إليه المتعلمون والمثقفون والمنتمون إلى الطبقات الاجتماعية الأعلى وذلك بحسب تركيبتها العقلانية الراشدة وبحسب ما يتاح لهم من قراءات نفسية توضح لهم قيمة الحرية والاختيار والمسئولية لهم ولأبنائهم على السواء، كما أن هذه الطبقات بطبعها لا تميل إلى العقاب البدني أو حتى اللفظي. وربما يميل إلي هذا النموذج أيضاً الآباء والأمهات فاقدي أو ناقصي المشاعر الوالدية الطبيعية وخاصة النساء المسترجلات اللاتي لا تسعفهن مشاعر الأمومة الفياضة فتجد الواحدة منهن تهرع إلى الكتب النفسية أو إلى المتخصصين في التربية تبحث عن إجابة لكل صغيرة وكبيرة في حياة طفلها، وبالتالي تكون استجاباتها كلها (أو معظمها) مبنية على توجيهات علمية خارجية وبالتالي ينقصها التلقائية وينقصها الجانب الوجداني، ولهذا تجد في عيون أبنائها آثار حرمان عاطفي لا تخطئة العين الخبيرة.
ويشير الدكتور الحفنى إلى الوجه الآخر للتربية العقلانية (السيكولوجية) بقوله:
"ومن ناحية أخرى فقد يؤدى الغلو في اللجوء إلى الطرق السيكولوجية في التربية إلى أن ينمو الطفل عقلانيا وشديد الانتماء فيسلبه ذلك قدرته على المبادرة والتصرف بعفوية، حيث تقتضى العقلانية أن يكثر التفكير في الأمور ويتردد قبل أن يقوم بعمل ما، ويقتضى انتماؤه أن يفكر في إرضاء الناس فيعمل وفق هواهم".
وهكذا نجد أنه على الرغم من أن النمط العقلاني (السيكولوجي) يرتكز على قواعد تربوية علمية وبالتالي يمكن التنبؤ بنتائجه إلا أن المبالغة فيه تأتى على حساب نمو الجوانب الوجدانية التلقائية والطبيعية، فيكون الطفل أشبه بنبات (الصوبات) شكله جذاب لكن طعمه مائع.
3- الإهمال: هو أسلوب تربوي ينشأ عن انشغال الوالدين أو غيابهما عن الابن (أو البنت) فينشأ ولديه شعور بانعدام القيمة وانعدام الحب، ويجد صعوبة بعد ذلك في إقامة علاقة سوية مع الناس، فهو لا يستطيع أن يحب أحداً أو يحبه أحد، وهو فاقد القدرة على الأخذ والعطاء على المستوى الإنساني، لذلك ينشأ ذاتوياً منكمشاً، وإذا حدث وتزوج فهو غير قادر على الاهتمام الوجداني بزوجته وأبنائه، لأن مستقبلات الحب و الاهتمام والرعاية لديه لم تتعود على العمل قبل ذلك في أسرته الأصلية. وهذا الطفل المهمل ربما يميل إلى جذب الإنتباه بأعمال إيجابية أو سلبية فيمكن أن يتفوق دراسياً، أو يتميز في بعض الأعمال لكي ينال رضا وحب الآخرين ويمكن أيضاً أن يكذب أو يسرق أو يعتدي لمجرد جذب الاهتمام وأحياناً نجد هذا الشخص الذي عانى الإهمال في حياته المبكرة يستغرق كثيراً في عمله وينشغل به طوال الوقت ويجد فيه بديلاً وعزاءاً عن التعامل الإنساني الذي لا يجيده ولا يستمتع به، فالأشياء لديه أهم من البشر.
4- النبذ (الرفض): وقد يبدو غريباً للوهلة الأولى أن ينبذ الأب أو الأم طفليهما، ولكن هذا يحدث فعلاً في الواقع ولنضرب لذلك بعض الأمثلة: الأم التي تزوجت رجلاً لا تحبه ولا ترغب في استمرار العلاقة به ربما ترفض ابنها أو ابنتها منه (بوعي أو بدون وعى).... والأب الذي يشك في سلوك زوجته كثيراً ما يرفض أبناءه منها لأنه يشك في انتسابهم إليه... والأم التي أنجبت عدداً كبيراً من البنات ثم رزقت ببنت أخرى وهى لم تكن ترغب في ذلك.. أو الأبوين المشغولين اللذين رزقا طفلاً لم يستعدا-حسب رأيهما - لاستقباله..... الخ، كل هذه نماذج لحالات يمكن أن يعانى فيها الطفل من الرفض (الواعي أو غير الواعي لا فرق)، وهذا الرفض يصل إليه فى صورة معاملة قاسية وعدوان لفظي أو جسمانى أو حرمان مادي أو عاطفي متعمد أو حتى تهديد لحياته، لذلك فهو يعيش في جو غير آمن ولا يستطيع أن يثق في أبويه وبالتالي لا يثق فى أحد أبداً وينشأ قاسياً عدوانياً متسلطاً ويعتبر الرحمة ضعفاً ويحاول جاهداً أن يعلو على الآخرين ويتملكهم بالقوة والسيطرة لا بالحب الذي لا يعرفه.
والكثيرين من الطغاة والجبارين والمستبدين في التاريخ الإنساني كانوا إنتاجاً لهذا النمط التربوى ودفعت الإنسانية كلها ثمناً غالياً لهذا الانحراف التربوي الخطير.
5- التدليل: ويحدث كثيراً من الطفل الأوحد، أو الولد الوحيد وسط أخوات، أو البنت الوحيدة وسط ذكور، أو المولود الذي جاء بعد فترة عقم أو بعد وفاة عدد من الأطفال قبله، أو الطفل الأول أو الأخير... وهكذا.
والطفل المدلل يتعود على درجة عالية من الاهتمام من كل من حوله فهو مركز الأسرة ومحور اهتمامها، وكل طلباته مجابة، وهو يأخذ كل شئ ولا يعطى أي شيء فليس مطلوباً منه أن يعطى يكفى فقط وجوده لسعادة الأسرة، ولهذا ينشأ أنانياً محباً لذاته ومولعاً بها إلى درجة النرجسية، وهو بالتالي غير قادر على تحمل مسئولية الدراسة أو العمل أو الزواج.
وهو حين يتزوج يميل إلى اختيار زوجة تقوم بدور الأم البديلة لكي ترعاه وتلبى كل احتياجاته ويكون غير قادر على العطاء المادي أو الوجداني لها ولأولاده منها فمراكز العطاء عنده لا تعمل لأنها لم تتعود على العمل قبل ذلك، وفى المقابل فإن مراكز الأخذ لديه نشطة طوال الوقت. وقد قرر علماء النفس أن تلبية مطالب الطفل بنسبة أكثر من70% يفسده، فكما أن درجة من الإشباع مطلوبة للتربية السليمة فإن درجة من الحرمان أيضاً مطلوبة.
6- الحماية الزائدة: وغالباً ما تتورط الأم في هذا النمط التربوي خاصة في غياب الأب أو نتيجة لعوامل شخصية فيها مثل الوحدة وعدم الإحساس بالأمان فتسقط هذه المشاعر على طفلها فتحوطه برعاية زائدة وحب خانق وتراقبه في كل حركاته وسكناته ولا تسمح له بالخروج إلا للضرورة القصوى ثم تقف في النافذة تنتظر عودته على أحر من الجمر، ولا تسمح له بالاختلاط بغيره من الأطفال أو النزول إلى الشارع وتسوق لذلك حججاً كثيرة منها أنه يتعلم ألفاظاً نابية من الأطفال أو أنه ضعيف البنية أو أن المنطقة التي يعيشون فيها غير آمنة..... الخ.
وهذا الطفل ينشأ مسلوب الإرادة فاقد للمهارات الاجتماعية اللازمة للحياة، ويعيش في تبعية لأمه ثم لزوجته بعد ذلك فهو يختار زوجة متسلطة (مسترجله) تقوده وتحميه كما كانت تفعل الأم، وهو لا ينضج أبداً بل يظل طفلاً ضعيفاً غير مسئول ولا يستطيع القيام بواجباته المدرسية إلا في وجود الأم بجانبه وأحياناً يظل ينام بجانبها في سرير واحد حتى بعد أن يتجاوز العشرين أو أكثر من عمره. وربما تأتى الأم لتشكو من سلبية ابنها واعتماديته عليها ولكنها بدون وعى تريده أن يبقى هكذا لكي تضمن بقاءه في حضنها مهما كانت النتائج.
وفى بعض الأحيان يتمرد هذا الطفل على أمه أو أبيه في سن المراهقة ويكسر حاجز الحماية الذي نصباه حوله ويصبح عدوانياً وقحاً كرد فعل للحماية الزائدة التي فرضت عليه وربما يبالغ في الدخول إلى كل مجالات الانحراف التي كان يخشاها أحد الوالدين أو كليهما.
7- التربية المتدينة: وفيها يلجأ الوالدان إلى إتباع القواعد الدينية في العملية التربوية، وهما في هذه الحالة يشعران بالأمان التربوى حيث أنهما يعتقدان أنهما ينفذان التعاليم الربانية العليا في تربية طفلهما، وهما يربطان التعليمات التربوية بالتعاليم الدينية وبذلك يتجنبان الصراعات الشخصية مع أبنائهم فالأمر كله لله، وهو الخبير بعباده وبما يصلحهم أو يضرهم لأنه هو خالقهم ونظامه التربوى سبحانه وتعالى هو أفضل النظم على الإطلاق.
ومع كل هذه الاعتبارات السابقة نرى في الأسر المتدينة مشاكل عديدة ليس سببها المنهج التربوي الإلهي وإنما سببها طريقة فهم الآباء والأمهات لهذا المنهج وطريقة تطبيقه في الحياة اليومية لأبنائهم، فكل أب وكل أم يختار من النصوص الدينية ما يتلاءم مع طبيعة شخصيته ويفسرها حسب ميوله واتجاهاته ويطبقها أيضاً طبقاً لهذه الاعتبارات، وربما يبدو هذا منطقياً ومتوقعاً فالتدين في النهاية سلوك بشرى يمكن أن يتفق أو لا يتفق مع المنهج الإلهي؛
ولكن المشكلة في هذا النوع من التربية أن الآباء أو الأمهات حين يخطئون فهم غير مستعدين لتصحيح ذلك لأنهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو الصواب المطلق وأن ماعداه خطأ ولذلك يفتقدون المرونة التربوية بل ويحاولون فرض رؤيتهم الدينية على الأبناء باعتبار أنه لا خيار لأحد أمام النصوص الدينية المطلقة، وفى هذا المناخ إما أن يخضع الأبناء لرؤية الآباء وتفسيراتهم للنصوص الدينية ويصبحون مقلدين في الغالب وإما أن يتمردوا على تلك التفسيرات وربما يتمردوا على كل ما هو ديني لأنه يذكرهم باستبداد والديهم وتحكمهم.
أما إذا كان المنهج الديني والتعاليم الدينية تسرى في جو الأسرة من خلال القدوة الحسنة والنماذج المتوازنة المحبوبة في الوالدين فإن الحالة التربوية تكون في أفضل أوضاعها حيث الإيمان بالله يفتح في نفوس الأبناء آفاقا هائلة للحب والعطاء والرحمة والتسامح والإيثار في جو من القداسة المفعمة بالدفء الوجداني العميق.
8- التربية المتوازنة: وهى التي ترعى جوانب التطور والتكيف في شخصية الطفل، وترعى الجوانب الفردية والاجتماعية، وترعى الجوانب الدينية والدنيوية، وتعطى اعتبارا لاحتياجات الطفل في المراحل العمرية المختلفة وتواكب هذه الاحتياجات المتغيرة بمرونة وفهم، وتهتم بالقدوة أكثر من اهتمامها بالعقاب، وتوازن بين الإشباع والحرمان، وتعطى الفرصة للطفل كي ينمو وينضج ويتطور وفى ذات الوقت يحتفظ بعلاقته الإيجابية بأسرته، وتوازن بين الجوانب العقلية والجوانب الوجدانية والجوانب الروحية.
وهى تربية دينامكية(حركية) بمعنى أنها لا تستند إلى مفاهيم ثابتة وجامدة في كل المراحل وكل الظروف وإنما تتميز بالمرونة والمواكبة وتقدير المراحل والظروف المتغيرة بالضرورة في حياة الطفل.
واقرأ أيضًا على مجانين:
الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو ؟ / الكـذب / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة