لم يعرف التعذيب في المخلوقات الأخرى، حتى الحيوانات المفترسة حين تتقاتل فإنها تفعل ذلك من أجل الحصول على الطعام أو حماية إنثاها وذريتها، وهي تكف عن القتال حين يتحقق الشبع ويتحقق الأمان، ولم يعرف عنها ممارستها للتعذيب والاستمتاع به والتفنن فيه كما يفعل البشر.
إذن فالتعذيب صناعة بشرية يمارسه فئة من الناس يتسمون باضرابات في الشخصية، تجعلهم قادرين على تجاوز الحدود المعروفة للرحمة والشفقة والعدل واحترام قدسية الحياة وكرامة الإنسان. والإنسان كائن متفرد، فبقدر استحقاقه للتكريم والرفعة حين يصعد من خلال المنهج الإلهي إلى أعلى مراتب السمو، فإنه في المقابل حين يهبط أو تهبط به غرائزه إنما يصل إلى أعماق سحيقة من الانحطاط والدناءة ولا تعرفها المخلوقات الأخرى ولا تصل إليها.
والإنسان لديه غريزتان هامتان ومؤثرتان هما غريزة الجنس وغريزة العدوان، وهاتان الغريزتان تقعان في الأحوال الطبيعية تحت سيطرة العقل الواعي،(الأنا) والضمير (الأنا الأعلى).
أما إذا ضعفت هذه السيطرة (بتغيب العقل أو تنحية الضمير كما هو الحال في الحضارة الغربية الأمريكية المخمورة المتنكرة لقواعد الأخلاق والضمير) فإن هاتين الغريزتين البدائيتين المتوحشتين تنطلقان بلا ضابط وتتجاوزان كل الخطوط الحمراء في قتل البشر وتعذيبهم واحتقارهم، وربما تغطي كل هذا التجاوز باستخدام كلمات خادعة مثل الاستخدام المفرط للقوة أو الأخطاء الفردية لبعض الجنود. وإذا كنا سنتحدث عن التعذيب وسيكولوجيته فنحن نتحدث عنه بمنظور شامل كعمل بشري بغيض ربما يقوم به المعتدي الخارجي (الأمريكي أو البريطاني أو الإسرائيلي) أو المعتدي الداخلي (حاكم مستبد) ومسئول ظالم، ولا فرق بين الاثنين في بشاعة هذا الفعل، بل ربما يكون الجرح من المعتدي الداخلي من بني جلدتنا أشد إيلاما لنفس المعذبين.
الخصائص النفسية للمعذِّبين:
المعذِّبون (المعذبون بكسر الذال) إما أن يقوموا بذلك بشكل غير مباشر وهو إعطاء الأوامر أو إعطاء الضوء الأخضر أو التغاضي أو التعامي وهؤلاء يمثلون أحيانا قمة الهرم السياسي أو العسكري وغالبا يفلتون من المسئولية لأنهم عادة يكونون على قدر من الحيطة والحذر بحيث لا يسهل وقوعهم تحت المساءلة أو أنهم يدوسون القانون (كما يدوسون آدمية الإنسان) تحت أقدامهم، وإما أن يقوموا به بشكل مباشر وهؤلاء هم المنفذون للتعذيب وغالبا ما يكونون جنودا أو ضباط صف أو ضباطا صغار، وقد يقدمون ككبش فداء إذا انكشفت فضائح التعذيب. وإذا تتبعنا خصائص المعذِّبين النفسية فسنجدها كالتالي:
1 – السادية Sadism: وهي تعني استمتاع الشخص برؤية الآخرين وهم يتألمون وحصوله على نشوة نفسية (وأحيانا جنسية) من القيام بتعذيب الآخرين، وهذه السادية تعتبر اضطرابا شديدا في الشخصية يجعلها تسعى نحو إذلال الآخرين والتنكيل بهم، والشخصية السادية لا تستطيع العيش إلا بهذا الأسلوب. وهذه الصفة قد تكون في الآمرين بالتعذيب أو المنفذين له.
2 – المسايرة: هذه الصفة قد تكون مستغرَبةً ومتناقضةً مع الصفة السابقة، ولكنها ضرورية جدا لمن يقومون بالتعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بالاستلاب والخضوع والمسايرة، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا يعرضونها على عقل واع أو ضمير حي، فهم في هذه الحالة يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم في التعذيب دون بصيرة، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون المنفذون من أصحاب الذكاء المحدود والثقافة الضحلة أو المنعدمة، ومن الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.
3 – الشخصية السيكوباتية (المستهينة بالمجتمع) Dissocial Personality، وهي شخصية مضادة للمجتمع لا تحترم قوانينه ولا قيمه ولا أعرافه، وهي شخصية عدوانية لا تعرف الإحساس بالذنب أو الندم ولا تتعلم من تجاربها السابقة ولا تعرف الشفقة أو الرحمة أو العدل أو الكرامة، وكل ما يهم هذه الشخصية هو تحقيق أكبر قدر من اللذة حتى لو كانت هذه اللذة مبنية على أكبر قدر من الألم الذي يصيب الآخرين.
والسيكوباتي ليس بالضرورة لصا بل أحيانا تجد هذه الصفات في رؤساء أعتى الدول وفي مسئولين كبار، وفي هذه الحالة نجد الصفات السيكوباتية مغلفة بقناع من الدبلوماسية والنعومة ولهذا يطلق على هذا النوع وصف (السيكوباتي المهذب-Decent Psychopath)، وهو أخطر من السيكوباتي العنيف الظاهر العنف لأن الأول يحمل كل صفات السيكوباتية مضافة إليها صفات الخداع والتستر وهذه الشخصية تتسم بالانتهازية والبراجماتية، والقانون والأخلاق لديها كلمات ليس لها معنى أو وجود وهي تستخدمها فقط حين تجد في مصلحتها ذلك.
4 – الشخصية البارانوية (الزورانية) Paranoid Personality، وهي شخصية متعالية متغطرسة ترى في الجميع أعداءً لها، وتتوقع النوايا السيئة والأفعال السيئة من الناس، لذلك فهي تتسم بسوء الظن وتلجأ إلى العدوان الاستباقي أو الوقائي وتبرر هذا العدوان بأنه لحماية نفسها أو غيرها من الإرهاب أو الأذى المتوقع من الغير (الأشرار دائما في نظرها)، وهذه الشخصية تحتقر الآخر وتسحقه إذا استطاعت وبالتالي فلن ترعى له حرمة أو كرامة ولن تأخذها الرحمة أو الشفقة بها لأنها تعتبر الجميع شياطين أو حشرات صغيرة تستحق السحق والتعذيب والإذلال.
5 – التبرير Rationalization، وهو أحد الدفاعات النفسية التي يستخدمها المعذِّبون (من غير الأنواع السابقة) لكي يقوموا بالتعذيب وهم مرتاحو الضمير، فمثلا يعتبرون التعذيب وسيلة مشروعة لتحقيق الأمن لبقية الناس أو لانتزاع اعترافات مهمة تؤدي إلى تحقيق السلام (في نظرهم أو نظر آمريهم وقادتهم)، فهم في النهاية يربطون التعذيب بقيمة وطنية أو أمنية تسمح لهم بقبوله والتفنن فيه.
وسائل التعذيب:
تعددت وتنوعت وسائل التعذيب في الثقافات المختلفة من الضرب إلى الكي بالنار إلى غمس الرأس في الماء شديد البرودة أو شديد السخونة، إلى وضع الرأس في كيس ملئ بالفئران أو الثعابين، إلى منع الشخص من النوم، إلى تعليقه من رجليه في سقف لفترة طويلة، إلى الاعتداء عليه جنسيا أو الاعتداء على زوجته أو ابنته، إلي صعقه بالكهرباء إلى إطلاق الحيوانات المتوحشة عليه...الخ.
وهناك خبراء في التعذيب يجمعون بين دراسة علم النفس ودراسات أمنية وسياسية أخرى، وهؤلاء الخبراء يضعون أنفسهم في خدمة الطغاة والمستبدين ليحققوا لهم السيطرة على خصومهم من خلال معرفة نقاط ضعف الإنسان والنفاذ منها والتأثير عليه من خلالها.
وقد جمع علماء النفس العوامل المشتركة في وسائل التعذيب فوجدوها كالتالي:
1 – تحقيق أكبر قدر من الألم لدى الضحية (المعذَّب): وذلك بالتأثير على جهازه العصبي الطرفي بكل الوسائل المتاحة كالضرب والكي والصعق وغيرها، وهم يحرصون على تجاوز حدود احتمال الضحية للألم لكي تنهار دفاعاته ولذلك يقومون بعمل زيادة تصاعدية لحدة الألم حتى ينهار الضحية نفسيا أو يموت نتيجة صدمة الألم وهم لا يعرفون متى سينهار ولا متى سيموت لذلك يحدث هذا أو ذاك في أي لحظة.
2 – غياب السقف الزمني، وذلك من خلال الإيحاء للضحية بأن تعذيبه مستمر إلى ما لا نهاية، ولهذا يفقد الأمل في الخلاص وهذا يساعد على انهيار دفاعاته ومقاومته.
3 – غياب سقف الوسائل، وذلك من خلال تنويع وسائل التعذيب ومفاجأة الضحية بوسائل لا يعرفها وهذا يجعله يصاب بما يسمى بقلق التوقع Anticipation Anxiety، فهو يتوقع في كل لحظة ما هو أكثر إيلاما وبشاعة.
4 – الاستباحة الجسدية: وذلك من خلال تعريض هذا الجسد لكل أنواع الإيذاء بما يوحي بالرغبة في تدميره تماما في أي لحظة دون اعتبار لحرمته أو لسلامته.
5 – الاستباحة النفسية: ويتم من خلالها تجاوز كل الخطوط الحمراء لدي هذا الشخص، فإذا عرفوا عنه مثلا اعتزازه بنفسه أهانوه وأذلوه حتى ينكسر كبرياؤه وتتحطم كرامته، وإذا عرفوا عنه اعتزازه بشرفه وأخلاقه اعتدوا عليه جنسيا ليوصلوه إلى الإحساس بالخجل والعار، وإذا عرفوا عنه حبه لزوجته وأولاده جاءوا بهم واستباحوهم جسديا ونفسيا وجنسيا أمام عينه حتى تنهار مقاومته.
الآثار النفسية للتعذيب:
تتوقف تلك الآثار على شدة التعذيب وتنوعه وتتوقف أيضا على شخصية الشخص الذي يقع عليه التعذيب، وعلى وجود وسائل دعم بعد تخلصه من التعذيب.وبشكل عام يمكن أن نوجز هذه الآثار فيما يلي:
1 – انهيار الافتراضات الأساسية لدي الشخص الذي وقع عليه التعذيب (Breakdown of Basic Assumptions) فقد كان يعتقد فيما سبق أن للجسد حرمة وللنفس حرمة وللإنسانية كرامة، وكان يعتقد في وجود الرحمة والشفقة والعدل، ولكن بعد التعذيب الشديد تهتز كل هذه الافتراضات، وتهتز معها ثوابت كثيرة وقيم متعددة، ويهتز بنيانه النفسي بأكمله ويعيش سنوات بحثا عن صيغة جديدة تفسر ما حدث وتساعده على استيعابه في بنائه الفكري والوجداني في الوصول إلى ذلك ويعيش ما تبقى من عمره بقايا إنسان، خاصة إذا كان طفلا أو شابا صغيرا.
2 – كرب الصدمة أو الكرب التالي للرضح(Post –Traumatic Stress Disorder)، وهو اضطراب يقع لمن تعرضوا لأحداث مروعة عرضتهم للتهديد الشديد أو الحظ الداهم المهدد لحياتهم أو سلامتهم وهنا نجد الشخص يستعيد ذكرى التعذيب في أثناء يقظته وكأنه شريط سينمائي أو يستعيده في أحلامه، وكلما رأى أو سمع شيئا يذكره بهذه الأحداث فإنه يشعر وكأنها تحدث في اللحظة والتو، وهو يحاول تجنب كل ما يذكره بها. بالإضافة إلى ذلك فإنه يصاب باضطراب في الجهاز العصبي يجعله شديد الحساسية لأي مؤثرات بصرية أو سمعية فنجده يرتجف لسماع أي صوت أو رؤية أي شيء.
3 – الاكتئاب (Depression): وهو يحدث حين يشعر الإنسان المعذب بفقد الحيلة وفقد الأمل في القصاص وضياع كرامته أو كرامة من يحبهم فيصاب بحالة من الحزن وفقد الشهية للطعام ولكل شيء وعدم الإحساس بمعنى الحياة واضطراب النوم وربما تساوره بعض الأعراض الذهانية كوهامات الاضطهاد أو الهلاوس.
4 – الاضطرابات النفسجسدية: (Psychosomatic Disorders) وتأتي في صورة اضطرابات في الجهاز الهضمي أو الجهاز الدوري والقلب أو الجهاز التنفسي أو الجهاز التناسلي أو غيرها، وهذه الاضطرابات تأخذ صورة الأعراض الجسمانية المختلفة، وهي تحدث حين يتم كبت مشاعر الغضب ومشاعر العدوان تجاه ما حدث للشخص من تعذيب.
5 – الاتجاه للعنف والرغبة في الانتقام (Aggression & Tendency To Revenge) وهذا يحدث حين يجد الشخص المعذب فرصة للتعبير عن كل مشاعر الغضب والانتقام تجاه من قام بتعذيبه وربما تتفجر داخله مشاعر هائلة للعنف والعدوان تفوق بكثير ما تعرض له من ظلم.
التوصيات:
ولكي لا يواجه أحد من البشر أيا كان لونه أو جنسه أو دينه هذا الموقف شديد الصعوبة فإن على عقلاء الإنسانية أن يضعوا من القوانين ما يردع الشخصيات المضطربة أيا كان مستواها السياسي والاجتماعي عن ممارسة اضطرابها من خلال تعذيب الآخرين تحت أي دعوى أو مسمى أو تبرير، وهذه القوانين تطبق على الحكام والمحكومين على السواء وتقدم على تقديمها جهات دولية محايدة ومحترمة كمحكمة العدل الدولية أو محكمة مجرمي الحرب أو ما نقترح تسميتها (محكمة مجرمي التعذيب)
وهذه المحاكم أو اللجان الدولية المحايدة والملتزمة بالشرعية الدولية ومواثيق الأديان والأخلاق يكون لها حق التفتيش المفاجئ على معسكرات المعتقلات والسجون وأقسام الشرطة في كل جزء من العالم وكتابة تقارير ترفع لمحكمة عليا تقوم بإصدار أحكامها التي يلتزم مجلس الأمن (بعد تخليصه من الهيمنة الأمريكية وغيرها) بتنفيذها.
ويلحق بذلك تشديد العقوبات ليس فقط على من يقومون بالتعذيب بشكل مباشر من الجنود وصغار الضباط وإنما علي كل من أصدر أمرا أو أعطى ضوءا أخضر أو تقاضى أو تعامى أو ساهم بأي شكل في حدوث هذه الجريمة البشعة. وهذه الجريمة كما هو معروف في أغلب الدساتير والقوانين لا تسقط بالتقادم وتظل تلاحق مرتكبيها مهما مرت عليها السنون، ولابد وأن يسبق هذا ويواكبه تدريس مادة حقوق الإنسان لطلبة المدارس وطلاب كليات الشرطة والكليات العسكرية، وتدريس أحكام القوانين الخاصة بانتهاك تلك الحقوق وارتكاب جريمة التعذيب أو غيرها.
وإذا كانت الأديان كلها تعطي قداسة وحرمة لحياة الإنسان وكرامته وسلامته، فإن إيضاح ذلك لعامة الناس وخاصتهم يعمق في وعيهم قيمة الحياة وقيمة الكرامة الإنسانية ويربط كل ذلك بالعقيدة الدينية وبمنظومات القيم والأخلاق التابعة منها.
واقرأ أيضًا:
الحوار وقاية من العنف / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / سعاد حسنى والجرح النرجسي / سيكولوجية الاستبداد (1)