إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(2)
العلاج بالأحلام :
وأحلام فترة النقاهة هي بمثابة محاولة علاجية للكثير من السلبيات والأفكار والتصورات السائدة إضافة إلى كونها رؤية فلسفية للإنسان والحياة متعددة الجوانب والمستويات, وهذا الموقف الإيجابي من الأحلام (كوسيلة للرؤية ووسيلة للتغيير) يعيد إلينا موقف المصريين القدماء من هذا الموضوع حيث كانوا يحتفون بالحلم ويحترمونه لدرجة أنهم أقاموا معابد للنوم في جزر فيلة وكان يشرف عليها الطبيب " أمحوتب" (أول طبيب معروف تاريخيا) وكان كاهنا وطبيبا للملك زوسر الذي بنى أهرامات سقارة 2900 سنة قبل الميلاد, وكان الناس يحضرون إلى معابد النوم ليناموا في هذا الجو المفعم بالقداسة فيحلمون ثم يقوم الكهان بتفسير هذه الأحلام بطريقة بنائية تبعث الأمل والحياة في نفوسهم؛
وبالتالي كان الحلم عند قدماء المصريين ظاهرة إيجابية بنائية شفائية تؤدي إلى تحسين حياة الإنسان في يقظته،ثم جاء علماء العرب والمسلمين فكان لبعضهم (مثل المازري والقرطبي والحافظ ابن حجر العسقلاني – راجع كتاب الأخير" الرؤى والأحلام") رؤية شاملة ومتعددة المستويات للأحلام حيث عزوها إلى ثلاثة مصادر :
1- الأخلاط: وهى تقابل بلغة العصر الحديث التركيبات الكيميائية في المخ والجسد وما يتصل بها من مؤثرات فسيولوجية .
2 - حديث النفس: وهذا ما أفاض فيه علماء النفس المحدثين وفي مقدمتهم فر ويد .
3- الإدراكات: ويعنون بها الرسائل الغيبية القادمة من العوالم الأخرى التي لا ندركها في حالة يقظتنا .
وكانت هذه الرؤية الشاملة والمتعددة المستويات للأحلام قفزة علمية هائلة لو كنا قد تتبعناها وبحثنا على ضوئها, فهي نظرة أشمل من تلك النظرة الفسيولوجية التي رأت الأحلام مجرد ظاهرة فسيولوجية , وأعمق وأشمل من تلك النظرة الفرويدية التي قصرت الأحلام على حديث النفس ورغباتها واحتياجاتها.
وهذا الموقف الإيجابي كان يقابله موقفا سلبيا ساد في أوروبا إبان العصور الوسطى حيث كانوا ينسبون الأحلام إلى الشياطين وإلى الأرواح الشريرة مما حدا بهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى اللجوء لطريقة إيقاظ النائم حين يشعرون أنه يحلم حتى ينقذونه من الحلم.
وهذه النظرة السلبية للأحلام تعود لتطل علينا من جديد في مجتمعاتنا العربية حيث نجد كتابات مختزلة عن الأحلام تعيدها إلى الفكر الخرافي مرة أخرى ولكن مع إضافي بعض المصطلحات الدينية يتستر خلفها هذا الفكر لكي يقبله العامة.
العمر والإبداع.. نجيب محفوظ كنموذج :
نجيب محفوظ قد تجاوز الرابعة والتسعين من عمره ومازال يبدع, وإبداعه في هذه المرحلة غاية في التجريد والمرونة والعمق وسرعة الإيقاع, وهذه ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل على المستوى العلمي والأدبي والإنساني, فعلى المستوى العلمي كيف نتصور هذا الإبداع بتلك المواصفات في وجود مرض السكري المزمن وتصلب شرايين المخ بسبب السن وبسبب السكري وضعف البصر وضعف السمع وغيرها من المشاكل التي نتوقع علميا أن تؤثر على كفاءة المخ خاصة في وظائفه العليا التي تقوم على التجريد والاستنباط والتفكير الرمزي متعدد
المستويات والإخراج الجمالي الأدبي للفكرة في أزهى صورها وبإيقاع سريع يكاد لا يبلغه شاب في العشرين وبروح مرحة وساخرة وموجهة وموقظة.
وما هو سر الدافعية التي لا تهدأ, بل تدفع دائما نحو الإبداع في وقت كلّ فيه الجسد وضعفت كل الحواس حتى أنه كان يكتب ويديه مضطربة الحركة بسبب إصابة عصب اليد في الحادث الذي تعرض له, وهو الآن ما زال يكتب على الرغم من أنه لا يرى ما يكتبه بسبب ضعف حاسة البصر.
وعلى المستوى الأدبي ننظر ونتعجب : كيف يستطيع شخص قد تجاوز التسعين أن ينشئ فنا أدبيا جديدا وهو الأحلام يسقط عليه كل هذا الجمال الأدبي وكل تلك المعاني العميقة؟ وعلى المستوى الإنساني لو استخدمنا حسابات البشر العادية لتساءلنا ببلاهة: وماذا يريد الرجل أن يقول بعد الذي قاله وماذا يريد أن يبلغ بعد كل ما بلغه وماذا يريد أن يأخذ بعد كل ما أخذ ؟
كل هذه التساؤلات وغيرها تأخذنا إلى مسألة علاقة الإبداع بالعمر وعلاقة العمل عموما بالمرحلة العمرية خاصة وأن لدي الكثيرين منا تصورات بأن الإنسان إذا تجاوز الأربعين فعليه بالراحة والاستكانة والجلوس انتظارا للموت, وهذا التصور ربما يؤدي إلى حالة من الاكتئاب المزمن تظهر أعراضه في صورة بطء في مسار الحياة والتفكير وحالة من العدمية التي تفقد معها قيمة ومعنى ومذاق الأشياء يصاحبها سكون في أحد الأركان بدعوى الحكمة والوقار وأحكام السن, وجمود في الرؤى والأفكار يوقف عجلة الحياة الشخصية أو العائلية أو الاجتماعية أو كلها جميعا.
لقد قام جورج بيرد عا م 1874 م بدراسة شاملة عن ا لإبداع وعلاقته بمراحل العمر فوجد أن 70% من أروع الأعمال العالمية قد أنجزها أشخاص تقل أعمارهم عن الخامسة والأربعين, وأن 80% من تلك الأعمال قد أنجزها أشخاص تقل أعمارهم عن ا لخمسين, ووجد أن فترة الذروة المطلقة في السيرة المهنية والإبداعية تقع بين الثلاثين والخامسة والأربعين من العمر.
وبناءا على هذه النتائج قام جورج بيرد بتقسيم عمر الإنسان إلى عقود أطلق عليها أوصافا تتناسب مع أهمية قيمة العطاء والإبداع فيها وهي كالتالي:
من 20-30 العقد البرونزي, ومن 30-40 العقد الذهبي, ومن 40-50 العقد ا لفضي, ومن 50-60 العقد الحديدي, ومن 60-70 العقد القصديري, ومن 70-80 العقد الخشبي.
ثم قام عالم آخر يدعى "ليمان" بدراسة عدد كبير من المبدعين فوجد أن ذروة الإبداع تقع بين سن 35 و39. وفي دراسات أخرى تبين أن ذروة الإبداع تقع حول سن 45 بزيادة أو نقص 5 سنوات.
ومن الأبحاث السابقة نلحظ نقص الإبداع مع تقدم العمر , ولكن "هيفيل" لاحظ عودة القوة الإبداعية للظهور بين سن 80 و85 سنة وقد يرجع ذلك إلى تذكر أيام الشباب في السنوات الأخيرة من العمر مع استعادة روحها الإبداعية لدى بعض الأشخاص؛
إضافة إلى استفادة المبدع من خبرته الطويلة وامتلاكه لقدرات تمكنه من التعبير بشكل مؤثر, أو أن تكون الكتابات المتأخرة هي عبارة عن مشروعات بدأت في عقل المبدع وهو في سن صغير ولكن انشغاله بمشروعات حياتية أخرى جعله يؤجلها إلى هذه المرحلة من العمر ليصوغها فقط بأسلوبه الذي اكتسب نضجا مع السنين. وقد أشار نجيب محفوظ إلى هذه العودة في أحد أحلامه وهو يصف عودة الفتاة إليه في الفندق .
وقد وجد هيفل أن 6-20% من الإنتاج الكلى للمبدع قد يأتي في سبعينات العمر. ويؤيد هذا الرأي عدد من الأمثلة الحية نذكر منها : قصة البؤساء التي كتبها فيكتور هوجو في سن الستين, ورواية الإخوة كرامازوف والتي كتبها ديستويفسكي في سن 59 , والإلياذة التي يقال أن هوميروس كتبها بعد أن تجاوز المائة سنة. ولا ننسى برناردشو الذي كتب الكثير من أجمل أعماله بعد أن تجاوز الثمانين من عمره .
إذن نستطيع القول بأن "أحلام فترة النقاهة" هي بمثابة دفقة إبداع جديدة بدأت عام 1998(بعد محاولة الاعتداء علي نجيب محفوظ وإصابته بـ 4 سنوات) حيث كان فرحا بعودته للكتابة بيده , فنشطت لديه ذات الطفل مرة أخرى حية متدفقة فرحة بالملكة المستعادة بعد الإصابة وكأنها حديثة عهد بها فطوعتها لإخراج ما تبقى من تراث إبداعي يعتمد على قراءة الداخل (الأحلام) أو استقرائه بعد أن تعذرت قراءة الخارج (الواقع) بسبب ضعف الحواس وتعذر الحركة.
وهناك عاملين مهمين لعبا دورا في استمرار التدفق الإبداعي لنجيب محفوظ حتى هذه السن (إضافة لكل ما سبق), العامل الأول هو انتظامه في لقاء أصدقائه من القدامى والمحدثين وانتظامه في التجوال في الأحياء المصرية القديمة والحديثة ( لوقت قريب قبل أن يفقد القدرة على ذلك), وكان ذلك يعطيه الفرصة للربط بين الماضي والحاضر فضلا عن إبقاء الذاكرة ملأى بالأحداث والذكريات, والحفاظ على النفس في حالة تكامل وتواصل ونشاط و واستعادة الطفولة والصبا والشباب في أثواب جديدة في كل مرحلة من مراحل العمر العقلي والإبداعي.
أما العامل الثاني فهو الوجه الآخر لشخصية نجيب محفوظ وهو كونه موظفا عاش حياته الوظيفية الحكومية الروتينية ملتزما بالحضور والانصراف والعمل منذ لحظة الدخول وإلى لحظة الانصراف, وهو يسلك نفس السلوك في رحلة حياته فهو موظف في هذه الحياة وعليه أن يعطى من لحظة وعيه بحضوره في الحياة إلى لحظة انطفاء هذا الوعي, وهذا يجعلنا نتوقع استمرار عطائه الأدبي حتى آخر قطرة في وعيه, فالوعي بالنسبة له مناط المسئولية وانتهاء الواجبات الحياتية يحدده خالق النفس وخالق الوعي في اللحظة التي يختارها ولا يحددها الموظف الملتزم المطيع لقوانين الحياة والموت.
تداعيات أحلام فترة النقاهة
(فتح الرسائل السرية لنجيب محفوظ)
نود أن ننبه القارئ الكريم إلى أننا لن نقوم بتفسير أحلام فترة النقاهة للأستاذ الكبير نجيب محفوظ ، وإنما نقوم بقراءة الحلم ثم نترك الأفكار تتداعى بحرية (وأحياناً بدون ترابط) حول رموز الحلم، وبما أنها تداعياتنا الشخصية فيمكن أن تتعدد حول الحلم الواحد ويبقى الحلم نفسه قابلاً للمزيد من الرؤى، وهذه هي عظمة الأدب الرمزي وعظمة ما كتبه نجيب محفوظ .
واقرأ أيضًا:
الحوار وقاية من العنف / سيكولوجية الاستبداد (4) / سيكولوجية التعذيب / قراءة في شخصية زويل(1)