مقدمــة
حين شرعت في كتابة هذه الدراسة كانت تملأ وعيى صور الاستبداد داخل النفس (تحكم أحد المستويات أو الكيانات النفسية في المستويات أو الكيانات الأخرى)، والاستبداد داخل الأسرة (أب مستبد أو زوج مستبد أو أخ أكبر مستبد أو أم مستبدة)، والاستبداد داخل المجتمع (مدرس مستبد أو مدير مستبد أو مسئول مستبد أو رجل دين مستبد). وكانت تمر من أمامي صور مرضاي المساكين ضحايا ألوان الاستبداد التي ذكرتها وأتذكر كيف كانت آلامهم وهم يعانون القهر والإذلال تحت سطوة شخص مستبد وهم لا يجدون مخرجاً أو مهرباً، وأتذكر كيف كانت نفوسهم تبدو مشوهة من كثرة ما تعرضوا لمطارق الاستبداد الغليظة.
وفجأة وجدت صورتي تمر من أمامي وسط ضحايا الاستبداد فتذكرت (وما كنت قد نسيت) أنني كنت ضحية استبداد رئيس قسم وأستاذ جامعي مستبد (للأسف الشديد) في أحد الجامعات الإقليمية، وكان دكتاتوراً ظالماً، دفعت من عمري سنوات عديدة بسبب ظلمه واستبداده، وقد انتهت حياته بفضيحة أخلاقية (مدوية) قبل موته بأسابيع نشرتها الصحف والمجلات،
ولم أكن أنا ضحيته الوحيد بل كان له كثير من الضحايا حاربهم في مستقبلهم العلمي وظلم وشرد كثيرا من الناس وكانت مكانته كأستاذ جامعي ورئيسا للقسم تعطيه القدرة المطلقة على ذلك وتغلف اضطراباته النفسية وتشوهاته الخلقية التي كانت معلومة من الجميع ومسكوت عليها من الجميع. وقد كان ذلك في بداية حياتي العلمية والعملية وأصابني بصدمة شديدة فقد وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام طاغية مستبد يظلمني بقدرته، ولا يجد من يقول له توقف عن ذلك.
ومن يومها وأنا أعي معنى الاستبداد وقسوته وخطورته ولا أقبله أبداً تحت أي مسمى أو أي لافتة، وأدعو ليل نهار بلساني وقلمي وسلوكي إلى الحرية والعدل والمساواة للجميع دون تفرقة على أساس اللون أو العرق أو الدين أو أي اعتبارات أخرى. ولم يدر في بالى في بادئ الأمر الاستبداد السياسي ربما لبعدي عن هذا المجال وعدم إشتغالي بالسياسة، على الرغم من معاناتي الشخصية أيضاً من هذا الاستبداد في مراحل معينة من حياتي.
ولا يتوقف الأمر على المعاناة الشخصية في هذا المجال مهما عظمت وإنما يمتد ليشمل معاناة أمة بأكملها من مرض يحتاج لعلاج فالكل معرض للإكتواء بناره، إضافة إلى كونه عائقاً أمام التفكير الحر والإبداع والعمل الخلاق والنمو والتطور في كل المجالات.
وعلى الرغم من ارتباط كلمة «الاستبداد» في وعى الناس بالاستبداد السياسي إلا أنه إفرازاً للاستبداد على مستوى النفس ومستوى الأسرة ومستوى المدرسة ومستوى دور العبادة ومستوى المؤسسات الاجتماعية، ولذلك وجب التنويه لذلك والتحذير من اختزال الاستبداد في هذا المجال دون سواه.
وأنبه القارئ الكريم إلى أنني أعالج موضوع الاستبداد من جانبه النفسي فقط ولذلك أنصح باستكمال باقي الجوانب في دراسات متخصصة أخرى.
وأتمنى أن تكون هذه الدراسة لبنة في بناء الحرية التي نتوق إليها جميعاً لتتحقق بها إنسانيتنا ونجنب أبناءنا ما عاناه جيلنا من ويلات الاستبداد، ولنفتح النوافذ للإصلاح الشامل في كل نواحي حياتنا.
0 الحرية أصل.. والاستبداد مرض:
الحرية هي الأصل في الوجود الإنساني، وقد تفرد الإنسان بها من بين المخلوقات، فقد خلقه الله قادراً على فعل الخير وفعل الشر (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان 3) (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد:10)، وأعطاه حرية الاختيار كاملة، ومنحه الإرادة لفعل هذا أو ذاك ثم جعله مسئولاً عن خياراته في الدنيا وفي الآخرة.
وبهذا التكوين الحر الناضج المسئول استحق الإنسان التكريم على سائر المخلوقات. ولم يضمن الله الحرية للإنسان فقط بل ضمنها أيضاً لإبليس فمنحه الفرصة للاعتراض على أمر السجود لآدم ولم يشأ سبحانه أن يقهره على السجود، ولو أراد لكان فلا راد لأمره، ولم يكتف بذلك بل منحه فرصة إلى يوم القيامة يمارس فيها دوره الذي ارتضاه لنفسه فأسس حزب الشيطان والذي أنضم إليه ملايين من الأنس والجن بكامل حريتهم.
وأرسل الله الرسل تترى إلى البشرية ليبلغوهم كلمة الله وليؤسسوا حزب الرحمن الذي يضم المؤمنين من البشر، وليصححوا للناس معتقداتهم، ولينشروا الحق والخير والعدل في الأرض في مواجهة حزب الشيطان الذى ينشر الباطل والشر والظلم في الأرض، ومع هذا فقد علم الله رسله درساً هاماً في الحرية في أعلى مستوياتها وهى حرية الاعتقاد الديني حيث قرر بوضوح لا لبس فيه أنه:[ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [البقرة : 256].
وسيدنا نوح عليه السلام لم يشأ أن يقهر ابنه على الاعتقاد فيما يعتقده ولكنه حاوره وحذره ثم تركه يقرر ما يريد رغم علمه بأن ما يريده ابنه فيه هلاكه في الدنيا (الغرق) وهلاكه في الآخرة (جهنم)، ولكن نوحاً يعلم مراد الله من البشر ويعلم قيمة الحرية التي منحها الله الإنسان حتى إذا عبده كان ذلك عن طواعية وحب وليس عن قهر وخوف، والحرية على المستوى النفسي ضرورة للنمو النفسي الطبيعي ولتطور الوظائف النفسية وبالتالي لنمو وتطور الحياة، فهي التي تعطى فرصة للتفكير الحر وللإبداع الحر وللعمل الخلاق الذي يثري الحياة وينميها ويطورها.
ومن هنا يصبح الاستبداد مرضياً إنسانياً واضطراباً نفسياً لكل من المستبد (بكسر الباء) والمستبد (بفتح الباء) به فهو يشوه الطرفين ويشوه البيئة ويلوثها بكل أنواع الفساد. ولهذا نجد أن الأديان السماوية والحركات الإصلاحية الفلسفية والاجتماعية والسياسية حرصت في كل مراحل التاريخ على علاج هذا المرض العضال الذي يعصف دائماً بمكتسبات الحضارة الإنسانية ويحدث – كما ذكرنا – تشويها لفطرة البشر وتلويثاً للبيئة الإنسانية بكل ألوان الانحراف والفساد، فالاستبداد هو مصدر الكثير من المفاسد الفردية والجماعية.
ويبدو أن المجتمعات العربية والإسلامية على وجه الخصوص قد أصابها من هذا المرض العضال الكثير ومازال حتى الآن، فعلى الرغم من أن المجتمعات البشرية الحديثة قد انتبهت إلى خطر هذا المرض وكافحت كثيراً حتى وضعت الضمانات والآليات لمنع انتشاره في صورة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي صورة الأنظمة الديمقراطية المختلفة، وقبل هذا كله في صورة ثقافة الحرية والعدل والمساواة، على الرغم من كل هذا الذي حدث في المجتمعات المتقدمة حولنا، إلا أننا مازلنا نعانى الكثير من أعراض هذا المرض لدرجة أن العالم الخارجي (سواء بحسن نية أو بسوء نية) قد أصبح يعتبرنا مرضى نحتاج لتأهيل سياسي واجتماعي ونفسي حتى نرتقي إلى مستوى العالم الحر من حيث اعتناق قيم الحرية وحقوق الإنسان ومن حيث تطبيق الديموقراطية كآلية لمنع انتشار فيروس الاستبداد الكامن فينا مرة بعد مرة.
وقد حاولت دعوات الإصلاح قديماً وحديثاً علاج هذا المرض، فقديماً كتب عبد الرحمن الكواكبي عن«طبائع الاستبداد» فشخص المرض ووضع العلاج، ولكن كلماته وصرخاته ذهبت أدراج الرياح، وحديثاً حذر المصلحون في الداخل دون جدوى، ويضغط علينا النظام العالمي الجديد لقبول العلاج حتى لا نصبح بؤرة مرضية في المجتمع الإنساني.
وفي المقابل تجرى محاولات الإنكار والالتفاف حول جهود الإصلاح ومحاولات العلاج بإدعاء أننا لسنا مرضى إلى هذا الحد وبادعاء أن الديموقراطية نظام غربي لا يصلح لمجتمعاتنا الإسلامية وبادعاء أن الحرية تعنى الانفلات من القيم والعادات والتقاليد العربية والإسلامية، وبادعاء أن لنا خصوصية يجب المحافظة عليها وأن الحرية والديموقراطية تهددان هذه الخصوصية، وفي الحقيقة هذه تبريرات يسوقها المريض لكي لا يتناول الدواء.
ويخطئ من يعتقد أننا نتحدث عن الاستبداد على المستوى السياسي في أنظمة الحكم فحسب، وإنما نحن نتحدث في هذه الدراسة عن كل مستويات الاستبداد في النفس والأسرة والمجتمع المحلى والمجتمع الدولي، ونتناول هذا المرض من جانبه النفسي أساساً والذي نعتقد أنه عنصر أساس في تغلغل هذا المرض وانتشاره، حيث يبدو أن لدينا خللاً في منظومتنا الفكرية سمح لتغلغل فيروس الاستبداد في نفوسنا وأدى إلى تأخر العلاج حتى الآن وإلى رفض الدواء القادم من الداخل ومن الخارج على حد سواء، بل وأدى إلى فقد البصيرة حيال هذا المرض لدى قطاع كبير منا فلم يعد يشعر بأعراض المرض أو يشكو منه أصلاً، فنحن مجتمع أبوي يقوم على فكرة أن الكبير يعرف كل شيء ويملك كل شيء والصغير جاهل غرير لا يعرف أي شيء ولا يملك أي شيء (في بعض المجتمعات العربية يطلقون فعلا على الطفل والمراهق لقب "جاهل" ويتعاملون معه من هذا المنطلق).
0 منظومة الحرية:
نتحدث كثيراً عن الحرية وعن الديموقراطية وعن الشورى، وغالباً ما يكون حديثنا مرسلاً أو غير محدد المعالم وبالتالي تصبح هذه الأشياء أمنيات وأحلام يبعد أن تتحقق في الواقع، ولكي ننجو من هذا المصير علينا أن نتعرف على منظومة الحرية بشكل منهجي حتى إذا سعينا إليها كان سعينا راشداً ومثمراً.
ومنظومة الحرية هي عبارة عن سلسلة متماسكة الحلقات تبدأ بمفهوم الحرية ثم مفهوم المساواة (المواطنة) ثم آلية تحقيق هذين المفهومين (الحرية والمساواة) ثم نتيجة كل هذا وهو صلاح الحياة. ولنأخذها بشيء من التفصيل حسب ما تقتضيه حدود هذه الدراسة.
1- الحرية: الحرية ليست مطلباً سياسياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً فحسب وإنما هي ضرورة وجودية ارتبطت بالنشأة الأولى للإنسان. وإذا عدنا إلى المشهد الكوني الذي تم فيه إعلان خلق الإنسان لوجدنا أن هذا المشهد تضمن إعلاناً مدوياً لمبدأ الحرية، ويتبدى ذلك في الحوار الحر بين الله والملائكة وحتى بين الإله القادر العظيم وبين إبليس.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة :34]
وتبدو قمة الحرية في إعطاء إبليس الفرصة للتعبير عن رأيه حتى وهو يتمرد على أمر الله بالسجود ولو شاء الله لقهره على السجود ولكنه درس عميق في الحرية وفي احترم الاختيار وفي تحمل مسئولية المخلوق لنتائج خياراته.
وخلق الإنسان نفسه بما يحمله من قدرة حره على فعل الخير أو الشر وهديناه النجدين، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً كل هذا كان إعلاناً كونياً مدوياً لمولد الحرية كمكون أساس في الإنسان وكضرورة نفسية لوجوده ككائن يملك الاختيار ويملك الإرادة لتنفيذ خياراته ويتحمل مسئولية ذلك. وقد ضمن الله سبحانه وتعالى هذه الحرية للإنسان حتى ولو استغلت هذه الحرية في معصية الله والخروج عن أمره.
وقد تأكد مفهوم الحرية حين أعلن الله سبحانه وتعالى مبدأ عدم الجبر في الاعتقاد {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة 256 ).. {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...}(الكهف 29). وإذا كان الله قد منحنا الحرية في الاعتقاد وحملنا مسئولية الاختيار، فمن باب أولى نكون أحراراً فيما دون ذلك.
إذن فالحرية ليست ترفاً في حياة الإنسان وليست من كماليات حياته وإنما هي من أساسيات وجوده، ولا تتحقق رسالته التي أرادها له الله إلا إذا تحققت حريته، فالمجبر غير مكلف وغير مسئول بالمعنى الكامل. وتبنى مفهوم الحرية (سواء كان مفهوماً فلسفياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً) لا يكفي لتحقيقها وإنما يلزم وجود بقية مستويات المنظومة.
2- المساواة (المواطنة): هذا المبدأ غاية في الأهمية في منظومة الحرية، وهو يعنى أن البشر كل البشر متساوين في الحقوق والواجبات ومتساوين في حقهم في الحرية، فكلهم من خلق لله. وهذا المبدأ حين يتحقق يستبعد حق إنسان في استعباد إنسان آخر على قاعدة أفضلية عرقية أو طائفية أو غيرها، فالجميع لهم حق الحياة ولهم حق المشاركة، بمعنى أن الجميع لهم حق المواطنة في الدولة أو في الأمة أو في الأسرة البشرية كلها. وحين يختل هذا المبدأ يعتقد بعض الناس أنهم جديرون بالحرية دون غيرهم وأنهم فوق من يعتقدون أنهم دونهم وهنا تبدأ بذور القهر والاستبداد.
3- الشورى (أو الديموقراطية): وهى آليات لتنفيذ مفهومي الحرية والمساواة، وهذه الآليات تتشكل حسب الظروف فيمكن أن تأخذ صورة أهل الحل والعقد، أو صورة البيعة، أو صورة الانتخابات. وقد مرت البشرية بتجارب كثيرة سعياً نحو أسلوب أمثل لتحقيق مبادئ الحرية والمساواة ووصلت إلى نجاحات نسبية ولا نقول مثالية لذلك، فوضعت النظم والدساتير والآليات التي تمنع الاستبداد وتحافظ على الحرية. وهذه الآليات ليست هدفاً في حد ذاتها وإنما هي وسائل لتحقيق الحرية قدر الإمكان في حياة البشر وبالتالي يمكن أن يتم تطويرها وتعديلها من وقت لآخر.
4- الصلاح: وبما أن الحرية والمساواة والشورى (أو الديموقراطية) ليست مفاهيم فلسفية مجردة وإنما هي مبادئ وأسس لصلاح الحياة فلابد وأن يتحقق هذا الهدف كثمرة لكل ما ذكرنا. وإذا حدث ولم يتحقق هذا الصلاح (عمارة الأرض) فلابد من مراجعة المفاهيم والوسائل السابقة للوقوف على مصدر الخلل.
منظومة الاستبداد:
وهي تتضمن صفات المستبد (بكسر الباء) والمستبد (بفتح الباء) بهم (المستعبدين) وطبيعة العلاقة بينهما، والبيئة التى يعيشون فيها.
2- الاستخفاف: وفي داخل نفس المستبد استخفاف واحتقار لمن يستبد بهم، ويزيد هذا الشعور بداخله كلما بالغوا هم في طاعته ونفاقه والتزلف إليه لأنه يعلم بداخله كذبهم وخداعهم، ويعلم زيف مشاعرهم، ويشك في ولائهم وإخلاصهم، كما أنه من البداية يشك في قدراتهم وملكاتهم وجدارتهم، وبالتالي يصل في النهاية إلى الشعور بالاستخفاف بهم. وكلمة الاستخفاف التي وردت في القرآن الكريم{فاستخف قومه فأطاعوه} [القصص4] تحمل في طياتها معاني الاحتقار والاستهزاء والإذلال والاستغلال.
3- الجبروت والعناد: فالمستبد جبار متجبر عنيد وهى صفات متصلة ببعضها لأن جذورها في النفس واحدة، فالمعنى اللغوي للجبّار"هو الذي يقتل على الغضب" وتجبَّر الرجل بمعنى تكبر (مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي المتوفى سنة 666 هجرية –دار الجيل– بيروت– لبنان ص91،90 طبعة عام 1407هـ 1987م).
فمنظومة الاستبداد تبدأ بالتكبر والاستعلاء الذي يصل إلى درجة التأله، ومن هنا كان بغض الله للمستبد وسخطه عليه لأنه ينازعه صفة الجبار وينازعه الألوهية بصفة عامة، وينازعه نفاذ الأمر الذي لا يبدل ولا يغيَّر، ولهذا توعده العذاب الشديد، فعن أبى موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله علية وسلم قال: «إن في جهنم وادياً، وفي الوادي بئر يقال له هبهب، حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد» (راوه الطبراني بإسناد حسن كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في: المجمع 5/197 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4/332 ).
وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلي الله علية وسلم قال: «ستكون أئمة من بعدى يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يتفاحمون في النار كما تفاحم القردة» [رواه أبو يعلى والطبراني، وذكره في صحيح الجامع الصغير برقم 3615 ]. وواضح من طريقة العذاب عظم الجرم الذي يقع فيه كل طاغية ومستبد ودكتاتور في أي موقع وعلى أي مستوى.
والمتكبر لا يحتمل اختلافاً في الرأي، بل لا يسمح من البداية أن يكون هناك رأياً آخر يزاحمه لأن هذا الرأي الآخر يعتبر قدحاً في تألهه وجبروته فهو يفترض أنه على صواب دائماً وأن ما يراه هو الحق المطلق، وبالتالي فهو يعتبر أن صاحب الرأي الآخر سفيهاً أو مضللاً ومتعدياً على مقامه الأرفع ومن هنا يكون غضبه شديداً يصل إلى درجة قتل المخالف مروراً بتعنيفه أو سجنه أو تعذبيه أو نفيه. والمتكبر دائماً وأبداً عنيد لأنه يفترض أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وبالتالي لا يقتنع برأي آخر ولا يريد أصلاً ولا يقبل أن يكون هناك رأى آخر.
4- الفسق: ومع استمرار السلوك الاستبدادي يتحول الناس (المستبد بهم) إلى كائنات مشوهه وذلك من كثرة الأقنعة التي يلبسونها لإرضاء المستبد فيتفشى فيهم النفاق والخداع والكذب والالتواء والخوف والجبن وتكون النهاية كائنات مشوهه خارجة عن الإطار السليم للإنسان الذي كرمه الله، والقرآن الكريم يصفهم بالفسق، والفسق هنا كلمة جامعة لكل المعاني السلبية التي يكتسبها الخاضعون للمستبد فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين [الزخرف 54].
5- الفساد: وحين تجتمع الصفات السلبية للمستبد مع الصفات السليبة للمستبد بهم تكون النتيجة بيئة مليئة بالفساد "وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ" [الفجر10-12] فالفساد نتيجة طبيعية ومباشرة للاستبداد مهما كانت مبررات الاستبداد ومهما كانت اللافتات التي يتخفي وراءها لأن الاستبداد تشويه للتركيبة النفسية للمستبد وتشويه أيضاً للتركيبة النفسية للمستبد بهم وبالتالي يحدث تشويه للبيئة التي يعيشون فيها، وكأن الاستبداد أحد أهم عوامل التلوث الأخلاقي والبيئي في الحياة.
6- الضلال: ونظراً لمحدودية رؤية المستبد وتشوه تركيبته النفسية منذ البداية ثم زيادة هذا التشوه نتيجة تضخم ذاته بالمدح والثناء من المستعبدين (بفتح الباء)، ورفضه للاسترشاد برؤى الآخرين، وإصراره العنيد على إنفاذ أمره وحده فإن النتيجة هي قرارات خاطئة في كل المجالات «فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد».
7- الهلاك: والنتيجة المنطقية لتشوه المستبد وتشوه المستبد بهم، وفساد البيئة التي يعيشون فيها معا هي الهلاك المحقق، فما من مستبد إلا ووصل بجماعته إلى الهاوية فضاع وضاعوا معه «إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ0 يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (هود 97/98).« فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» (القصص 40).
والهلاك ليس فقط في الآخرة وإنما يسبقه هلاك في الدنيا، وهلاك منظومة الاستبداد ليس قائماً فقط على اعتبارات أخلاقية أو دينية وإنما هو سنة كونية وقانون حياتي لأن الاستبداد يسير ضد تيار الحياة الإنسانية وهو تشويه للفطرة (للمستبد والمستبد بهم) ولذلك فلا يمكن أن يستمر طالما قُدِّر للحياة أن تستمر وتنمو وتتطور، فالمستبد مثل أي ميكروب أو فيروس يدخل الخلية ويوجه نشاطاتها لخدمته وفي حالة عجز الخلية عن اكتشافه ومقاومته بجهاز المناعة لديها فإن المآل الحتمي هو ضد قانون تطور الحياة ونموها.
ويتبع >>>>: سيكولوجية الاستبداد (2)
واقرأ أيضًا:
الحوار وقاية من العنف / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / سعاد حسنى والجرح النرجسي