صفحات من تاريخ الطب: من محن الأطباء(1)
وبعد مضي سنوات قليلة ابتلي حنين بمحنة أخرى إذ كان بختيشوع بن جبرائيل -وفي رواية أخرى إسرائيل بن زكريا الطيفورى- الطبيب النسطوري قد قلب لحنين ظهر المجن وأصبح يعاديه ويحسده على علمه وفضله, فحاك له مكيدة عرضته لغضب الخليفة فأمر بسجنه وتعذيبه وتبديد مكتبته وبيته وكل ما كان يمتلكه. وقد سجل حنين تفاصيل هذه المحنة بقلمه ونقلها إلينا ابن أبي أصيبعة في كتابه الحافل: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء".
قال سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل أن حنين بن إسحاق مات بالغم من ليلته في أيام المتوكل، قال حدثني بذلك وزير أمير المؤمنين الحكم المستنصر باللّه قال: كنت مع أمير المؤمنين المستنصر فجرى الحديث فقال أتعلمون كيف كان موت حنين بن إسحاق؟؟!!
قلنا: لا يا أمير المؤمنين.
قال: خرج المتوكل يمشي حول قصره يوماً و به خمار فقعد في مقعده فأخذته الشمس، وكان بين يديه إسرائيل الطيفوري النصراني الطبيب وحنين بن إسحاق.
فقال له الطيفوري: يا أمير المؤمنين الشمس تضر بالخمار فقال المتوكل لحنين ما عندك فيما قال.
فقال حنين يا أمير المؤمنين لا تضر بالخمار فلما تناقضا بين يديه طلب كشفهما عن صحة أحد القولين فقال حنين يا أمير المؤمنين الخمار حال للمخمور والشمس لا تضر بالخمار إنما تضر المخمور.
فقال المتوكل: لقد أحرز من طبائع الألفاظ وتحديد المعاني ما فاق به نظراءه.
فوجم لها الطيفوري، فلما كان في غد ذلك اليوم أخرج حنين من كمه كتاباً فيه صورة المسيح مصلوباً وصور ناس حوله.
فقال له الطيفوري: يا حنين هؤلاء صلبوا المسيح
قال حنين: نعم
فقال له: أبصق عليهم قال حنين لا أفعل
قال الطيفوري: ولم؟؟!!
قال: لأنهم ليسوا الذين صلبوا المسيح إنما هي صور.
فاشتد ذلك على الطيفوري ورفعه إلى المتوكل يسأله إباحة الحكم على حنين لسبه ديانة النصرانية!!.
فبعث إلى كبير القساوسة والأساقفة وسئلوا عن ذلك فأوجبوا اللعنة على حنين فلعن سبعين لعنة بحضرة الملأ من النصارى وقُطع زناره. وأمر المتوكل أن لا يصل إليه دواء من قبل حنين حتى يستشرف على عمله الطيفوري، وانصرف حنين إلى داره فمات من ليلته فيقال مات غماً وأسفا أقول هذه حكاية ابن جُلجل وكذلك أيضاً وجدت احمد بن يوسف بن إبراهيم قد ذكر في رسالته في المكافأة ما يناسب هذه الحكاية عن حنين والأصح في ذلك أن بختيشوع بن جبرائيل كان يعادي حنين بن إسحاق ويحسده على علمه وفضله وما هو عليه من جودة النقل وعلو المنزلة فاحتال عليه بخديعة عند المتوكل وتم مكره عليه حتى أوقع به عند المتوكل وحبسه، ثم إن اللّه تعالى فرج عنه وظهر ما كان احتال به عليه بختيشوع بن جبرائيل، وصار حنين حظياً عند المتوكل وفضله على بختيشوع وعلى غيره من سائر المتطببين ولم يزل على ذلك في أيام المتوكل إلى أن مرض حنين فيما بعد المرض الذي توفي فيه وذلك في سنة أربع وستين ومائتين وتبين لي جملة ما يحكى عن حنين من ذلك وصح عندي من رسالة وجدت حنين بن إسحاق قد ألفها فيما أصابه من المحن والشدائد من الذين ناصبوه العداوة من أشرار أطباء زمانه المشهورين وهذا بعضا من نص قوله:
قال حنين بن إسحاق: لحقني من أعدائي ومضطهدي الكافرين بنعمتي الجاحدين لحقي الظالمين لي المتعدين علي من المحن والمصائب والشرور ما منعني من النوم وأسهر عيني وأشغلني عن مهماتي، وكل ذلك من الحسد لي على علمي وما وهبه اللّه عزّ وجلّ لي من علو المرتبة.
ولم يزل الحسد بين الناس على قديم الأيام حتى من يعتقد الديانة قد يعلم أن أول حاسد كان في الأرض قابيل في قتله لأخيه هابيل لما لم يقبل اللّه قربانه وقبل قربان هابيل وما لم يزل قديماً فليس بعجب أن أكون أنا أيضا أحد من يؤذى بسببه وقد يقال كفى بالحاسد حسده ويقال أن الحاسد يقتل نفسه قبل عدوه.
وهذه قصة المحنة الأخيرة القريبة وهي أن بختيشوع بن جبرائيل المتطبب عمل على حيلة تمت له علي وأمكنته مني إرادته في؛ وذلك أنه استعمل صورة عليها صورة السيدة العذراء مريم وفي حجرها سيدنا المسيح والملائكة قد أحاطوا بهما وعملها في غاية ما يكون من الحسن وصحة الصورة بعد أن غرم عليها من المال شيئاً كثيراً ثم حملها إلى أمير المؤمنين المتوكل وكان هو المستقبل لها من يد الخادم الحامل لها وهو الذي وضعها بين يدي المتوكل فاستحسنها المتوكل جداً وجعل بختيشوع يقبلها بين يديه مراراً كثيرة فقال له المتوكل لم تقبلها فقال له يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة نساء العالمين فمن أقبل.
فقال له المتوكل: وكل النصارى هكذا يفعلون.
فقال نعم يا أمير المؤمنين وأفضل مني لأني أنا قصرت حيث أنا بين يديك ومع تفضيلنا معشر النصارى فاني أعرف رجلاً في خدمتك وأفضالك وأرزاقك جارية عليه من النصارى يتهاون بها ويبصق عليها وهو زنديق ملحد لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة، يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل.
فقال له المتوكل: من هذا الذي هذه صفته ؟! فقال له حنين المترجم فقال المتوكل: أواجهه وأحضره فإن كان الأمر على ما وصفت نكلت به وخلدته السجن، مع التضييق عليه وتجديد العذاب له.
فقال: أنا أحب أن يؤخر مولاي أمير المؤمنين إلى أن أخرج وأقيم ساعة ثم تأمر بإحضاره.
فقال: إني أفعل ذلك فخرج بختيشوع من الدار وجاءني فقال يا أبا زيد أعزك اللّه ينبغي أن تعلم أنه قد أهدى إلى أمير المؤمنين صورة قد عظم إعجابه بها وأحسبها من صور الشام وقد استحسنها جداً وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه تولع بها في كل وقت وسخر منا قائلاً هذا ربكم وأمه مصورين، وقد قال لي أمير المؤمنين أنظر إلى هذه الصورة ما أحسنها، ماذا تقول فيها؟
فقلت له: صورة مثلها يكون في الحمامات وفي الكنائس وفي المواضع المصورة وهذا مما لا نبالي به ولا نلتفت إليه.
فقال: وليس هي عندك شيء.
قلت: لا.
قال: فإن تكن صادقاً فابصق عليها فبصقت وخرجت من عنده وهو يضحك، وإنما فعلت ذلك ليرمي بها ولا يكثر الولع بنا بسببها ويميزنا دائماً، ويسخر منا (وكان هذا من طبع المتوكل، حيث كان جميع حاشيته عرضة للسخرية في مجلسه، وبالذات إذا لعبت الخمر بعقولهم جميعاً).
فما كان إلا ساعة حتى جاءني رسول أمير المؤمنين فأخذني إليه فلما دخلت عليه إذ الصورة موضوعة بين يديه فقال لي يا حنين ترى ما أحسن هذه الصورة وأعجبها فقلت واللّه إنه لكما ذكر أمير المؤمنين فقال: فماذا تقول فيها؟ أو ليست هذه صورة ربكم وأمه؟!!
فقلت: معاذ اللّه يا أمير المؤمنين أن للّه تعالى صورة أو يصور ولكن هذا مثال في سائر المواضع التي فيها الصور
فقال: فهذه لا تنفع ولا تضر.
فقلت: هو كذلك يا أمير المؤمنين
فقال: فإن كان الأمر على ما ذكرت فابصق عليها فبصقت عليها.
فللوقت أمر بحبسي، ووجه إلى "ثوذسيس" كبير القساوسة فأحضره فلما دخل عليه ورأى الصورة موضوعة بين يديه وقع عليها قبل أن يدعو له؛ فاعتنقها ولم يزل يقبلها ويبكي طويلاً فذهب الخدم ليمنعوه فأمر بتركه فلما قبلها طويلاً على هذه الحالة أخذها بيده وقام قائماً فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه فرد عليه وأمره بالجلوس فجلس وترك الصورة في حجره.
فقال له المتوكل أي فعل هذا تأخذ شيئاً كان بين يدي وتتركه في حجرك عن غير إذني.
فقال له كبير القساوسة: نعم يا أمير المؤمنين أنا أحق بهذه التي بين يديك وإن كان لأمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه أفضل الحقوق غير أن ديانتي لم تدعني أن أدع صورة ساداتي مرمية على الأرض، وفي موضع لا يعرف مقدارها بل لعله أن يعرف لها قدرها، لأن حقها أن تكون في موضع يعرف فيه حقها ويسرج بين يديها أفضل الدهان من حيث لا تطفأ قناديلها مع ما يبخر به بين يديها من أطايب البخور في أكثر الأوقات.
فقال أمير المؤمنين: فدعها في حجرك الآن.
فقال كبير القساوسة: إني اسأل مولاي أمير المؤمنين أن يجود بها علي ويعمل على أنه قد يقطعني ما مقدار قيمته مائة ألف دينار في كل سنة حتى أقضي من حقها ما يجب علي ثم يسألني أمير المؤمنين ما أحب بعد ذلك فيما أرسل إلي بسببه.
فقال له قد وهبتها لك وأنا أريد أن تعرفني ما جزاء من بصق عليها عندك فقال له كبير القساوسة إن كان مسلماً فلا شيء عليه لأنه لا يعرف مقدارها لكن يعرّف ذلك ويلام ويوبخ على مقدار ما فعل حتى لا يعود إلى مثل ذلك مرة أخرى، وإن كان نصرانياً وكان جاهلاً لا يفهم ولا معرفة عنده فيلام ويزجر بين الناس ويتهدد بالجرم العظيمة ويعذل حتى يتوب وبالجملة فهذا فعل لا يقوم عليه إلا جاهل لا يعرف مقدار الديانة فان كان عاقلاً وقد بصق عليها فقد بصق على مريم أم سيدنا وعلى سيدنا المسيح.
فقال له أمير المؤمنين : فما الذي يجب على من فعل ذلك عندك.
فقال: ما عندي يا أمير المؤمنين إذ كنت لا سلطان لي أن أعاقبه بسوط أو بعصا ولا لي حبس ضنك بل أحرمه وأمنعه من الدخول إلى الكنائس ومن القربان وأمنع النصارى من ملابسته وكلامه، وأضيق عليه ولا يزال مرفوضاً عندنا إلى أن يتوب ويقلع عما كان عليه وينتقل ويتصدق ببعض ماله على الفقراء والمساكين مع لزوم الصوم والصلاة فحينئذ نرجع إلى ما قال كتابنا وهو: إن لم تعفوا عن الخاطئين لم يغفر لكم خطاياكم فنحل حرم الجاني ونرجع إلى ما كنا عليه، ثم أمر أمير المؤمنين كبير القساوسة بأن يأخذ الصورة.
وقال له: أفعل بها ما تريد وأمر له معها ببدرة دراهم وقال له أنفق ما تأخذه على صورتك فلما خرج كبير القساوسة لبث قليلاً يتعجب منه ومن محبته لمعبوده وتعظيمه إياه.
ثم قال: إن هذا الأمر عجيب. ثم أمر بإحضاري فأحضرت إليه وأحضر السوط والحبال، وأُمر بي فشددت ثم أمر بإحضاري مجرداً بين يديه وضربت مائة سوط، وأمر باعتقالي والتضييق علي، وأمر فحمل جميع ما كان في الدار لي من رحل وأثاث وكتب وكل محتوياته، وبعد ذلك أمر بهدمه!!.
وأقمت في داخل داره معتقلاً ستة أشهر في أسوا ما يكون الحال حتى أصبحت أثير شفقة كل من يراني، وكان أيضا كلما تذكرني أمير المؤمنين يوجه إلي من يضربني ويجدد لي العذاب. واتفق أن مرض أمير المؤمنين مرضاً شديداً بعد أن حبسني، وعجز من حوله من الأطباء عن علاجه، وادعوا أن مرض أمير المؤمنين حدث لشؤم عملي وبصقي على الصورة!!!.
وأعدائي من الأطباء عنده يقولون له: لو أراحنا مولانا أمير المؤمنين من ذلك الزنديق الملحد لأراح منه الدنيا، ولانكشف عن الدين منه محنة عظيمة، فلما طالت مسألتهم له في أمري وكثر ذكرهم لي بين يديه بكل سوء قال لهم: فما الذي يسركم أن أفعل به قالوا تريح العالم منه، وكان مع ذلك كل من سأل في أمري وتشفع في من أصدقائي، فيقول بختيشوع: يا أمير المؤمنين هذا بعض تلاميذه وهو يعتقد اعتقاده فيقل المعينون لي ويكثر المحرضون علي!!.
فقال لهم أمير المؤمنين وقد لجوا عليه في السؤال: فإني أقتله في غد يومنا هذا وأريحكم منه فسر بذلك الجماعة وانصرفوا على ما يحبون.
فجاءني بعض الخدم وقال لي: أنه جرى في أمرك كذا وكذا فسألت اللّه عزّ وجلّ التفضل بما لم تزل أياديه إلي بأمثاله مع ما أنا فيه من كثرة الاهتمام وشغل القلب مما أخاف نزوله بي في غد بغير جرم أستوجبه ولا جناية جنيتها بل بحيلة من احتال علي وطاعتي لمن مكر بي واغتالني وقلت: اللهم إنك عالم براءتي فأنت أولى بنصرتي، وطال بي الفكر إلى أن حملني النوم فإذا بهاتف يحركني، ويقول لي: قم فاحمد اللّه واثن عليه فقد خلصك من أيدي أعدائك وجعل عافية أمير المؤمنين على يديك فطب نفساً، فانتبهت مرعوباً ثم قلت كلما كثر ذكره في اليقظة لم تنكر رؤيته عند النوم فلم أزل أحمد اللّه وأثني عليه إلى أن جاء وجه الصبح فجاءني الخادم ففتح علي الباب ولم يكن وقته الذي يجيئني فيه فقلت هذا وقت مبكر، لقد جاءني ما وُعدت به البارحة.
وقد جاء وقت رضاء أعدائي وشماتتهم بي واستعنت باللّّه فما جلس الخادم إلا هنيهة إذ جاء غلامه ومعه مزين ثم قال تقدم يا مبارك ليؤخذ من شعرك فتقدمت فأخذ من شعري ثم مضى بي إلى الحمام فأمر بغسلي وتنظيفي والقيام علي بالطيب كما أمره مولاي أمير المؤمنين ثم خرجت من الحمام فطرح علي ثياباً فاخرة وردني إلى مقصورته إلى أن حضر سائر الأطباء عند أمير المؤمنين وأخذ كل واحد منهم موضعه فدعاني أمير المؤمنين.
وقال: هاتوا حنيناً فلم تشك الجماعة أنه إنما دعاني لقتلي فأدخلت إليه فنظر إلي ولم يزل يدنيني إلى أن أجلسني بين يديه.
وقال لي: قد غفرت لك ذنبك وأجبت السائل فيك فاحمد اللّه على حياتك وأشر علي بما ترى فقد طالت علتي فأخذت مجسته وأشرت بأخذ خيار شنبر منقى من قصبه وترنجبين.
فقال الأطباء الأعداء: نعوذ باللّه يا أمير المؤمنين من استعمال هذا الدواء إذ كان له غائلة سيئة.
فقال لهم: أمسكوا فقد أمرت أن آخذ ما يصفه لي، ثم أنه أمر بعمل الدواء وأخذه لوقته، ثم قال لي يا حنين اجعلني من كل ما فعلته بك من حل فشفيعك إلي قوي.
فقلت له: مولاي أمير المؤمنين في حل من دمي فكيف وقد مَنَّ علي بالحياة ثم قال تسمع الجماعة ما أقوله فأنصتوا إليه فقال: أعلموا أنكم انصرفتم البارحة مساء على أني أبكر فأقتل حنيناً كما ضمنت لكم، فلم أزل أقلق إلى نصف الليل متوجعاً، فلما كان ذلك الوقت أغفيت فرأيت كأني جالس في موضع ضيق وأنتم معشر الأطباء بعيدون عني بعداً كبيراً مع سائر خدمي وحاشيتي، وأنا أقول لكم ويحكم ما تنظرون إلي في أي موضع أنا؟!، أهذا يصلح لمثلي وأنتم سكوت لا تجيبوني عما أخاطبكم به؟!
فإذا أنا كذلك حتى أشرق علي في ذلك الموضع ضياء عظيم مهول حتى رعبت منه، وإذا أنا برجل قد وافى جميل الوجه ومعه آخر خلفه عليه ثياب حسنة، فقال السلام عليك فرددت عليه، فقال لي أتعرفني؟ فقلت: لا فقال: أنا المسيح فقلقت وتزعزعت وقلت: من هذا الذي معك؟!
فقال: هذا حنين بن إسحاق
فقلت: اعذرني فلست أقدر أن أقوم أصافحك.
فقال: اعفُ عن حنين واغفر ذنبه فلقد غفر الله له، واقبل ما يشير به عليك فإنك تبرأ من علتك فانتبهت وأنا مغموم بما جرى على حنين مني، ومفكر في قوة شفيعه إلي (يقصد سيدنا المسيح عليه السلام)، وإن حقه الآن علي واجب؛ فانصرفوا ليلزمني كما أمرت وليحمل إلي كل واحد منكم عشرة آلاف درهم لتكون دية من كل شخص سألني قتله!.
وهذا المال يلزم من حضر المجلس البارحة وسأل في قتله، ومن لم يكن حاضراً فلا شيء عليه، ومن لم يحمل ما أمرت بحمله من هذا المال لأضربن عنقه. ثم قال لي أجلس أنت والزم رتبتك، وخرج الجماعة فحمل كل واحد منهم عشرة آلاف درهم فلما اجتمع سائر ما حملوه أمر بأن يضاف إليه مثله من خزانته؛ فكان زائداً عن مائتي ألف درهم، وأن يسلم إلي ففعل ذلك، فلما كان آخر النهار وقد أقامه الدواء ثلاثة مجالس أحس بصلاح وخف ما كان يجد.
فقال يا حنين أبشر بكل ما تحب فقد عظمت رتبتك عندي، وزادت طبقتك أضعاف ما كنت عليه من قبل؛ فسأعوضك أضعاف ما كان لك وأحوج أعداءك إليك وأرفعك على سائر أهل صناعتك ثم إنه أمر بإصلاح ثلاث دور من دوره التي لم أسكن قط منذ نشأت في مثلها، ولا رأيت لأحد من أهل صناعتي مثلها، وحمل إليها سائر ما كنت محتاجاً من الأواني والفرش والآلة والكتب وغيرهم، بعد أن أشهد لي بالدور وتوثق لي بشهادات العدول لأنها كانت خطيرة في قيمتها فهي تساوي ألوف الدنانير؛ ولمحبته لي وميله إلي أحب أن تكون لي ولعقبي مثل تلك الدور، ولا تكون علي حجة لمعترض فلما فرغ مما أمر به من الحمل إلى الدور وجميع ما ذكر وتعليق أنواع الستائر على أبوابها ونوافذها، ولم يبق غير المضي إليها، فأمر بحمل المال الضعف الكثير بين يدي وحملني على خمسة رؤوس من خيار بغلاته الخاصة بمواكبها.
ووهب لي ثلاثة خدم روم وأمر لي في كل شهر بخمسة عشر ألف درهم وأطلق لي الفائت من رزقي في وقت حبسي فكان شيئاً كثيراً، وحمل من جهة الخدم والحرم وسائر الحاشية والأهل ما لا يمكن أن يحصى من الأموال والخلع والإقطاع، وصرت المقدم على سائر الأطباء من أعواني وغيرهم، وهذا قد تم لي لما لحقني من السعادة التامة، وهذا ما جرى علي بعداوة الأشرار، وكما قال جالينوس أن الأخيار من الناس قد ينتفعون بأعدائهم الأشرار ولعمري لقد لحق جالينوس محن عظيمة إلا أنها لم تكن تبلغ إلى ما بلغت بي أنا هذه المحن، وإني لأعلم مراراً كثيرة أن أول من كان يعدو إلى باب داري في حاجة تكون له إلى أمير المؤمنين أو أن يسألني عن مرض قد حار فيه أحد أعدائي الذين قد عرفتك ما لحقني منهم.
وكنت وحق معبودي أسارع في قضاء حوائجهم، وأخلص لهم المودة، ولم أكافئهم على شيء مما صنعوه بي ولا واحداً منهم أخذته بذلك، فكان سائر الناس يتعجبون من حسن قضائي حوائجهم بعد ما كانوا يسمعونهم يقولون في عند الناس، وخاصة عند مولاي أمير المؤمنين وصرت أنقل لهم الكتب على الرسم بغير عوض ولا جزاء وأسارع إلى تلبية جميع ما يحبونه.
قال حنين: وإنما ذكرت سائر ما تقدم ذكره ليعلم العاقل أن المحن قد تنزل بالعاقل والجاهل والشديد والضعيف والكبير والصغير، وإنها وان كانت لا شك واقعة بهذه الطبقات التي ذكرنا فما سبيل العاقل أن ييئس من تفضل اللّه عليه بالخلاص مما بلي به بل يثق وبحسن ثقته بخالقه يزيد في تعظميه وتمجيده، فالحمد للّه الذي منَّ علي بتجديد الحياة وأظهرني على أعدائي الظالمين لي، وجعلني أفضلهم رتبة، وأكثرهم حالاً حمداً كثيراً دائماً، وهذا جملة قول حنين بن إسحاق بلفظه.
[وفي هذه المحنة الثالثة الكبرى بحياة حنين بن إسحاق ما يؤلم النفس ويضيق الصدر، وأحس أن في الرواية الثانية شيئاً من المبالغة، والتي رواها الرواة عن حنين بن إسحاق نفسه كما كتبها في أحد رسائله، والتي نقلها لنا ابن أبي أصيبعة في كتابه: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، ولم أكن أتصور أن الحسد والحقد قد يجعلان من طبيب كبير- متمكن من صنعته (مثل جبرائيل بن بختيشوع)، ومُفترض فيه الحكمة -شيطاناً يمكر بزميل له هذا المكر ولدرجة أن يسعى ذلك الزميل الطبيب إلى تحريض الحاكم على قتل زميله حنين بن إسحاق - أياً كان وضع هذا الزميل وهو على نفس دينه وملته!!!- ولكنني بالفعل قرأت مثل ذلك في هذا الكتاب!!.
ومن المعروف عن الخليفة المتوكل تقلباته وشطحاته وعدم اتزانه عند اتخاذه الكثير من قراراته، فهو أول من سمح باللعب والضحك والهزل في مجلس الخلافة من بين سابقيه من خلفاء بني العباس، وهو الذي عذب وزير أبيه وأخيه من قبله محمد بن عبد الملك الزيات حتى الموت انتقاماً منه على عدم إظهاره كثير الود وكثير الاحترام له وهو ولي للعهد، وذلك رغم كفاءة الوزير الزيات وتمكنه من شئون الدولة، وهو الذي قتل العالم الجليل والمربي الفاضل أحمد بن السكّيت عندما سأله المتوكل سؤالاً مستفزاً عن ولديه وليا العهد محمد وعبد الله – والإمام السكيت هو المربي والمعلم لهما- فقال له المتوكل:
"هل ولداي أفضل أم الحسن والحسين أبناء علي؟" (رضي الله عنهم جميعاً)، فما كان من المعلم الفاضل إلا أن قال: "لقنبرا خادم الإمام علي رضي الله عنه أفضل منهما"، فما كان من المتوكل إلا أن ثار غضبه ولفه في بساط وانهال عليه ركلاً وضرباً بقدميه، ونُقِل الرجل إلى بيته مساءاً في حالة يرثى لها، وتوفي صباح اليوم التالي، وفي عهده ازداد نفوذ الجند الأتراك وتسلطهم على أمور الخلافة، ولما أحس قادة هؤلاء الجند بتقلبات المتوكل المزاجية وأنه أخذ في قتل بعضهم لأسباب واهية، خافوا أن تكون الدائرة عليهم؛ فأوغروا صدر ابنه وولي عهده الشاب الصغير محمد المنتصر على أبيه فشارك هذا الابن اثنين من كبار قادة الأتراك في قتل أبيه المتوكل حتى تؤول الخلافة إليه وليس لأخيه الأصغر عبد الله المعتز.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما عُرف عن المتوكل كراهته لاستخدام الذميين في الشئون الرسمية للدولة إلا عن ضرورة وكراهة لذلك؛ فيمكننا بعد معرفة كل تلك الصفات عن المتوكل ألا نستبعد تفاصيل قصة تلك المحنة الأخيرة لحنين بن إسحاق، والتي رواها في إحدى رسائله ونقلها لنا ابن أبي أصيبعة في كتابه.
ومن فوائد هذه المحنة تعليم الناس: أن الأطباء ولو كانوا ماهرين في صنعتهم فهم في النهاية بشر قد يحسِدون وقد يحقدون وقد يظلِمون، وهم ليسوا أنصاف آلهة كما يظن بعضهم من الماهرين والنابغين في تخصصاتهم أو كما يظن بعض مرضاهم. وبناءاً على هذا الكلام يجب أن يخضع كل الأطباء لقوانين الثواب والعقاب ولأحكام قانونية رادعة لكل من يخالف ما أقسم عليه كطبيب يوم تخرجه، وبداية السماح له بمزاولة مهنة الطب، ولو كان هذا الطبيب أستاذاً نابهاً نابغاً من أساتذة الطب أو وزيراً ذا سلطة في حكومة دولته. ولنا في شريعة حمورابي ببلاد الرافدين والمكتوبة باللغة المسمارية من حوالي 4000 عام قدوة ومثل، والتي تميزت أحكامها وبنودها وموادها القانونية بالحزم والشدة، والتي من ضمنها:
أي طبيب يتسبب علاجه الخطأ في ضياع بصر المريض يُعاقب ذلك الطبيب بفقأ عينه، والطبيب الذي يتسبب علاجه الخطأ في بتر طرف المريض يُعاقب ببتر نفس الطرف لدى ذلك الطبيب!.
مما نلاحظه أيضاً في عداوة بعض الأطباء لحنين بن إسحاق: أن الجانب الأخلاقي في شخصيات الأطباء على قدر كبير من الأهمية، وأن هذا الجانب في شخصية كل طبيب لا يرتبط بالمستوى المادي أو الاجتماعي أو الثقافي للشخص والدليل على ذلك هو تصرف جبريل بن بختيشوع مع زميله حنين بن إسحاق، رغم أن أبا جبريل وجده بل أجداده كانوا من أطباء الخلفاء، بينما أجداد حنين بن إسحاق كانوا من تجار الحيرة وهذا ما عيره به يوحنا بن ماسويه عندما طرده من بيته ومجلسه في بداية تعلم حنين للطب!!، لذا أعتقد أن الجانب الأخلاقي لدى الطبيب الممارس للمهنة على درجة من الأهمية تجعلنا نضعه نصب أعيننا عند تقويمنا وإجازتنا لذلك الطبيب.
والنقطة الهامة التي أود ذكرها في النهاية هي أن هذه النخبة من أطباء هذا العصر الذهبي للحضارة الإسلامية كانوا جميعاً أطباءً نابغين، وعلى درجة عالية جداً من الحرفية وإجادة تامة لصنعة الطب في زمنهم، بالإضافة إلى خلفياتهم النظرية القوية من علوم الفلسفة والمنطق والكلام وعلم النفس واللغات الحية في عصورهم والتاريخ وغيرهم الكثير من العلوم النظرية.....
ولكن ما بقي لنا للتفرقة بين قدراتهم وملكاتهم ودرجة تميزهم على أقرانهم هو الجانب الأخلاقي لكل منهم، وأعتقد أنكم تشاركونني الرأي في أن نرفع جميعاً القبعة إجلالاً واحتراماً لمواقف حنين بن إسحاق الأخلاقية قبل قدراته العالية والمتميزة جداً في مجالي الترجمة والطب، ولعل في ذلك دروساً لكل طبيب منا في أن يحرص على أن يترك سيرة عطرة بين زملائه ومرضاه].
المراجع:
- ابن أبي أصيبعة. " عيون الأنباء في طبقات الأطباء ". تحقيق الدكتور عامر النجار القاهرة . الهيئة المصرية العامة للكتاب. مصر
- محمد بك الحضري. تاريخ الأمم الإسلامية – الدولة العباسية – المكتبة العصرية–بيروت – لبنان.
- محمد غريب جود . عباقرة علماء الحضارة العربية و الإسلامية في العلوم الطبيعية والطب مكتبة القرآن – القاهرة - مصر.
- باقر أمين الورد. معجم العلماء العرب –عالم الكتب و مكتبة النهضة العربية –لبنان
- دكتور عامر النجا . في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية – دار المعرفة –مصر.
اقرأ أيضاً:
أوجه الشبه بين قتل صدام والمستعصم / صفحات من تاريخ الطب النفسي(2)