هكذا تكلم فتح الله كولن الداعية والعالم الإسلامي التركي الأبرز والذي يحمل حلما عظيما من أجل الإنسانية يعمل على تحقيقه من خلال جهود الملايين الذين يتأثرون بدعوته والذين قدرهم البعض بأربعة ملايين في أنحاء العالم.. فكيف استطاع هذا الصبي أن يجعل من حلمه شيئا قابلا للتحقق؟ بله أن يجعل من مجرد فكرة قد تعبر على خواطر الكثيرين من الناس دونما –حتى- أن تعاود المرور مرة أخرى.. أن يجعل من تلك الفكرة واقعا متجسدا في عدد من المشاريع والمؤسسات والأنشطة التي تملأ الأرض على أمل أن يأتي ذلك اليوم الذي كان يحلم به؟ هذا ما نحاول استكشافه في محاولتنا تلك للإبحار في عالم فتح الله كولن كحركة عالمية ذات منطلقات إسلامية تعمل من أجل خير الإنسانية.
من الفكرة إلى الحركة
تربى فتح الله كولن في أحضان جماعة النور منذ عام 1957، وفي فترة الستينيات عمل إماما وواعظا رسميا في المساجد ومن ثم فقد اتسم شيئا فشيئا بالانفتاح على المجتمع من خلال وسائل الدعوة العامة بدلا من الاقتصار على الحلقات في دوائر الجماعة الداخلية ومن ثم كان عمله للدعوة عاما.. إلقاء للخطب والدروس في المساجد وإدارة للمعسكرات الصيفية للشباب وإلقاء للمحاضرات في الأماكن العامة، وصارت محاضراته وخطبه تلك تسجل وتنتشر في أوساط الشباب، وهو ما لم تعتد عليه كوادر الجماعة في ذلك الوقت المبكر، وفي فترة السبعينيات أثمرت حركة كولن الواسعة وسط آلاف من الجماهير عن تأسيس جماعته الخاصة والتي هي بالأساس امتداد لجماعة النور في المجال العام، ومن ثم فهي تعتمد على الأساس الروحي المتين الذي كانت تتلقاه فيما يسمى بـ"بيوت النور" والتي تشبه الحلقات النورسية، ثم أضافت لها بداية من عام 1978 نشاطها المؤسسي في المجال العام والذي تجلى في إنشاء أول مؤسسة تعليمية تابعة للحركة وكانت عبارة عن "درسخانة"
وهي المؤسسات المعنية بإعداد الطلاب لامتحان الالتحاق بالجامعة-، إذ بينما كان سائر الإسلاميين معنيين بمدارس الأئمة والخطباء، كانت الحركة معنية بالتعليم العام لإخراج أجيال مسلحة بالمعارف الحديثة إضافة إلى الأخلاقيات الإسلامية.
وفي عام 1979 كان الموعد مع "سيزنتي" أول صحيفة ناطقة باسم الحركة تعمل على بناء معارف علمية مؤسسة على الإسلام، وهكذا دخلت الحركة إلى ساحة المجال العام التعليمي والإعلامي مسلحة بالأساس الإيماني والأخلاقي المتين وهو ما صار عنوانا على الحركة حتى يومنا هذا.
من تلك البدايات العملية البسيطة انطلقت حركة فتح الله كولن مشحونة نفوس أبنائها بطاقة روحية.. إيمانية وأخلاقية متينة، يجذبهم أفق بعيد لعولمة إنسانية جديدة يحملون مسئولية تأسيسها على أعناقهم موفرين لها كل ما تحتاجه من موارد مالية وبشرية تتحرك بها قلوبهم قبل أن تتحرك بها أبدانهم، فكما يعلمهم كولن: "الحقيقة هي أنه إن كان هناك ثمة عالم مشرع الأبواب لنظام عالمي جديد فهو عالمنا نحن، وسيتناوله الجيل القادم على أنه عصر نهضتنا نحن" ومن ثم فإن الحركة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات انطلقت بقوة في ميادين التعليم والإعلام والحوار (سواء حوار الأديان، أو الحوار بين المثقفين) داخل وخارج تركيا لتحقيق ذلك الهدف البعيد، ولنأخذ التعليم كمثال لنموذج الرؤية والعمل في تلك المجالات.
الأساس الروحي للحركة
لعل أهم أسس حركة فتح الله لمن يريد أن يفهمها هو الأساس الروحي الإيماني والأخلاقي للحركة والذي يضرب بجذور أفكاره إلى قرون مما يعرف بالتراث الصوفي الأناضولي ممثلا في مولانا جلال الدين الرومي وغيره من أئمة السالكين، والذي تجسد حيا في القيادة الروحية فتح الله كولن وكتاباته المستفيضة في هذا الباب، والتي هي روح تسري في كتاباته، وفي تلاميذه وفي مؤسساتهم التي أنشئوها، وفي روح دعوتهم وحركتهم في العالم، ولعل هذا هو السر البسيط والصعب في آن واحد لكل ما حققته الحركة من إنجازات، فتلك الروح التي تسري فيهم هي الوقود الدائم المتجدد الذي يمدهم بالطاقة للبذل والعطاء سواء أكان البذل والعطاء ماديا (بالمال أم بالجهد والوقت) أو معنويا بطاقة الحب لله والحب لجميع خلق الله والشوق لعالم يملأه الإيمان بالله والحب والسلام بين البشر على اختلاف أعراقهم وطبقاتهم وأوطانهم وأديانهم، بكل هذه الطاقة من الإيمان والحب والتسامح والفناء في خدمة الحق وخدمة الخلق تسير الحركة يحدوها الإيمان بأن الإنسان لم يخلق من أجل هذه الدنيا، بل إن الدنيا خلقت من أجل الإنسان، وإنما خلق الإنسان من أجل خدمة الحق والخلق، وأن ما يؤتاه في هذه الدنيا إنما هو متاع يبلغ به مبتغاه في الدنيا والآخرة.
المؤسسات التعليمية كنموذج للبناء الروحي
على هذا الأساس الروحي المتين انطلقت الحركة لتشيد مؤسساتها التعليمية التي قاربت الـ 600 على مستوى العالم، والتي قدمت من خلالها رؤيتها الخاصة في الإجابة على الأسئلة الخمسة الأساسية في صياغة العملية التعليمية:
* لماذا نتعلم؟ فحسب رؤية كولن فإن الإنسان يتعلم حتى يلبي احتياجا طبيعيا لديه في الاكتمال والوصول إلى مصاف الإنسانية الحقيقية والوصول من ثم إلى الثبات والوضوح في التفكير والتخيل والمعتقد، وجعل المعرفة مرشدا في الحياة تضيء الطريق للإصلاح الإنساني.
* ماذا نتعلم؟ تركز مدارس فتح الله جولان على مكونين أساسيين لمحتوى التعليم: هما العلم والدين (الإيمان والأخلاق) في شكله المعاش، ومضمونه الإنساني القيمي العام، حيث أن "حياة المجتمع تعتمد على المثالية والأخلاق الحسنة، وكذلك على الوصول إلى المستوى المطلوب من التقدم العلمي والتكنولوجي".
* من الذي يتعلم؟ تنتشر المؤسسات التعليمية التي أنشأتها الحركة في ربوع تركيا وفي الكثير من بلدان العالم، مقدمة خدماتها التعليمية لطلابها من المسلمين وغير المسلمين على السواء، وكما عبر أحد الباحثين الأتراك: "تأثرا بأفكاره، أصبح أتباع كولن نشطاء في المجال التعليمي، وفي الثمانينيات والتسعينيات تم تأسيس 150 مدرسة خاصة (داخل تركيا)، و150 مركز (درسخانة) تعطي برامج –دراسية- إضافية. والآن توجد 250 مؤسسة تعليمية أسستها الحركة خارج تركيا في كل ربوع العالم تقريبا، وقد ركزوا على بلدان البلقان والاتحاد السوفيتي السابق والخارجة من العهد الشيوعي.
* من الذي يعلم؟ حيث ركز كولن على أهمية ومحورية دور المعلم والمدرسة وخصائصهما الواجبة في كتاباته حيث يقول: إن المعلم الحق هو ذلك الذي يبذر البذرة الطاهرة ويحافظ عليها، إن من واجبه أن يكون ممتلئا بكل ما هو جيد وصالح، وأن يقود ويرشد الطفل في حياته وفي وجه كل الأحداث، ويقول أيضا: المدرسة هي المكان الذي يمكن للإنسان فيه أن يتعلم كل شيء له علاقة بالحياة والآخرة، إنها يمكن أن تلقي الضوء على الأفكار والأحداث الحيوية، وتمكًن طلابها من فهم بيئتهم الطبيعية والإنسانية، وأن المدارس الجيدة التي تستحق هذا الاسم هي سرادقات للملائكة تنمي الإحساس بالفضيلة في تلاميذها وتقودهم ليحققوا نبل العقل والروح.
* كيف نعلم؟ لعل السؤال الذي يثور دائما حينما تذكر تجربة حركة فتح الله كولن التعليمية، وركائز الإيمان والأخلاق التي ترتكز عليها (إضافة إلى العلم) هو: كيف يمكن لتلك التجربة أن تنجح في توصيل المعاني التي تريد، في بلاد تتبع نهجا علمانيا متشددا يمنع من تعليم الدين في مدارسه؟ وقد نجحت تجربة كولن في الإجابة على ذلك السؤال الصعب، اقرأ له يقول:
"إننا نقول بحق، إن الألسنة والكلمات ليست لديها شيء لتقوله في وجود الأفعال، فحينما تتكلم السلوكيات، فهل هناك حاجة للحديث"..
أما عن العلم في مدارس كولن والذي يلازم البناء الروحي من خلالها فيقول عنها أحد الباحثين: إن السمة الفريدة (في تلك المدارس) هي إذكاء روح التنافس-المحمود فيما بينها-، ففي كل عام يتم إعداد وتوزيع التقارير التي تقارن بين أداء طلاب مدارس كولن العالية والمدارس الأخرى، حيث تسجل دائما الأولى نجاحات في امتحانات دخول الجامعات (...) وتشجع روح التنافس أيضا بتدريب وإرسال الطلاب إلى الأولمبيات الأكاديمية المختلفة المخصصة لطلاب المدارس العليا حول العالم، وغالبا ما يعود هؤلاء الطلاب بميداليات.
خريطة "الخدمة" في الحركة وصلتها بالأساس:
على هذا الأساس المتين بنيت أعمال الحركة، سعيا وراء هدف أسمى بإقامة عالمية إنسانية متسلحة بالإيمان والأخلاق والعلم، ولعلنا وبعد استعراضنا لنموذج المؤسسات التعليمية للحركة، نستطيع أن نستقرئ تلك الخريطة التي تبين العلاقة بين الأساس الروحي وأعمال الحركة المؤسسية، والتي يطلق عليها في أدبياتها لفظ "الخدمة" Hizmet وهي لفظة مستمدة من التراث الثقافي للمسلمين الأتراك والتي تعني كل عمل تطوعي يقوم على خدمة الخلق طمعا في رضا الحق، كما تبين العلاقة بين تلك الأعمال والغاية الروحية لها:
* عالمية إنسانية جديدة قائمة على الإيمان والقيم الإنسانية العالمية والعلم
* مؤسسات تعليمية
باتساع العالم إصدارات إعلامية متنوعة ومتعددة اللغات نشاط قومي وعالمي في الحوار.
موارد مالية متدفقة وجهود بشرية تطوعية.
يحركها الإيمان والحب والرغبة في البذل والعطاء.
وتحقيق الحلم.
أساس روحي وعلمي متين إيمان.. وأخلاق.. وعلم عصري
مشخصة في مثل ونماذج حية
حركة من أجيال الأمل
"إن أجيال الأمل باعتبار الزمن الحاضر هم ممثلو العلم والإيمان والأخلاق والفن، وهم مهندسو الروح لمن يأتون بعدنا..وسيشكل هؤلاء تكوينات جديدة في كل شريحة اجتماعية بتفريغ حرارة الإلهام لقلوبهم المتغذية بالأخرويات إلى الصدور المحتاجة إليها.. هذه هي الكلمات التي يملأ بها كولن جوانح تلامذته والتي بها ينطلقون حركة دائبة لخير الإنسانية.
اقرأ أيضاً على مجانين:
شذرات على هامش الرحلة الأمريكية / كل أزمة وأنتم بخير / إحياء طوائف الحرف.. واجب بلا صاحب