الحزب الوطني القديم.. مدرسة في "صناعة الحياة"
لم يكن الحزب الوطني "القديم" الذي أسسه مصطفى كامل في مصر عام 1907 مجرد باعث للروح الوطنية من خلال الخطب الحماسية فقط كما يتصور البعض من خلال ما أوحت به بعض أفلام السينما المصرية أو كتب التاريخ المدرسية، بل إن الجزء الأكبر من نضال ذلك الحزب -حتى من قبل تأسيسه رسميا- كان منصبا على الجهود العملية -السرية والعلنية على السواء- من أجل"صناعة الحياة" في مجالين أساسيين لا ينفك أحدهما عن الآخر بحيث يشكلان معا منظومة متكاملة من: مقاومة التخلف ومقاومة الاستعمار أو بناء النهضة وتحقيق الاستقلال. وذلك من خلال خلقه للمبادرات الأهلية التي تناولت كافة مجالات الحياة، واستهدفت استنهاض ومشاركة كافة فئات المجتمع، ومثلت بواكير ما يعرف بمؤسسات"المجتمع الأهلي" الحديث في مصر.
المدارس العليا.. رأس الحربة
كان طلبة وخريجي "المدارس العليا" (توازي الكليات الجامعية حاليا) هم رأس الحربة وقاطرة حركة المجتمع الأهلي من خلال تأسيسهم "نادي المدارس العليا" يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي: "تفتحت في قلوب الشباب زهرة الوطنية التي أنبتتها دعوة مصطفى كامل وأخذت تجيش بالشعور الوطني وتتحرك نحو أغراضه وأهدافه، وبدأت علائم اليقظة تظهر فيهم بشكل عملي سنة 1905، وكان أول مظهر لهذه الحياة الجديدة أن فكر طائفة منهم في إنشاء نادي للمدارس العليا يجمع بين طلبة هذه المدارس ومتخرجيها" ومن ثم " تألفت لجنة برئاسة الدكتور عبد العزيز نظمي في أكتوبر 1905وقامت بمهمة جمع الاكتتابات بينما روجت "اللواء" للمشروع كثيرا.
وتم أول اجتماع للجمعية العمومية للنادي بهيئة جمعية تأسيسية في الثامن من ديسمبر من نفس العام بإحدى قاعات مدرسة الطب لانتخاب مجلس إدارة للنادي، ووقع الاختيار على عمر بك لطفي ليكون أول رئيس له، وبالفعل افتتح النادي بصفة رسمية في الخامس من أبريل 1906" و"كان هذا النادي من أعظم مظاهر الحركة الوطنية في ذلك العصر، وصار بمثابة معهد وطني علمي أخلاقي تكون فيه جيل من خيرة الشباب المصري، وفيه ظهرت حركة فكرية قومية أنتجت على توالي السنين عدة مشروعات جليلة كان لها فضل كبير على النهضة الوطنية".
والنادي على ذلك يعتبر بمثابة أول اتحاد عام لطلاب مصر، وإن كان قد جمع بين الطلبة والخريجين، ومن ثم فقد نادى الزعيم "محمد فريد من خلال جريدة البلاغ المصري أعداد 13-16 أغسطس 1909 إلى "إنشاء نقابة للطلبة المصريين لتكون بمثابة اتحاد يضمهم ويدافع عن مصالحهم".
"التعليم التحريري" حياة الأمة
كان "التعليم التحريري" هو المحور الرئيسي لتحقيق أهداف الحزب في النهضة والاستقلال، كما نصت عليه لائحة الحزب في البند الخامس: العمل على نشر التعليم في أنحاء الديار على أساس وطني صحيح بحيث ينال الفقراء النصيب الأوفر منه ومحاربة الخزعبلات والترهات ونشر المبادئ الدينية السليمة الداعية للرقي وحث الأغنياء والقادرين على بذل كل المساعدات لنشر التعليم بتأسيس الكليات في البلاد وإرسال الإرساليات في أوربا وفتح المدارس الليلية للصناع والعمال".
وقد اتخذ العمل في هذا المحور عدة أشكال لعل أهمها ما يسمى بـ"مدارس الشعب الليلية": وهي المدارس التي نشأت فكرتها في نادي المدارس العليا، ومن ثم شرع النادي كواجهة علنية للحزب الوطني وجمعياته السرية وفي طليعتها "جمعية التضامن الأخوي "منذ أواخر سنة 1908 في إنشاء مدارس ليلية للشعب لتعليم الفقراء مجانا فأنشأ ببولاق أول مدرسة من هذا النوع وبدأت الدراسة فيها في نوفمبر 1908، وألقى المرحوم أحمد بك لطفي أول درس بها، وموضوعه:(الشئون الاجتماعية)، وكان برنامج هذه المدارس يتناول المواد الآتية: القراءة والكتابة-دروس الدين- قانون الصحة والاحتياطات الصحية-العناية بتربية الأطفال-القوانين الخاصة بالمعاملات اليومية-الشئون الاجتماعية- دروس الأشياء- الحساب- تاريخ مصر والتاريخ الإسلامي- جغرافية مصر- أخلاق وآداب.
وتطوع الشباب من أعضاء الحزب والنادي والجمعية لتدريس هذه المواد، وإلقاء الدروس الليلية على العمال، وبلغ عدد المدارس التي أنشأها الحزب سنة 1909 لتعليم الصناع مجانا أربع مدارس في أقسام: الخليفة وبولاق وشبرا والعباسية، تحوي كل منها نحو مائة وعشرين تلميذا من مختلف الحرف، وانتشرت هذه المدارس في عواصم القطر"
والناظر إلى برنامج تلك المدارس يتأكد له أن المقصود منها لم يكن مجرد تعليم للكبار أو محو أمية القراءة والكتابة وفقط، بل كان تعليما يهدف إلى تحرير عقول المتعلمين، ومن ثم يصبحون أداة لتحرير الأوطان، وهو ما يجعل هذه التجربة أسبق من تجربة باولو فريري، وإن اختلفت عنها بعض الشيء. وقد اتجهت عزيمة الزعيم مصطفى كامل منذ عام 1899 إلى حث الأمة على نشر التعليم الأهلي "لكي تقوى الروح الوطنية في نفوس الجيل الجديد"، وبالفعل تجاوب الموسرون وأسسوا عددا من المدارس العامة، ومدارس الصنائع، وهو ما اعتبره لدى افتتاحه لإحداها بمثابة " الحجج الدامغة على حياة الأمة ووجود من يهتم لأمر تقدمها ونهضتها".
العمال والصنائع الجناح الأيمن للحركة الأهلية
عني الحزب الوطني كذلك بتأسيس نقابات للعمال والصناع لاقتناعه بخطورة انعدام وجود "قوانين خاصة بحماية العمال -في مصر- ولا قوانين تحديد سنهم، ولا عدد الساعات التي يجب أن يقضوها في العمل، مما جعل العمال مثقلي الكواهل بلا رحمة، خصوصا في معامل الدخان ومعامل حلج القطن، حيث يشتغل الأطفال ذكورا وإناثا في وسط من أردأ الأوساط من الوجهة الصحية والأدبية" وذلك كما عبر الزعيم محمد فريد في مقال له عام 1908، ومن ثم أنشأ الحزب ببولاق في ذلك العام (1908) أول نقابة للعمال في مصر باسم (نقابة عمال الصنائع اليدوية) ووضع لها قانونا من القوانين التي وضعت لنقابات الصناع واتخذ لها ناديا بالسبتية تجاه مدرسة عباس، وكان أول رئيس لهذه النقابة على بك عزت ناظر مدرسة الصنائع بالمنصورة سابقا، وقد ازدهرت النقابة وبلغ عدد أعضائها في ختام سنة 1909 نحو ثلاثمائة عضو، عدا الأعضاء المساعدين من غير العمال.
وسرت فكرة تأسيس النقابات في العواصم فأنشئت نقابات لعمال الصنائع اليدوية في الإسكندرية والمنصورة وطنطا وغيرها على مثال نقابة القاهرة. وكانت "مدارس الشعب الليلية" هي الوسيلة لنشر الفكر الخاص بالنقابات بين أهل الصنائع والحرف، كما كانت همزة الوصل بين تلك النقابات والحزب. ومن خلال النادي والمدارس ألقيت العديد من المحاضرات القيمة والتي كانت تصب جميعا في خانة تحقيق أهداف استنهاض الأمة من أجل النهضة والاستقلال، مثال ذلك محاضرة عمر بك لطفي عن أسباب ارتقاء العمال في أوروبا، وكيف يرتقي العمال في مصر.
التعاونيات الزراعية والأهلية جناحها الأيسر
ظهر التعاون في مصر أول ما ظهر سنة 1908، وكان نادي المدارس العليا أول بيئة نشأت فيها هذه الدعوة الصالحة، وذلك على إثر الأزمة المالية التي انتابت البلاد سنة 1907، وبدأت الدعوة إليه في نادي المدارس العليا على يد المرحوم عمر بك لطفي رئيس النادي وأبي التعاون في مصر، وذلك لإيجاد علاج دائم للأزمات الاقتصادية التي تستهدف لها البلاد، فاتجه فكره إلى اقتباس نظام التعاون عن أوروبا، وسافر صيف سنة 1908 إلى إيطاليا باعتبارها من البلاد التي اشتهرت بارتقاء نظمها في التسليف التعاوني، وهناك درس التعاون الزراعي والتعاون في التسليف واجتمع بالسنيور لوزاتي الملقب بأبي التعاون في إيطاليا، فتوافقت آراؤهما ومبادئهما؛
وعاد إلى مصر ممتلئا بحاجة مصر إلى النظام التعاوني، وألقى بنادي المدارس يوم أول نوفمبر سنة 1908 أولى محاضراته عن التعاون شرح فيها مزاياه، وتكلم عن نظام التعاون في التسليف بألمانيا وإيطاليا، والقواعد التي تسير عليها جمعياته وشركاته في تلك البلاد، وختم محاضرته بالحث على إنشاء هذه الجمعيات والشركات، ونصح بالبدء بالتعاون في التسليف لأنه الكفيل بإنقاذ البلاد من آفة الربا الماحقة.
واستمر بعد هذه المحاضرة يدعو إلى التعاون في محاضرات ألقاها في النادي وفي نوادي الإسكندرية وطنطا ودمياط وغيرها، وأسس أول شركة تعاونية وهي شركة التعاون المالي التجارية بالقاهرة التي صارت الآن بنك التضامن المالي، وكان تأسيسها بقتضى عقد ابتدائي في30 ديسمبر سنة 1909، وصدر بها الأمر العالي في 27 يناير سنة 1910، وأسس أول جمعية تعاون زراعية(وكانت تسمى نقابة زراعية) في أبريل سنة1910 بشبرا النملة مركز طنطا وألقى بالنادي يوم 24 مايو سنة 1910 محاضرة عن إنشاء هذه النقابة باعتبارها أول نقابة زراعية أنشئت في مصر، وكانت هذه المحاضرة بمثابة تجديد للدعوة إلى التعاون، قال:
يعتقد بعض الناس أن تفريج الأزمة المالية لا يكون إلا بجلب رءوس المال من البلاد الأجنبية وإقراضها للأهالي حتى تدور حركة الأعمال كما كانت عليه قبل سنة 1907،... وعندي أن أساس الاستقلال والحرية في كل أمة هو الاستقلال الاقتصادي، فالواجب إذا لترقية شئوننا الاقتصادية أن يكون الماضي درسا مفيدا للمستقبل، وأن نوجه اليوم مجهوداتنا كافة لتقوية وتنمية مصادر الثروة المصرية الحقيقية، وعلى الأخص الزراعة، مع تحسين حالة المزارعين حتى تجود أراضينا السخية بالمحصولات الجيدة...، وفي اعتقادي أن هذا لا يتم إلا بإنشاء نقابات زراعية وشركات التعاون والمصارف الأهلية.
"الغناء والتمثيل".. ظهير النهضة والاستقلال
ولأن الحركة الفنية كانت لا زالت حرة أهلية، فقد دعا قانون جمعية "التضامن الأخوي" (الجمعية السرية للحزب الوطني) الصادر في يونية عام 1908 إلى: عمل أدوار أغاني وأناشيد عن الحالة الحاضرة لتغنى في المجتمعات ويحفظها طلبة الكتاتيب والمدارس، وكذا وضع روايات تمثيلية باللغة الدارجة لتمثل في جهات الأرياف لمحاربة الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة، ووضع قصص سياسية باللغة العامية، كما دعا إلى تخصيص فئة من الجمعية بعمل الروايات التمثيلية عن الحالة الحاضرة لتمثيلها، وتأليف الأغاني والأناشيد الوطنية لإذاعتها وإنشادها بواسطة الفرق الموسيقية في أماكن اللهو والترويح عن النفس التي تقصدها جماهير الشعب مع شرح الحالة المؤسفة لوطنهم، ووصف الحالة الحاضرة للأمور في شكل رواية مسرحية تمثل في مدن الريف يلقي بعدها أحد الأعضاء خطبة في نفس الموضوع، وتأليف نشيد يصف الحالة القائمة للأوضاع في شكل ملحمة تغنى في المقاهي.
خريطة النهضة والاستقلال في مدرسة الحزب
هذه إذا خريطة "صناعة الحياة" للنهضة والاستقلال كما وضعت أسسها مدرسة الحزب الوطني "القديم" كما أرساها مصطفى كامل ومحمد فريد وعمر لطفي وغيرهم وغيرهم المئات والآلاف من رجالات الحزب والشعب المعروفين والمجهولين على السواء.. فلنتأملها:
|
المصادر:
0 عبد الرحمن الرافعي، مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الخامسة، 1984.
0 ....................، محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1984.
0 عصام ضياء الدين السيد علي الصغير، الحزب الوطني والنضال السري 1907-1915، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987.
واقرأ أيضًا :
الحصانة الفكرية بين المناعة والمنع / استحضار النية في دراسة اللغات الأجنبية