المصريون والعفاريت(1)
(هذا الموضوع حقيقي وواقعي مع بعض التصريف حرصاً على السرية)
جلس الشاب البالغ من عمر خمسة وعشرين عاماً أمام أمه وقال في صوت خفيض (أَمّه.. أَمّه.. أنا... أناناس) شهقت الأم، قامت من قعدتها، بصقت في (عِبّها) من فتحة جلبابها في صدرها ثم تمتمت (بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم الله الرحمن الرحيم) سلامتك يا بني. جَرَالك إيه.. بِعد الشّر عنك.. وَضَعت يدها على جبهته فلم تجده (سُخناً).
عاد الشاب ليقول (أَمَه.. أَمَه.. أنا.. أناناس)، عندئذٍ صرخت الأم بأعلى صوتها وقالت (يااااا لهوي)، سمعت صرختها الجارة العجوز، فجاءت مهرولة، ثم بدأت الطقوس، البخور، وتلاوة القرآن، تبادلت النسوة الأحجبة والتعاويذ، وتبرع الحاج متولي وأحضر الشيخ (برقوق) ليستخرج العفريت (أناناس)... كانت الضجة كفيلة بأن ينهدّ حيل الولد.. والحركة كانت شديدة كسرت مقاومته فتنهد ونام.
عندئذ تفرق الجمع شاكرين للشيخ (برقوق) مجهوداته وبركاته، ابتسم وهو يتحسس لحيته بعد أن دسّ الحاج متولي في جيبه بعض المال.. خرج وهو يبسمل مؤكداً أن العفريت (أناناس خرج ولن يعود).
نامت الأم ملء عينيها وما أن طلع الصباح حتى ظلّ الشاب مطرقاً لا يتكلم، نظرت إليه الأم في رعب حقيقي وخشت أن يعود العفريت (أناناس)، وضعت يدها على كتفه وقالت له (ماَلَك يا روح أمك، ماََلََكْ يا ضَنايا.. عين وصابتك، والله البت المدعوقة اللي كنت خاطبها عملت لك عَمَلْ؟!). مضغ الشاب لقمتين، وشرب قليلاً من الشاي ثم همس في أذن أمه (أَمّه أنا حاسس إني مش طبيعي، أنا تعبان يامّه، عايز أروح لدكتور نفساني).
نَدّت عن الأم صرخة مكتومة وقالت (نفساوي.. ليه يا بني بِعْد الشرّ.. إنت مش مجنون.. كل الحكاية أن العفريت أناناس ده معكنن عليك، قارفك في عيشتك). قامت وهي (تبرطم) تبحث عن (عين العفريت المخلوطة بالبخور والملح الرشيدي) أضرمت فيها النار... لم ينطق الولد ببنت شفة كان قد حزم أمره، دبر نفسه، حجز موعده، وذهب، ودخل على الدكتور النفساني وجلس أمامه قائلاً: دكتور .. أنا أناناس. ابتسم الطبيب ابتسامته المعهودة. أومأ برأسه وشرع بسأل الشاب أسئلة تحليلية عِدّة، تنهد بعدها الولد.
قال الشاب: [باحس أني أناناس فعلاً بحس إني مقبل على الحياة ومابقاش مقبل على الحياة، ساعات أبقى بحب الدنيا وساعات لأ، ساعات أحب شكلي وساعات لأ، حاسس إني أناناس، ساعات أحب وساعات ماحبش، أنا في حيرة وشك وارتباك وتشوش.]
ثم أخرج هَمّه في زفرةٍ قوية، منصتاً في اهتمام إلى رأي الدكتور ـ أنت مش يا بني قلت أن أناناس ده هو شخصية إسماعيل يس في أحد أفلامه، لما كان تعبان وحيران ومش عارف يعمل إيه، يلبس دي واللا يقلع دي، يحب واللا يكره، ينام واللا يقعد، يروّح واللا يمشي.. يعني كأن كلمة أناناس دي.. هي أنا. (ناس) وساعات تكون (ناس) تانية. معناها حالة التناقض الوجداني..
ثم نطقها بالإنجليزية (Ambivalence) يعني، المشاعر وعكسها الرغبة وضدها، الألم والمتعة، الإقدام والإحجام مما يخلق حالة نفسية من عدم الراحة، القلق، التوتر.. هذه الحالة الوجدانية خلقتها الظروف الاجتماعية المحيطة بك: وفاة والدك، فسخ خطوبتك، عدم توظفك، ضيق ذات اليد، الآمال الكبيرة والأيدي القصيرة، بجانب إنك إنسان ذكي مرهف حساس، ما نتاش بِلِطْ أو تِنح أو تِلم (لأن دول ما بيتعبوش زيهم أي تماثيل الرخام التي لا تملك إحساساً ولا ذكاءاً.. زي تنابلة السلطان يعني، ياكلوا ويناموا.).
الأمر الثالث والأخير هو إنت. تركيبتك النفسية، تكوينك, مجموعة المشاعر والأحاسيس في تفاعلها مع التفكير والمزاج والشعور, تلك التركيبة تسبب ذلك الاضطراب انفرجت أسارير الفتي وهو يهمً بالخروج وقرر أن يداعب الدكتور فسأله:
0 طيب والحل يا دكتور, خرزة زرقا وبخور مغربي واللا عٌرف ديك فوشيا؟!
صمّم الدكتور علي أن يرد مداعبته بمداعبة أكبر فقال له مؤكداً:
0 أنت عفريتك يا بني مودرن, جنان, آخر صيحة, عفريت ِروش, مثقف ما يستجيبش للحاجات دي, إنما ممكن بالتحليل النفسي المعرفي( تحليل الأفكار واصطياد الرسائل السلبية والمخزنة, تعديل المزاج وقهر الاكتئاب من خلال تعديل الفهم وتنظيم الأفكار).
0 مضي الشاب يدب علي الأرض بكل ثقة, دخل البيت علي أمه منشرحاً ضاحكاً فتوسمت فيه الصحة والأمل, أخذته في حضنها وسألته( أنت بتحب جديد يا واد؟ ومن ورايا) أجابها وهو يكتم نفسه من الضحك (لأ يامًه .. برضه رحت للدكتور النفساوي ولقيت عنده الحلً). جلست الأم علي الأرض تكمل تنقية الأرز وهي تكلم نفسها (علي النعمة ده لا دكتور ولا نفساني ولا حاجة.. اللي يخفف ابني كده يبقي شيخ! ولما حان الموعد الثاني قالت له أمه.
خد بالك من نفسك وقوله يا شيخ بلاش تعمل نفسك دكتور دا حنا عندنا في الحارة ألف عفريت: أناناس وعباس وفرناس وترباس وكرباس.. كلهم عايزين علاج أقصد لازم يطلعوا يعني.).
إذن ما الذي حدث هنا في تلك الحالة. فجأة نطق الشاب بكلمة ليس لها معني في سياق الكلام ( أناناس)، اسم فاكهة معروفة لكن غير متداولة شعبياً وعزا تلك الفاكهة إلي نفسه دون مبرر أو سابق إنذار, وهو كما شرحنا سابقاً داخل إطار من الصراعات التي خلقت حالة من (التناقض الوجداني Ambivalence ).
إذن الموضوع نفسي وجداني عقلي ذهني، هنا يدخل الموروث الشعبي للخرافة علي الخط فيهييء البيت ويستفز الأم المهيئة أصلاً لعملية الخرافة ويأتي الشيخ ليخرج العفريت (أناناس).
بالنسبة له المسألة سهلة ومفسّرة ميسّرة لا تحتاج إلى عناء أو إلي مجهود بمعنى أن الولد قد كرر اعترافه أنه (أناناس) زعم أن أسمه ليس كذلك فمن السهل هنا بالإيحاء للناس وللأم والجارة العجوز وشيخ الحارة في جو من البخور وتبادل الأحجبة والأدعية والتعاويذ أن تسيطر حالة أخري من الإنهاك النفسي والاستسلام الوجداني لما يحدث فيخلد الشاب إلي النوم ويصمت عن ترديد الاعتراف الغريب بأنه (أناناس) لوضع حَدّ للدوشة والصخب, لِفضّ المجلس وإنهاء الحدوتة.
يعتقد الكل - غالباً ـ ما عدا الشيخ لإنه يعرف جيداً إنه لا يوجد (أناناس) أو غيره، وإنما هي في عرفه (حالة نفسية عصبية، أو أن الولد يمر بأزمة عاطفية)، حيث لو كان الأمر استغرق وقتاً أطول لشاهدنا أعمالاً تطلع من الماء المغلي، وصورة لبنت حلوة بضفاير تطل من وراء الستائر وهكذا (بكثير من التعميم وقليل من التخصيص علي الحالة).
الشيخ يجمع المعلومات مسبقاً من الحارة من فترة أو قبل وصوله بقليل أو أثناء (الجلسة) من خلال تعبيرات الأم وصياحها ومن خلال أقوال شيخ الحارة وما إلي ذلك, ناهيك عن اعتقاد الأم الخاطيء بأن الطب النفسي للمجانين فقط, وأن فكرة ذهاب ابنها إليه فكرة مدمرة, فمن الأسهل ومن المقبول اجتماعيا أن تري سيدنا الشيخ و (يعالجك)، عن أن تكون (مضطرباً نفسياً) ويحللك دكتور نفساني لأن وصمة المرض ورحلة الذهاب والإياب تترك أثرها.
حتى بعد أن أقر رحلة الشاب بأنه ـ بالفعل ـ قد ذهب إلي طبيب نفسي، أنه قد ساعده كثيراً فإن الأم (بعيداً عن اعتقادها الراسخ بأن تعب ابنها النفسي ليس إلاّ مسً من الجن فإنها لا تريد أن يشفى عن طريق طبيب فتهييء لنفسها أن ذلك الطبيب ما هو إلاً شيخ، بل يجب أن يكون شيخاً غصب عنه لأن الأطباء لا يعالجون المرضى النفسيين ولأن حبالهم طويلة. ويدخلوك إلي عوالم تتمحور حول استمرار العلاج لفترة، وضرورة عمل جلسات.
ننتقل من ذلك إلي الدكتور نفسه فهو لم يجزع ولم يفزغ ولم يرتبك، ولم يقفز إلي نتائج ولم يصادر حق المريض في شرح حالته. بل دخل إلي عالمه الخاص (عالم أناناس) ليفتته ويشرخه ويفسره ويكسر دفاعاته معتمداً على الشرح والتقرير (أنت عندك حالة تناقض وجداني واضحة, معروفة ومتعارف عليها واسمها (Ambivalence) وأعتمد مبدأ (معاً سوياً Togetherness) نحن الاثنان سنحل العقدة, أنت بأعراضك وتعاونك وأنا بخبرتي وعلمي. كلُ يرمي بورقه علي الترابيزة، ونحن الإثنان نشترك في الحلً والعلاج.
إذن فالمسألة ليست (قفش).(لا تخف يا بني أنا هخففك قرص ثلاث مرات يومياً وفي خلال يومين هتبقى فلً, مِيًه مِيًة), هنا لم ينصب الدكتور نفسه إلهاً يشفي أو عالم ذا قوة خارقة يحلً العقدة، بل شريك ذو خبرة للمريض الذي يعاني من أجل رفع حَدً الألم وبعث البهجة والسلامة مرة أخرى، وآخيراً فلقد طبق طريقة في العلاج النفسي التحليلي المعرفي, معتمدة عالمياً وتعتمد علي البداهة والمعرفة العام (تحليل الفكرة التي تسبق الشعور بالحيرة أو الاكتئاب. اصطيادها ثم عقلنتها ).
وتدريب المريض علي ذلك. أي شحذه بالأسلحة التي تكون في يده إذا لزم الأمر، مما يعطيه ثقة غالية يوطد بها أركانه ويسرع بشفائه ويمنع انتكاساته واسم الطريقة (Cognitive Analytical Therapy) جذورها في العصور القديمة وكان يستخدمها العلماء والحكماء وشيوخ القبائل بشكل أو بآخر, وتحتاج إلي صبر وقعت من المعالج والتزام وتعاون من المتعالج.
جاءت مزحة الطبيب مع الولد في حكاية (أناناس) السابقة الذكر دليلاً علي دخول الطبيب إلي عالم المريض ومشاركته الصحيحة له نزعاً لاحتمال أي ضلالة أو سوء فهم مؤكداً عليه إنه حتى لو كان فيه حاجة اسمها العفريت (أناناس) فلسوف تختفي كحالة اضطراب وجداني (لا كحالة عفريت) وذلك بالتحليل والعلم والمعرفة, حلً الصراعات الكامنة, الربط بين التصور الخاطيء للأمور (التهويل والتكبير وعَمَل من الحبًة قُبةً وهما صفتان لصيقتان بمرض الاكتئاب عموماً ولكنهما تنسحبان علي معظم الاضطرابات العصابية والوجدانية) وبين الاستسلام لليأس والقنوط, وكأنها نهاية العالم, موضحين أن لكل عقدة حلاًل ولكل مرض شفاء ولكل مشكلة ألف طريقة لحلًها والتعامل معها؛
هنا يحاور الطبيب مريضه ولا يستجوبه, هنا يصادقه مع إتباع المسافة المهمة- وكأنه معلم يدرس طرق التعامل مع الأزمة وكيفية حلًها, ويكون الطبيب أيضاً معلماً لفن الحياة فيربط بين نمط الحياة التي يعيشها صاحب المشكلة أي (Life Style) وبين المشكلة وضرورة تغيير عادات مثل الأكل والشرب, وضرورة الانتباه إلي المظهر العام والصحة العامة, فربما كان الأمر برمته يعني شرحاً وفهماً تفسيراً وقبولاً, نظرة صحيحة وصحية للعالم من حولنا فلا نحتاج العفريت من أصله ولا نحتاج إلي من يطلعه ويصرفه, فقط.
ـ نحتاج إلي الثبات والإدراك الواعي وأيضاً- إلى روح الدعابة, بمعني (إن اللي يخاف من العفريت يطلع له) و (اللي يقوى ع العفريت يهرب منه), و(اللي يهزر مع العفريت يهزر معاه) وما عفريت إلا بني آدم. إذن أطلق روح الدعابة. أضحك من قلبك علي نكتة هايفة. إحمد ربنا لما تلمس خدودك المخدة قبل ما تنام واحمده أول ما تشوف وجهك في المرآة بعد ما تستيقظ ولن نحتاج إلي البخور المحًوج ولا إلي (طرقعة) عين العفريت.
10-12-2004
ويتبع >>>>>: المصريون والعفاريت(3)
اقرأ أيضاً:
ما تعرفه عن التحليل النفسي(What is Psychoanalysis) / المصريون ....والتربص الاجتماعي / المجتمع المصري وظاهرة رجل الأسرة الطيب