تتلاحق الأحداث حولنا بطعمها المؤلم العلقم، ولكن المرء رغم ذلك يشعر بكثيرٍ من الفخر –وإن يكن فخرا محزونا- بما يحققه حزب الله، وسبب الحزن هنا ليس فقط شهداءنا وإنما أيضًا جبنائنا وخصياننا الكثُر من الحكام العرب، فلم يزل هناك منهم من يتهم حزب الله بأنه اندفع وغامر وحده وأدى إلى تورط السادة الحكام في محاولة استجداء ولعق أعتاب أصحاب النعل الأبيض، من أجل الوصول إلى اتفاق، وأمثال هؤلاء موقفهم مضحك مبكي فلا بيدهم ما يفرضونه على حزب الله ولا بيدهم ما يرضون به أسيادهم، وهم إن اشتكوا فإنما يشتكون من الصداع الناتج عن الاضطرار إلى التفكير لأن أمريكا تريد منهم السعي لحل الورطة التي أصبحت فيها إسرائيل!
وأعظم ما يبشرنا بالنصر في الموقف الحالي هو أن التراجع في المواقف لم يحدث من قبل حزب الله، بل التراجع هو ما لجأت إليه إسرائيل كما فُهِمَ بدايةًَ من خلال تصريحات بعض مسئولي حكومة العدو، ثم أصبح أمر التراجع أكثر وضوحا بعد زيارة الآنسة كونادليزا رايس للبنان، ففي كل أحاديثها لم تستطع رايس أن تقول ما اعتاد كل المتحدثين بلسان أمريكا قوله منذ زمان –وهو نزع سلاح حزب الله- تخيلوا أن رايس لم تطالب في لبنان هذه المرة بنزع سلاح حزب الله! وهو ما يعني انخفاض سقف توقعات النجاح الأمريكية.
لقد أصبح من الواضح أن قصورا كبيرا يوجد في فهم العدو وتقديراته ومعلوماته عن حزب الله بكل تأكيد، وهذا هو التفسير الممكن للفخ الذي وقعوا فيه، وهو في ظل وحدة الصف اللبناني كله خلف المقاومة يجعل إسرائيل معرضة لحال أصعب من حال أمريكا في العراق أو أفغانستان، وأصبحت الصورة الآن أن حزب الله يعد بتصعيد رده والدخول لمرحلة ما بعد قصف حيفا، ثم بعد ذلك ما بعد ما بعد حيفا كما قال نصر الله نصره الله وحزبه، إلا أن الأهم الآن -رغم أهمية اختلاف الصورة الحقيقية عن كل التوقعات- وما يستهويني هنا ذكره هو التحليل النفسي لحالة الخصاء العربي التي نعيش!
وقبل أن أفصل في ذلك أذكر لكم ما تذكرت أني قرأته بعد الحادي عشر من سبتمبر في أحد التحليلات الغربية لما حدث فقد رأوا فيما فعله أسامة بن لادن وجماعته إخصاء لأمريكا التي كانت تمد برجيها كقضيبين منتصبين في نيويورك هذه هي رؤية التحليل النفسي لقصف برجي التجارة، ويقول الكاتب أن الرد لن يكون بنفس مفاهيم نظرية التحليل النفسي، فلن تبقى أمريكا لتعاني قلق الإخصاء Castration Anxiety وإنما سترد بالعقاب المباشر punishment وهو أحد أساليب العلاج السلوكي! وهو ما نراه حتى الآن في الحرب على الإرهاب بداية بأفغانستان مرورا بالعراق والسودان وانتهاء بحزب الله، ولنلاحظ أنها لم تحقق نصرا حقيقيا بعد في أيٍّ من تلك الجبهات.
والحقيقة أن حالة الخصاء العربي مركبة وليس سببها فقط شعورنا بالضعف مقارنة بما نتوهم من قوة العدو –إسرائيل والإدارة الأمريكية- وإنما هناك أيضًا ما نستطيع تسميته بالعجز المتعلم Learned Helplessness والذي أصاب الشعوب والحكام معا، ويقصد به وصول الإنسان إلى حالة يشعر فيها بأن إمكاناته الداخلية وقواه لا تمكنه من تغيير الوضع الراهن فيشعر بالعجز، ويظهر العجز في انخفاض الحافز، والشعور باللا حول ولا قوة، وبانعدام الأمل، وهؤلاء يفقدون القدرة على المبادأة ويستسلمون ولا يعودون يقدمون الإنجازات والأفكار طالما أن نتيجة عملهم معروفة لهم مسبقاً، أي طالما يعرفون أن نتيجة عملهم لن تحقق لهم الكرامة ولا العزة ولا النتيجة الاجتماعية أو المادية المرغوبة.
ووصول شعوبنا إلى هذه الحالة ربما له ما يبرره لأنهم على مر السنين أدركوا ألا فائدة، وأحيانا والله كنت أشعر أن إيصال الناس إلى هذا الفخ النفسي مقصود، فمثلا أذكر أيام بداية انتفاضة الأقصى كيف تم شحن الجماهير من خلال ما تقدمه وسائل الإعلام من أخبار وصور دون أن تكونَ لدى بلداننا –خاصة مصر التي أعرف- بمؤسساتها المعطوبة أي خطة لاستيعاب مشاعر وردود أفعال الناس، ووقتها خرجت المظاهرات وحدثت المواجهات مع الأمن وراح شهداء من الطلبة في الإسكندرية، واعتقل كثيرون، فأصبح الشاب الذي يلجأ إلى التدين أو الكتابة معرضا للاعتقال والذي يلجأ إلى التظاهر معرضا للقتل أو الاعتقال أيضًا، والأمثلة على ردود الأفعال لا تنتهي لكن النتيجة دائما هي "افعل كأنك لا تفعل" أي دون نتيجة!
أما حكامنا فأحسب أن مصيبتهم أعظم ليس فقط لأنهم أداة تدمير طاقاتنا وإنما لأنهم هم أنفسهم إما مخدوعون أو أهون من أن يفهموا الأمور على حقيقتها وحكى لي أحمد عبد الله عن لقائه -ووفد من اتحاد طلاب جامعة القاهرة الذي كان يرأسه وهو في السنة الخامسة من الكلية- بوزير الزراعة وأمين عام الحزب الحاكم وقتها- حكى لي كيف كان الرجل يتكلم عن أمريكا وكأنه يتكلم عن إلهه الذي لا تحد قدرته، فهو إذن يمتلك فهما خاطئا ويسلك لذلك سلوكا خاطئا وهو مع الأسف نفس من يحدد سياسات واستراتيجيات بلد بثقل مصر "الغابر مع الأسف".
كذلك فإن جانبا مهما من مأساة حكامنا هو جهلهم بقدرات وطاقات شعوبهم فهم فقط يخافون من قدرة الشعب على إثارة مشكلاتٍ لهم لكنهم لا يثقون في قدرتهم على نصر قادتهم أو النهوض بأمتهم، وفي نفس الوقت هناك ما تهددهم به أمريكا من فتح ملفاتهم –مثلا انتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد أو التوريث إلى آخره- ، ولكن لماذا لم يقع حزب الله ولا قادته في نفس الفخ ولماذا لم تقع فيه حماس؟ ولا حركة الجهاد؟ لعلنا نترك هذا سؤالا مفتوحا لقراء مجانين، لكننا يجب أن نتذكر دائما أن واحدة من أعوص مشكلات الحكام أنهم عاجزون فاشلون وربما لا يفهمون، والواقع أن حال الحكام –من ناحية القيمة الإنسانية حتى قيمة الإنسان أمام نفسه- أصعب من حال الشعوب، وأحسب أننا إذا تكلمنا عن الإخصاء بالنسبة للشعوب فإننا نحسب الحكام أكثر إخصاء من شعوبهم، ............... والمجد للمقاومة.
اقرأ أيضا:
شكرا منظمة الصحة وفي انتظار المزيد/ على باب الله أشباح بيروت/ تحيا كوريا الشمالية: يحيا حزب الله/ ساعات سكينة: ساعة الأخبار/ شيزلونج مجانين نوم في غير وقت/ أمة تمشي على أربع!