الصفحة الأولى: الصحة النفسية في الفكر الإغريقي
الصفحة الثانية: الصحة النفسية في الفكر الإسلامي
تتميز العصور الإسلامية عن العصور الإغريقية باعتمادها الدين الإسلامي مصدرا للهداية والتشريع وإدارة شئون الحياة. في حين كانت العصور الإغريقية عصورا وثنية، ازدهرت فيها الفلسفة التي تعلمها المسلمون في عهود ازدهارهم الحضاري لتعيش جنبا إلى جنب مع علم الكلام والعلوم الدينية الأخرى.
فقد عمدوا إلى تطويع المعطيات الفلسفية الإغريقية للمفاهيم الدينية أو ما عرف آنذاك بحركة التوفيق بين الفلسفة والدين. وما يهمنا هنا هو أن نبين الرؤية الإسلامية للصحة النفسية، كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وما قدمه بعض المفكرين الإسلاميين في هذا الميدان.
"وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون" (صدق الله العظيم)، وقد أشار القرآن الكريم صراحة إلى مرض القلوب في أكثر من موضح. يقول تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم)- سورة البقرة آية 1- وأيضا يقول " وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً" - سورة المدثر آية 31 ، وأيضا:"يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض" – سورة الأحـــزاب آية 32.
وتحدث القرآن الكريم عن أحوال النفس الإنسانية، فأشار بوضوح إلى النفس الأمارة بالسوء التي تزين لصاحبها الشهوات التي ذكرت في قوله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضلة والخيل المسومة والنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" - سورة آل عمران آية 5.
وقد اهتم الإسلام بالجسد وحث على المحافظة عليه، فقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو " اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري " كما حث الرسول الكريم على التداوي تخلصا من أمراض الجسد بقوله " تداووا، فإن الذي خلق الداء خلق الدواء". وقد كان واضحا أن هناك رباطا وثيقا بين النفس والجسم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب (أي يطيب به نفس المريض)..
إن سلامة الجسد من العلل وسلامة النفس من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل والقهر شرطان ضروريان للصحة النفسية أشار إليهما القرآن الكريم والسنة النبوية. لما كان الإنسان ليس نفسا وجسدا فقط إنما هو كائن اجتماعي أيضا، فقد حرص الإسلام على تنظيم علاقة الفرد بالآخرين، فدعاه إلى تحمل مسئولياته الاجتماعية واحترام إرادة الجماعة والالتزام بما اتفقت عليه ومشاركتها آلامها وآمالها وأفراحها وأتراحها.
ومن الملاحظ أن معظم مُفكرِي المسلمين قد صدروا أساسا عن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيما كتبوه من كتب ومقالات عن السلوك والدوافع والعواطف و الميول والسعادة والشقاء والهم والخوف والغضب والحب والكره والتوكل والرجاء والإيمان وغيرها من الموضوعات ذات العلاقة الوثيقة بالصحة النفسية، كما أنهم تفاعلوا مع الفكر الإغريقي واستفادوا من بعض مناهجه ورؤاه، ولكنهم تبنوا النظرة الإسلامية للإنسان واعتبروه كلا متكاملا مكونا من ثلاث قوى: النفس والجسم والروح، ممتزجة متداخلة لا يمكن الفصل بينها في الواقع ولا يوجد ما يدعو إلى هذا الفصل.
الإمام الغزالي:
هو أبو حامد محمد الغزالي، فقيه ومتكلم وفيلسوف وصوفي ومصلح ديني واجتماعي، له كتب متعددة. أخذ الغزال بفكره ثنائية البدن والنفس، واعتبر البدن من عالم الأرض والفساد والتحلل والفناء. أما النفس جوهر روحاني من عالم الملكوت لا تتحلل ولا تفنى بفناء البدن، وهي التي تديره وتتصرف به وتسوسه بالقوة العاملة.
اختلف الغزالي عن أفلاطون في نظرته الإسلامية إلى علاقة النفس بالبدن، فقد كان أفلاطون متشائما عندما اعتبر النفس غريبة عن البدن وسجينة فيه ومعذبة بحلولها فيه، وسعادتها في التخلص منه والتطهر من أدرانه بالموت أو بالانتحار، على عكس ذلك كان الغزالي متفائلا، فرفض فكرة حبس النفس في البدن لأنها جوهر، والجوهر لا يحل بمحل ولا يسكن في مكان، كما رفض فكرة تألم النفس من وجودها مع البدن لأنها في حاجة إليه في رحلتها من الدنيا إلى الآخرة، وشبه الغزالي حاجة النفس إلى البدن بحاجة المسافر إلى الدابة والزاد في سفره.
فالنفس بالبدن ليست في سجن تُعذب فيه و تسعى إلى الفكاك منه ولكنها معه في منزلة من منازل الهدى، ترتقي فيها من الأدنى (الدنيا) إلى الأعلى و الأفضل (الآخرة). وفي ذلك قال الغزالي: (البدن مركب الإنسان في سفرها ولا يمكن للعبد أن يصل إلى غايته ما لم يسكن البدن و يجاور الدنيا، لأن المنزل الأدنى لابد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى).
فالبدن ليس دنيئا ولا حقيرا بل هو مركب النفس إلى الآخرة، ولا بد من المحافظةعليه وحمايته حتى تبلغ النفس مبتغاها وتحقق غايتها، ومن هنا نظر الغزالي إلى الإنسان ككل متكامل من روح ونفس وجسم، وفسر سلوكه التوافقي على أساس أنه يتألف من علم يدفعه جانب معرفي وميل قوي وجداني، وقدرة على ذلك، فيتم الفعل (الجانب الحركي) .
وسلوك الإنسان سلوك مدفوع موجه نحو غاية دينية دنيوية، تنقسم دوافعه من حيث طبيعتها إلى ثلاث أنواع:
دوافع فردية: ( يقصد بها دوافع فسيولوجية وبيولوجية )، وهي ميول فطرية يقوم على إشباعها بقاء الإنسان وحفظ نوعه، ويرتبط بها حب التملك والجاه والسيطرة وحب الدنيا .
دوافع اجتماعية: وهي ميول مكتسبة تتصل بالحاجة إلى العائلة والمجتمع والأصدقاء والعشيرة .
دوافع قيمية: وهي ميول تتصل بحب الدين والحقيقة والخير والجمال .
وبالرغم من تأكيد الغزالي على أهمية إشباع جميع الدوافع لسعادة الإنسان، فإنه يدرج هذه الدوافع بحسب ضرورتها لبقاء الفرد وحفظ النوع، فيضع الدوافع الفردية أولا، تليها الدوافع الاجتماعية فالدوافع القيمية. وفي ذلك قال: شهوة البطن والفرج من أهم ميول الدنيا باعتبارهما الأصلح والألصق ببقاء الإنسان و يرتبط بهما باقي الحاجات.
كما قسم الغزالي الدوافع من حيث أنواعها إلى نوعين:
دوافع الدين أو بواعث الدين: وهي ميول إنسانية راقية تبعث على الطاعة والصلاح والتقوى ويندرج تحتها الخوف والرجاء والمحبة والشكر والتوكل والذكر وغيرها.
دوافع الهوى أو بواعث الهوى: وهي ميول دنيوية، تشمل الغضب والشهوات السبع التي ذكرها القرآن الكريم، وهي النساء والمال والبنون والخيل المسومة والأنعام والحرث، وكلها تتعلق بحب الدنيا والبحث عن اللذة العاجلة.
ولم يحط الغزالي من شأن دوافع الهوى لأنها ضرورية لبقاء الإنسان وتعمير الدنيا وعبادة الله ولكنها تنقلب إلى دوافع ضارة عندما تسيطر على سلوك الإنسان، فيأنس العقل للهوى ويصير في خدمته وتتغلب قوى البدن على النفس وتصبح الشهوات مقصودة لذاتها فتستغرق الهم والفكر.
ويعتبر الغزالي سيطرة شهوة البطن و الفرج أعظم مُهلِكات ابن آم لأنه إذا سيطرت هاتان الشهوتان اشتدت الرغبات في المال والحياة والكبرياء التي هي وسيلة للتوسع في طلب المنكوحات والمطعومات، وتؤدي إلى أنواع من الرعونة وضروب من المنافسة والُحسد والغضب والحقد والبغضاء والمباهاة، وتتولد عنها حينذاك مختلف الأخلاق الخبيثة فيشقى الفرد ويفسد المجتمع.
وربط الغزالي سعادة الإنسان بتحقيق غايته الأساسية، وهي الوصول إلى الله ولن يتحقق له ذلك إلا إذا وجه جميع طاقاته وإمكاناته ودوافعه من اجل هذه الغاية وسيطر على ميوله وأشبعها بقدر محمود ومن حلال، ووجهها إلى ما يفيده.
ويرى الغزالي أن الإنسان ميال بطبعه إلى إشباع شهوات الهوى، وفي ذلك شقاؤه وتعاسته، لذا كان من الضروري تربيته بتقوية بواعث الدين وإضعاف بواعث الهوى، ولا يتم ذلك إلا بتعويده على العمل الصالح، وتكوين العادات الحسنة عنده كالصدق والمحبة والعطف والتفكير السديد، فينطلق إلى الخير ويصل إلى غايته. والتربية التي يدعو إليها الغزالي هي التربية الإسلامية، فالعبادات إنما شرعت لإصلاح القلوب.
تطور مفهوم النفس
ويرجع الفضل إلى وليم جيمس (189) صاحب المدرسة الوظيفية للعقل في استخدامه الذات التجريبية وفسره على أنه مجموعة ما يمتلكه الإنسان من الجسم والسمات والقدرات والمهن والأصدقاء .
أما "كريتشمر" فقد صنف البشر إلى ثلاثة أنماط (نمط رياضي) وهو الذي يتميز بالجسم القوى والرشاقة في صور الجسم و (النمط الضعيف) النحيف الذي يتميز بضعف عام في شكل الجسم (طوله ـعرضه) (والنمط البدين) الذي يتميز بضخامة الجسم (والنمط المختلط) الذي يجمع بين الأنماط الثلاثة السابقة وذكر كريتشمر أن هناك علاقة بين الصفات الجسمية والصفات العقلية وأن الإنسان من النمط البدين إذا أصيب بمرض عقلي فهو يصاب بذهان الهوس والاكتئاب. أما الإنسان من النمط الضعيف الواهن والرياضي والمختلط فإنه يصاب بالفصام ولصورة الجسم جانبان هما:
1. مثال الجسم.
2. مفهوم الجسم.
فمثال الجسم يشمل النمط الجسمي الذي يعتبر جذابا ومناسبا من حيث العمر ومن وجهة نظر ثقافة الفرد التي تساهم في تقدير الفرد لذاته وأن صورة الجسم تبدو جذابة في سن العشرين وتتغير في سن الأربعين. أما مفهوم الجسم فيشمل الأفكار والمعتقدات وحدود الجسم أي إطاره وشكله الخارجي. وهذا ما أكده الفيلسوف العربي (فخر الدين الرازي) في كتابه (الفراسة) والذي ربط فيه بين هيئة ووصف أعضاء الجسم ودلالته النفسية.
ولهذا نجد أن من مقومات الصحة النفسية أن يكون الفرد مفهوما سليما حول جسمه وهذا لن يأتي إلا بالمعلومات الصحيحة عن جسمه من استشارات الفريق الصحي والرياضي. أما إذا كانت المعلومات غير الصحيحة عن الجسم فإن الفرد يشعر بالاغتراب عن جسمه وهذا يعتبر أحد أبعاد الاغتراب الذاتي.
إذاً فمثال الجسم ومفهوم الجسم من المكونات الرئيسية التي تسهم فيما يكونه الإنسان من صور حول جسمه وأن العلاقة طردية فعندما يتوه مثلا مفهوما الجسم تمثل صورة الفرد عن جسمه ويكون مفهوماً ذاتيا سلبيا والعكس صحيح. حيث إن الطفل يدرك جسمه في صورة كلية لا يدرك تفاصيل دقيقة تبدو في مرحلة الطفولة ثم في نهاية مرحلة الطفولة المتأخرة يتطور إدراكه ويبدأ في المقارنة بين جسمه من حيث الشكل والطول وأجسام زملائه.
ولهذا أثبتت الدراسات النفسجسمية أن الأطفال الذين يدركون قوة أجسامهم أكثر إقداما ونجاحا في تكوين صداقات مع الآخرين من زملائهم حيث إنهم أكثر ودا وتعاوناً معهم، كما يتميزون بالثقة بالنفس و الانبساطية، وهم الأطفال الموهوبون الذين يكون لديهم مفهوم ذاتي إيجابي عالي (اعتزاز بالنفس) حيث أثبتت الدراسات النفسية أن مفهوم الذات السلبي أو الإيجابي يُغرس بمرحلة الطفولة في سن الخامسة؛ ولكن عندما يدخل هذا الطفل مرحلة المراهقة فإنه يدرك جسمه بشيء من التفاصيل وخاصة لكل عضو من أعضاء جسمه وكأنه جزء قائم بذاته وهذا يرجع إلى التغيرات المفاجئة التي يتعرض لها في مرحلة المراهقة، وغالبًا ما يكون المراهق غير راض عن جسمه، حيث تتأثر صورة جسم المراهق بتقسيمات الآخرين، فجاذبية جسمه تحدد جاذبية المراهقة الاجتماعية نحو الآخرين.
أما في مرحلة الرشد فهي مرحلة هدوء. حيث يتوافق الراشد الذكر مع صورة جسمه، ويقتنع بها من حيث الطول والتناسق وملامح الوجه أما الأنثى في هذه المرحلة فتكون لها دور من عدم الرضا عن الذات الجسمية وخاصة النمط البدين منهن، حيث إن الرشاقة تكون شغلها الشاغل فهن حريصات على استخدام مستحضرات التجميل بصورة كبيرة وهذا ما يجعلهن يشعرن بالاضطرابات الانفعالية. فمفهوم الذات يعنى الفكرة التي يكونها الإنسان عن نفسه بما تتضمن من جوانب جسمية واجتماعية وأخلاقية وانفعالية من خلال تفاعله وعلاقاته بالآخرين في المجتمع.
المراجع:
1 - د.محمد عودة محمد ود. كمال إبراهيم موسى.الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام.2004
2- د.عامر النجار.تاريخ الطب في الدولة الإسلامية.1994
3- فهيم أبادير. من محاضرات ناريخ الطب.1982
4- د.محمد عثمان نجاتي. الدراسات النفسانية عند العلماء المسلمين.1993
ويتبع >>>>>: صفحات من تاريخ الطب النفسي: رورشاخ
واقرأ أيضا:
الطب النفسي الإسلامي / شبهات وردود