توقفت كثيراً متأملاً ذلك الطرح الخطير والجريء الذي قدمه د. مصطفى عبد الغني خاصة عند قوله (إذن. فهي الانتهازية لدى المثقف التي تركت لنا إما مسخاً مهادناً، وإما مسخاً تابعاً لشلة تقوم فيها المصالح بدور المبادئ والفعل إلىجابي، وإما مسخ يظهر بمظهر الفارس المعارض يمتطي فرس دون كيشوت المتعبة وهو واعٍ أكثر لما يريد).
هذه الصور من المسوخ تكاد تشترك في "أنا المثقف" المضطربة، المتكسرة الحائرة الضعيفة وهي أيضاً "النرجسية السيكوباثية"، أنا مهترئة يقودها عجزها الداخلي إلى ضراوة خارجية تآكل من كل الأىادي الممدودة لها وتأكلها وتسقط تحت وقع ضرباتها. وعلى الرغم من أن تعبير" المثقف الخائن" قاس إلى حد بعيد إلا أنه يوسم من يغرق في الوحل دون تردد واعياً بخيانته وقابضاً مقدماً الثمن على طريقة (ادفع وشيلCash & Carry) وعندما تفسد "أنا المثقف" تخون وتضلل وترتمي في عملية الحراك الاجتماعي الثقافي إلى أسفل، وتعجز حتى إذا ما أعلنت توبتها عن ترميم تلك الأنا المهشمة والمقصومة.
هذه الصور تنتج عن سيكولوجية مهتزة تتأرجح فيها المثقف "الفاسد و الخائن" بين مساحتي العقل المتوتر المرتبك المهزوز والجنون بمعنى عدم ملامسة الواقع وهنا لا تدرك حواسه عالمه الخارجي ويسقط في مستنقع لا يزكم أنفه فنجده يبرر ويستخدم حيلاً نفسية دفاعية عصابية مثل الإنكار والتكوين العكسي (أي أن ما يظهر شعورياً عكس ما يكتم في العقل الباطن) هذه السيكولوجية الخاصة ترتكز على أمرين هامين:
أولهما استعداد ذلك المثقف للخيانة والفساد بمعنى أن تكوينه البيلويوجي النفسي الاجتماعي: تربيته، نشأته الأولى، بيئته المحيطة، تهيئه للفساد، والأمر الآخر وهو الأكثر أهمية هو تلك القوى التي يزدهر فيها الفساد وتترعرع فيها الخيانة لعل أهمها الإدراك المشوش للأنا، للهوية: فهل هو صحفي، كاتب، ناقد، مصري، عربي، مرتزق، محترف، قومي، مسلم، عاشق لجمال أمريكا، مؤيد لسلام أجوف مع إسرائيل..... إلى آخر القائمة، وعلى الرغم من أن الهوية مسألة مركبة ومعقدة من باب أن المثقف الذي يتوحد مع الجاني (إسرائيل، أمريكا ـ السلطة القمعية)، أو أن يتوحد مع الضحية: الشعب العراقي/ الفلسطيني/ الأفغاني (قد يفعل ذلك على استحياء فهو أمريكي قُح بعد 11 سبتمبر، يصاب باكتئاب عجيب بعد تلك الصدمة المروعة لهيبة أمريكا وهو الذي يخطو مزهواً بالنصر عندما تدمر العراق وتسحق أفغانستان وتضيع فلسطين، يبرر كل الأفعال اللإنسانية وأتذكر هنا تحديداً علي سالم في برنامج مواجهات (قناة أبو ظبي الفضائية) عندما دافع عن ضرب العراق مبرراً أنها عملية استئصال جراحية سريعة وضرورية للعالم الحر.
مما لا شك فيه أن مثقفين كثر بطول وعرض العالم العربي بل القارئ والناطق باللغة العربية والذين تضج بحضورهم شتى الفضائيات قد دافعوا عن ضرورة ضرب أمريكا للعراق وأشاحوا بوجوههم عن كل الكذب الصريح والمعلن وتلفيق المستندات وشهادات بليكس والبرادعي وعن قتل الأبرياء والتلكؤ في إعادة إعمار أفغانستان والعراق، بل أنكروا عمداً وجود مقاومة شرسة في العراق وفلسطين وأفغانستان، هؤلاء المثقفون الأمريكيون فاقدو الهوية لأن الأمريكان ببساطة يستعملونهم ولا يحترمونهم، وعندما تنتهي فترة خدمتهم سيعاملون كخيل الحكومة سيطلق عليهم الرصاص وسيدفنون بأمر المستعمر الجديد.
نفس الأمر ينطبق على مثقفي الاتحاد السوفيتي ـ إن جاز التعبير ـ الذين أصابهم الذهول وصدمهم الحدث فجاءهم كالطوفان اكتئاب قاس الوطأة تركهم نهباً لأحلام الطريق الثالث وهم في توهانهم وشرودهم بحثاً عن الأب والأم تلكأوا وترنحوا، ربما انزووا أو نهضوا باحثين عن بديل مقارب عربي عله يكون نظام صدام حسين مثلاً.
ولا يفوتنا بالطبع ذلك المثقف الذي يكون جلده كالحرباء ويتدنى إلى أن يصل إلى حد الدفاع عن أغنية، التهليل لفريق كرة قدم، التحيز لراقصة أو مغازلة فنانة.... وأن يرشو ويرتشي مستخدماً صنعته فيرقعها ويخيطها يمزجها بالأصباغ والألوان ويصبغ كالبلياتشو لا يضحك ولا يتمكن من الضحك.
كما أننا لا ننسى هنا ذلك التحالف النجس بين المثقف الموظف الذي يعرض بضاعته كبنات الليل وبين رجل الأعمال الذي يعامل المثقف الذليل كالعبد والخادم، يلطعه على بابه بالساعات، يرفض عروضه ثم يكسر أنفه ويعطيه كسرة خبز لقاء هجوم على رجل أعمال آخر أو لتمجيد مشروعات قامت على السرقة ونهب البنوك...... إنها مرة أخرى الأنا المتضخمة شكلاً الضئيلة قلباً المتورمة كما يتورم الساق بالصديد، الأنا المجروحة المفتوحة الجرح.
*أما مشكلة "الهوية" أو "الأنا" تلك لدى المثقف العربي زادت حدتها بعدما صار نجماً على الفضائيات يدلي بدلوه، يصرخ ويصيح، يستثمر غضبه ويسفه غيره بل ويتعمد على إنهائه وسحقه تهميشه وتشويهه..... وكثيراً ما أصبحنا نرى القمع الممتد كالقرع في كل مكان وزمان ورأينا الوجوه البلاستيك والوجوه الخشب، وتلك الوردية والزاعقة والشاحبة، وفي المقابل أصبح نادراً ما نرى وجوهاً حقيقية معطاءة. ساطعة، نضرة، حيوية، ولعل أخطر تلك الوجوه المرتبكة تلك التي تروج لمشاريع مشبوهة واستبدال الحرف العربي بالاسم الشرق أوسطي.
ولعل خيانة المثقف كما ذكرنا سابقاً لا تأتي من فراغ لكن بذورها كمنت في أرض قميئة استمرأتها واستحلت الماء الآسن الذي يرويها فنجد ذلك العجز المكتسب من تتابع أحداث قاسية توحشت فيه إسرائيل واغتصبت حتى الحق في المعارضة وسيطرت أمريكا بسفرائها المعتمدين الضجرين من أي نقد يوجه لسيدة العالم الحر فأصبح المثقف الضعيف مكتسباً عجزاً قميئاً وأصبح يدافع عن سياسات عرجاء مروجاً لأفكار غير عملية مثل أن الصراع العربي الإسرائيلي صراع نفسي أو أن إسرائيل جيش لا يقهر ولا يستطيع ولا يتمكن من رؤية اندحاره في جنوب لبنان مثلاً.
وهو في عجزه المطلق ذاك يرى أيضاً أمريكا تلك التي ستنشر الديمقراطية في العالم العربي بقوة القنابل الذكية والعمليات القذرة، ويروج لذلك ولا يحسن الاستماع لصوت الشعوب وهي تقاوم ولكره الشعب العراقي ومقته للاحتلال الأمريكي ولعملياته الباسلة كل يوم والتي يقتل فيها جنوداً بريطانيين وأمريكيين، والمثقف الخائن يروج للهزيمة بكل أشكالها ويوقع قراءه في حبال الأوهام مستهتراً بوعي الناس منظراً عليهم ومصادراً أحلامهم الصغرى والكبرى على حدٍ سواء.
خيانة المثقف إذاً ترتبط إرتباطاً وثيقاً بخيانة الحلم في وطن حر مستقل يكفل لأبنائه رعاية صحية وتعليم صحيح وغذاء كافٍ وسكنى تكفل الحد الأدنى من الكرامة. وتؤدي تلك الخيانة من النخبة التي تقود الرأي العام وتوجهه إلى زيادة في التخلف على كافة المستويات: ثقافياً، اجتماعياً واقتصادياً فتنتشر على يديه (ثقافة التيك أواي) ونجد سيطرة لا حَد لها من شركات أدوية عملاقة، وشركات الوجبات السريعة، وشركات الاتصالات، وما شابه ذلك..... فيهدر المال العام في الهواء والماء...... في صورة استهلاك أحمق للموبايل وعدم ترشيد للموارد الأساسية، ومن ثَم ينعدم الولاء للوطن وتتولد رغبة متوحشة لدى العامة في النهب والسرقة والعبث (ولنا في مثال العراق بعد الاحتلال نموذجاً لتمزق الأنا الجمعية للناس وعدم ولائها لأحد حتى نفسها).
يهون المثقف فيخون، يضعف فيفسد ويُفسد من حوله والمجتمع يكذب ويسرق المراجع والأصول ولا يتجمل.
ختاماً بما أنه ليست هناك الأنا المثقفة فهناك أنا المثقف، وأنا الخائن، وأنا الفاسد، وأنا المضطرب، وأنا المقصوم، تتعدد الأنوات لتلتحم أو تتفكك. في كل الأحوال تكون تلك الأنا وذلك المثقف بعيدة عن السواء والانتظام والصحة، قريبة من الانتحار أخلاقياً، نفسياً، وحضارياً، أو الموت كمداً.
* على هامش طرح د. مصطفى عبد الغني "خيانة المثقفين...... شهادة خاصة"
اقرأ أيضاً :
الإدمان... نحو استراتيجيـة اجتماعية جديدة / المصريون ....والتربص الاجتماعي / سيكولوجية المنافق، الضلالي .. والبلطجي