حين يصل الفساد لمواطن العفة(1)
أركان الفساد
وهناك أركان للفساد تتحالف مع بعضها وتتآمر لخلق منظومة الفساد التي تحاول أن تستفيد منها (أو تتوهم أنها ستستفيد منها) وهي:
0الحاكم المستبد (ويمثله فرعون)
0 السياسي الوصولي، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الحاكم المستبد، وتثبيت حكمه، وترويض شعبه للخضوع له (ويمثله هامان).
0 الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من المنظومة الاستبدادية الفاسدة، فهو يؤيد تلك المنظومة ببذل بعض ماله ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه (ويمثله قارون).
ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الفساد، ووقوفه في وجه رسالة موسى عليه السلام الهادفة إلى إصلاح الدنيا والآخرة. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) (غافر:23-24).
وهناك رابطة عضوية بين الاستبداد والطغيان وبين الفساد نراها في قوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ"(القصص:4)، "وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ" (الفجر 9-12). وقد يتغير ترتيب هذا الثالوث في مرحلة متأخرة من الفساد حيث يصبح لرأس المال السيطرة الأعلى على الحكم، ولو من وراء ستار، وهذه دلالة تدهور الأوضاع ووصولها إلى مرحلة الخطر، وهذا ما يتضح في الآية التالية حين يذكر قارون قبل فرعون (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) (العنكبوت:39).
والعجيب –كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي- أن قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، ولكنه بغى على قومه وانضم إلى عدوهم فرعون، وقبله فرعون معه، دلالة على أن المصالح المادية هي التي جمعت بينهما برغم اختلاف عروقهما وأنسابهما.
• الشعب الخاضع المستكين: فلا يمكن أن ينتشر فساد ويتغلغل في شعب حي يرفض الفساد ويقاومه بيده وبلسانه وبقلبه. وقد ذم القرآن المتخاذلين عن مقاومة الفساد والمنكرات، واستخدم في ذلك الذم لفظ اللعن "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" (المائدة 78،79). وفي الحديث الشريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري).
وللدكتور القرضاوي تعليق مهم على هذا الحديث حيث يقول: "ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنا وشرب الخمر، وما في معناها، إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر، لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر. وهكذا نجد دائرة المنكرات تتسع وتتسع لتشمل كثيرا مما يعده الناس في صلب السياسة، فهل يسع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتا أو ينسحب من الميدان هاربا أمام هذه المنكرات وغيرها... خوفا أو طمعا أو إيثارا للسلامة؟".
وخيرية أي أمة ارتبطت بحيويتها وقدرتها الدائمة على مقاومة الخبائث والمنكرات والمفاسد التي تتسلل إلى جسدها من وقت لآخر، وهذا مصداق لقوله تعالى:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". أما إذا عجزت الأمة عن تنظيف صفوفها ولفظ خبثها واستسلمت للظلم وخضعت للظالمين خوفا وطمعا، فهنا يصدق عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم" أي فقدوا استحقاق الحياة ولحقوا بالأموات، وفي بعض الروايات: "وبطن الأرض خير لهم من ظاهرها".
ونظرا لخطورة تغلغل الفساد في أي مجتمع نرى أن النصوص الدينية تعلي من أمر مقاومته وتضعه في الأولويات، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أفضل الجهاد بأنه "كلمة حق عند سلطان جائر"، وكأنه هنا فضل الإصلاح الداخلي على جهاد الأعداء على الحدود أو خارجها، وهذا منطقي جدا فالفساد الداخلي يمهد ويسهل للغزو الخارجي بكل أنواعه العسكرية والاقتصادية والثقافية. ومن أجل هذا تصبح الشهادة على طريق الإصلاح الداخلي من أعلى درجات الشهادة في سبيل الله كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
وربما نفهم ذلك في إطار أن الإصلاح الداخلي يحتاج لقدر عال من الوعي وقدرة على الخروج على المألوف والسائد في المجتمع الذي عمه الفساد وأصبح عرفا مقبولا فيه، ثم قدرة أكبر للخروج على ضغط الجماعة، ثم قدرة أكبر وأكبر لمواجهة أركان الفساد والمستفيدين منه بكل مالهم من سطوة وغلبة وتأثير في ظل رأي عام متصف بالسلبية والخوف واللامبالاة.
أدوات الفساد
لابد للفساد من أدوات للترهيب والترغيب حتى تخضع له الرقاب ويسلم له العباد (أو العبيد) إرادتهم وخياراتهم. والفاسد والمفسد يعرف جيداً مواطن ضعف البشر ويحاول استغلالها بأبشع الطرق وأكثرها حقارة ودهاء في نفس الوقت . ونذكر من هذه الأدوات حسب ترتيب أهميتها:
1- السلطة: فالأب الفاسد يستغل نفوذه المالي وقوته الجسدية ومكانته المعنوية في إفساد أبنائه، والمسئول الفاسد يستغل ما يملك من صلاحيات للتحكم في رقاب مرؤوسيه وإفسادهم حتى يستطيع ممارسة فساده دون اعتراض من أحد، والحاكم الفاسد يستغل جنوده (الشرطة والجيش) لإرهاب رعيته ويستغل النظام السياسي الموالي له لإضفاء الشرعية على أفعاله وتجريد خصومه من تلك الشرعية ووصفهم بالتآمر والخيانة والإفساد في الأرض وتعكير صفو الأمن، ويسعى ذلك الحاكم الفاسد إلى إفساد من حوله ومن تحته ومن خلفه (بوعي أو بدون وعي) وذلك كي تتوافق المنظومة كلها على تردد واحد ونغمة واحدة يصبح ما عداها نشازا، لأن الفساد إذا وجد وحده دون إفساد تصبح هناك فرصة لالتقاطه والوعي به ومقاومته، لذلك فلابد للفاسدين أن يتحولوا في مرحلة ما لمفسدين لغيرهم كي تستقر الأمور من حولهم ويموت الوعي العام بالفساد، ويصبح الجميع متورطين فلا يرفع أحد رأسه مدعيا النزاهة أو مطالبا بالإصلاح.
والقرآن يصور هذا الموقف في قوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)(القصص:8). وقوله (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(القصص:40).
2- المال: ومن لا يصلح معه الترهيب بالسلطة يصلح معه الترغيب بالمال، ولهذا يحرص الفاسدون على إمساك الثروة في أيديهم لتكون وسيلة ضغط على من تحتهم، ووسيلة ترغيب وشراء ذمم.
3- المناصب: ينتقى الفاسد من بين الناس أولئك المتعطشين للمناصب والراغبين في العلو بأي ثمن فيستخدمهم ويستعملهم كدروع له وكأدوات لحمايته وتبرير أفعاله، كما أنه يحرص على توريطهم في الفساد حتى تصبح رقابهم في يده يقطعها وقتما يشاء ويذلها حسبما يريد ويبتزها طول الوقت، وقد يستخدم بعضهم ككبش فداء يضحي به حين يريد تحليت صورته أو ادعاء محاربة الفساد أمام الرأي العام.
4- الإعلام: فالفاسد يحتاج لمن يداري عوراته ويزين سوءاته ويسوق مشروعاته وأفكاره بين الناس ويبرر أخطاءه ويحولها إلى انتصارات ويمارس التزييف للوعي والتخدير للعقول ودغدغة المشاعر طول الوقت. ومن هنا يمكن أن نعتبر الإعلاميين الموالين لأي فاسد بمثابة سحرة فرعون الذين كانت مهمتهم أن يسحروا أعين الناس بمعنى تزييف وعيهم.
5- رجال الدين: ونقصد بهم فئة معينة من رجال الدين يقبلون إضفاء شرعية دينية على مظاهر الفساد والإفساد وإضفاء شرعية على كل أفعال الفاسد واستغلال المفاهيم الدينية لتبرير وتمرير كل ما يقوم به، وإصدار الفتاوى المبنية على تفسيرات تلوي عنق الحقيقة لمصلحة استمرار الفساد . وكل فاسد يسعى إلى تقريب عدد من رجال الدين (حتى ولو كان هو ملحداً أو علمانياً) لمعرفته بقيمة الدين لدى الناس وتأثرهم به وقد يظهر احترامه للرموز الدينية ويحرص على الظهور الإعلامي معهم في المناسبات المختلفة.
أنماط الفساد
هناك أكثر من طريقة لرؤية أنماط الفساد، فبعض الباحثين يقسمه إلى الأنماط التالية بناءا على توزيعه على خريطة المجتمع:
1 – الفساد الوظيفي: حين تسود البيروقراطية والرشوة والمحسوبية فتصبح هي معيار التعيين ومعيار الأداء.
2 – الفساد القانوني: ويظهر في العبث بمواد الدستور لصالح النخبة الحاكمة، أو أصحاب المصالح الخاصة، ويمتد ذلك إلى القوانين المنظمة لعجلة الحياة في المجتمع، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتخطاه إلى تجاوز أحكام الدستور، وتعطيل القوانين أو التطبيق الانتقائي لها بما يحقق المصالح الذاتية لرعاة الفساد والمستفيدين منه مع إهدار أحكام القضاء في حالة صدورها لغير صالح النخبة الحاكمة والمتحكمة.
3 – الفساد السياسي: ويظهر في دكتاتورية النظام الحاكم واستبداده وأبديته، وفي اقتناص السلطة واستبعاد بقية التيارات السياسية، وفي تكوين الدولة القرصان التي تشبه في سلوكها العصابات من حيث السرية والنوايا الخبيثة والعمل على امتصاص دماء المجتمع لصالح عدد قليل من الأشخاص مع اعتياد الكذب والتحايل والخداع. كما يظهر في صورة تزوير الانتخابات وتزييف إرادة الجماهير وتغييبها عن إدارة شئون البلاد، مع الحرص على التعيين الانتقائي في المراكز القيادية بحيث تستبعد كل العناصر غير الموالية مهما كانت قدراتها وكفاءاتها، فالمعيار الوحيد للاقتراب من قمة السلطة هو الولاء الحزبي أو الفئوي أو الأيديولوجي في معناه التعصبي الضيق، وبهذا يتم تجريف النخبة السياسية مع الوقت من كل العناصر الموضوعية الصالحة ذات الكفاءة وذات الرأي الشجاع المستقل في حين تتراكم العناصر الفاسدة وتجتذب إليها كل من هم على شاكلتها بحثا عن التواؤم والانسجام وتغطية للعورات.
4 – الفساد الديني: وهو دائما تابع للفساد السياسي، حيث يعمد أركان الفساد السياسي إلى تقريب العناصر الرخوة من رجال الدين لاستخدامهم في تبرير أفعالهم وتزيينها للعامة وإضفاء الشرعية عليها، فهم يعلمون مدى تأثر الناس بالرموز الدينية ومدى قوة الشرعية الدينية فيعملون على توظيفها حتى وهم أنفسهم غير منتمين لقيم الدين ومبادئه، أو حتى وهم يعلنون أنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وهذا يشكل استخداما انتقائيا للدين لتحقيق مصالح النخبة الحاكمة مع حرمان الآخرين من نفس السلاح.
5 – الفساد المجتمعي: وهو مكمن الخطر، حيث ينتشر فيروس الفساد إلى طبقات المجتمع المختلفة فيتورط الجميع في الفساد وتتلوث أيديهم به فيفقدون القدرة على رؤيته فضلا عن استنكاره ومدافعته، وبهذا يستقر الأمر للفاسدين، ويصبح الشعار القائم "يا عزيزي كلنا لصوص"، فلا يجرؤ أحد على ادعاء الطهارة أو المطالبة بالإصلاح، وهنا يصبح الفساد هو القاعدة، ويصبح المصلحون غرباء ومثيرين للقلق ومرفوضين من الغالبية الفاسدة، وهذا يسهل على السلطة الفاسدة اجتثاثهم ورميهم بتهم مثل تكدير الأمن العام أو السعي لقلب نظام الحكم (المقلوب فعلا).
واستنادا إلى معيار الرأي العام يقسم بعض الدارسين الفساد إلى ثلاثة أنواع (نقلا عن كتاب الفساد السياسي في إفريقيا):
1 – الفساد الأسود: وهو يتضمن كافة الأعمال التي تحظى باتفاق الأغلبية في مجتمع معين (سواء من جانب النخبة أو الجماهير) على أنها تندرج تحت إطار الممارسات الفاسدة التي ينبغي التخلص منها ومعاقبة من يقومون بها.
2 – الفساد الرمادي: وهو يوجد حيثما ترى بعض عناصر النخبة في مجتمع معين أن عملا ما يعد من قبيل الفساد وتقوم بإدانته بينما يكون رأي الجماهير غامض في هذا الصدد.
3 – الفساد الأبيض: وهو ينطبق على الأعمال التي ترى كل من النخبة والجماهير في مجتمع معين أنه يمكن التغاضي عنها حيث أنها لا تستحق العقاب، وإن كانت بعض عناصر النخبة ترى ضرورة توقيع مثل هذا العقاب.
الفساد ومواطن العفة
قد يتسامح المجتمع مع الكثير من مظاهر الفساد السائدة على مستوى السلطة الحاكمة أو على مستوى المؤسسات أو على مستوى الوزارات أو البرلمان أو غيرها، ولكن هناك مواطن يعتبرها أي مجتمع مواطن عفة يحرص على بقائها خارج منظومة الفساد قدر استطاعته، نذكر من هذه المواطن: القضاء، والشرطة، والتعليم، والطب، والمؤسسة الدينية. وتتحدد مواطن العفة على أساس كونها صمام أمان لأي مجتمع وحصون أخيرة يلجأ إليها الجميع ويحتاجها الجميع في اليسر والعسر، ولهذا يكون ثمة اتفاق غير مكتوب بالمحافظة على هذه القلاع الأخيرة بعيدة عن مستنقع التلوث، ولهذا يصبح اقتراب الفساد من مواطن العفة في المجتمع ظاهرة تثير الكثير من القلق بل تستحق أن تصبح زلزالا يهز كل أركان المجتمع ويدعوه للانتباه قبل فوات الأوان.
فمثلا إذا بدأنا نسمع عن أشياء كثيرة تشوب تعيينات النيابة العامة ونسمع ونقرأ عن حوادث رشوة تمس بعض القضاة أو تورطات سياسية لبعض رموز العدالة أو محاولات استقطاب للجهاز القضائي بواسطة السلطة التنفيذية، كل هذا يجعل من حقنا أن نقلق على هذا الحصن المنيع (أو الذي يجب أن يظل منيعا)، ومن هنا نفهم وقوف الناس مع القضاة في أزمتهم وحرصهم على مساندتهم في تنظيف صفوفهم ومنع تسلل المغريات السياسية أو المالية أو الحزبية إليهم.
وإذا رأينا جهاز الشرطة يتمدد بل ويتوحش ويصبح وسيلة في يد أفراد معدودين يحققون به مصالحهم وأمنهم بعيدا عن أمن الناس، أو أن يصبح جهازا للتصنت على أصحاب الرأي والمعارضين لحزب من الأحزاب أو أن يصبح في خدمة مصالح هذا الحزب دون سواه، أو أن يصبح أداة للترهيب السياسي والاجتماعي بما يعوق محاولات الإصلاح ويعوق ضغط الرأي العام في اتجاه التغيير، كل هذا ينزع عن جهاز الشرطة دوره الأساسي في حماية مصالح الناس وتحقيق الأمن لهم، وإتاحة الفرصة أمامهم للتعبير السلمي عن احتياجاتهم.
وحين يتحول جهاز الشرطة إلى أداة لتزوير الانتخابات وتزييف الاستفتاءات ومنع الناس من الوصول إلى اللجان، ومنع الناس من التظاهر السلمي الذي تكفله كل دساتير الدنيا كحق من حقوق الإنسان في المجتمعات الحديثة فإن ذلك إشارة إلى ابتعاد هذا الجهاز عن وظيفته. وحين يصبح الجهاز الأمني متهما من الرأي العام ومن الجهات الرقابية المحلية والدولية بانتهاك حقوق الإنسان وممارسة التعذيب فإن ذلك ضوء أحمر وجرس إنذار يضع ذلك الجهاز المهم في مواجهة غير منطقية وغير إنسانية مع أهله وناسه.
وحين يتعامى جهاز الشرطة أو بعض أفراده عن تجاوزات قانونية أو أخلاقية لحساب بعض الأشخاص أو الأحزاب فإن ذلك يسحب عن ذلك الجهاز موضوعيته وحياديته ومصداقيته. ولا يتصور أحد أن تتحول السلطة المخولة لأفراد هذا الجهاز لأداء وظائفه مصدرا لتحقيق المصلحة الشخصية وأن تتحول إلى استغلال للنفوذ وتحطيم للقوانين العامة وانتهاكا للحقوق الخاصة، وكمثال على ذلك قيام بعض المنتسبين إلى جهاز الشرطة بتسهيل الغش في الامتحانات لأبنائهم أو أبناء أقاربهم أو أصدقائهم استنادا إلى سلطتهم المطلقة في المجتمع.
وإذا أصبحت الدروس الخصوصية في مرحلة ما تمثل نوعا من التعليم الموازي ثم أصبحت في الوقت الحالي تمثل نوعا من التعليم البديل، وتسرب الطلاب من المدارس إلى حجرات مغلقة فوق الأسطح وتحت السلالم، وانسحب مفهوم التربية، وأصبح الطلاب يلتقون بأستاذهم على القهوة لتحديد مجموعات الدروس الخصوصية وهو يشاركهم شرب السجائر والبانجو، وأصبح الغش في الامتحانات قاعدة يعتبر الخارج عليها أو الرافض لها متعنتا ومتشددا وظالما، فإننا أمام صورة من صور تسرب الفساد لأحد مواطن العفة في أي مجتمع وهو التعليم.
فإذا انتقلنا إلى الجامعات، والتي كانت حرما في السابق سيحزنننا امتداد الفساد إليها بل وتمدده فيها في صور متعددة نذكر منها على سبيل المثال: سقوط هيبة الأستاذ الجامعي من خلال تورطه في المتاجرة بالمذكرات أو الكتب مع طلبته أو إعطاء الدروس الخصوصية، أو التورط في تسريب الامتحانات لأبنائه أو أقاربه أو معارفه، أو تعيين من يشاء واستبعاد من يشاء بناءا على معايير شخصية أو عائلية أو سياسية أو مادية. كما أن الجهاز الإداري في الجامعة أصبح متورطا في الكثير من مظاهر الفساد العامة كالرشوة والمحسوبية وغيرها.
ولم تعد أسوار الجامعة تشكل حرما كما كانت في الماضي فأصبح الجهاز الأمني داخل أسوارها يعين هذا ويستبعد ذاك ويحرك الأمور من خلف الستار أحيانا ومن أمام الستار في أحيان أخرى، وأصبحت التعيينات في المناصب القيادية العليا مرهونة بحسابات أخرى قد يكون آخرها الكفاءة العلمية والإدارية. وأصبحنا نسمع عن سرقة الأبحاث وتلفيقها وتأليفها ونسمع عن الرشاوي في الحصول على الشهادات والترقيات . وتدنت المستويات العلمية داخل الجامعات وأصابها ما أصاب بقية المجتمع من خلل، وتم اختراقها بكل صور الاختراق المرضية.
أما مجال الطب والعلاج فله حساسية خاصة حيث يتصل بصحة الناس وحياتهم، وقد كان الطبيب فيما مضى يسمى حكيما ويحظى باحترام وإجلال ومصداقية لا يحظى بها أحد غيره، ولم لا وهو يطلع على عورات الناس وأسرارهم برضاهم وثوقا فيه وتسليما بأمانته، وهو يعمل على الحفاظ على صحتهم وأرواحهم. وإذا بنا نسمع كثيرا في السنوات الأخيرة عن عمليات متاجرة بصحة الناس وحياتهم وأعضاء جسمهم، وعن عمليات نصب واحتيال وجشع لدى بعض الأطباء، وإلى مغالاة في الأجور بشكل استفزازي، وإلى عمليات تبادل منافع مع المعامل ومراكز الأشعة وشركات الأدوية لامتصاص دم المريض، وإلى حالات إهمال صارخة ومفزعة في العيادات والمستشفيات الخاصة منها والعامة. وزيارة واحدة لأي مستشفى حكومي تضعنا أمام حقيقة مفزعة وهي أن الفساد والإهمال قد وصلا إلى الحصن الطبي وتغلغلا في كثير من أجزائه.
أما المؤسسة الدينية فهي تشكل ضمير المجتمع وتعتبر بمثابة حلقة وصل بين الأرض والسماء أو قنطرة بين الدنيا والآخرة، ولهذا يقلق الجميع حين يرى أي مظهر للتدهور في أي ركن من أركان تلك المؤسسة مثل الفتاوى الموظفة سياسيا، أو الاستقطاب لمصلحة بعض الأشخاص أو المؤسسات، أو الانفلات الدعوي، أو الجري وراء الكاميرات والميكروفونات بحثا عن الشهرة والثروة، أو تبني الآراء الشاذة والغريبة والدعوة إليها خارج إطار التاريخ وخارج نطاق المنطق السليم وبعيدا عن أصول ومقاصد الشريعة بحثا عن الفرقعة الإعلامية والشهرة الشخصية، أو الجهل الشديد بالدين لدى خريجي الجامعات الدينية وتردي مستوى الخطباء في المساجد، أو شيوع التفكير الخرافي لدى المنتمين للدعوة الدينية. كل ذلك يضع علامات حمراء حول بعض أو الكثير من أركان المؤسسة الدينية التي يحرص الجميع على بقائها بيضاء ناصعة.
ووصول الفساد إلى مواطن العفة في أي مجتمع دليل على أننا أمام مرحلة متأخرة وخطيرة، وأن الانهيار التام قد يصبح وشيكا، أو أن المجتمع يدخل في مرحلة اللاعودة، أو أن ثمة اتفاق عام على قبول الفساد وتغلغله بلا أي استثناءات، أو أن محاولات الإصلاح قد تصبح مستحيلة إلا بعد زوال كل المنظومات القائمة وقيام منظومات جديدة وأن هذا الأمر قد يحوي بداخله انهيارات خطيرة تستمر لسنوات طويلة تأتي على البنية الأساسية في المجتمع، وقد تقضي على أمنه وأمانه لسنوات طويلة (كما حدث في العراق).
أعراض الفساد الرئيسية
1 – الرشوة: وهي من أكثر أعراض الفساد ظهورا، ويرى أرنولد روجو وهارولد لازويل أنها جوهر الفساد من حيث أنها تؤدي لانهيار النظام العام حيث لا يرى الراشي أو المرتشي إلا تحقيق مصلحتهما الشخصية ولو على حساب المصلحة العامة، وهنا تنهار المصلحة العامة. وتبدأ الرشوة على استحياء في صورة هدايا ثم تتحول إلى إكراميات ثم تتم من خلال درج المكتب المفتوح ثم تطلب علانية بعد ذلك كحق مكتسب لا تتم قضاء الحوائج إلا به.
2 – المحسوبية: وفيه تحل العلاقات الشخصية والعائلية والطائفية والحزبية محل الكفاءة والخبرة في الوظائف العامة، وبذلك تنهار معايير الاختيار الموضوعية ويسند الأمر إلى غير أهله.
3 – استغلال المنصب العام: وطبقا لتعريف جيمس سكوت فإن استغلال المنصب العام هو "ذلك السلوك القائم على التخلي عن الواجبات الرسمية المرتبطة بالوظيفة العامة في سبيل تحقيق مصلحة خاصة أو انتهاك لقواعد رسمية في سبيل تكوين أنماط معينة من النفوذ والتأثير لتحقيق مصلحة خاصة".
4 – الغش في الامتحانات والتزوير في الانتخابات: هناك علاقة وثيقة بين شيوع الغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات فكلاهما ينتمي لنفس الاضطراب الأخلاقي الذي يتيح تغيير الحقيقة ويتيح الحصول على أشياء دون وجه حق ويتيح تزييف الحقائق وشراء الضمائر وبيعها وإفساد الذمم، وصعود من لا يستحق. وهنا تتكون معايير جديدة للصعود مجملها الكذب والتحايل والسرقة والخداع، وتغيب في المقابل معايير الصدق والأمانة والاجتهاد والعمل الدءوب، وشيئا فشيئا يتزايد عدد الصاعدون بوسائل الغش والتزوير فتتكون نخبة سياسية أو إدارية فاسدة نشأت على هذه القيم ولذلك تدعو لها وتدعمها.
الدولة الرخوة
في المراحل المتوسطة من الفساد تتحول الدولة إلى ما يسمى الدولة الرخوة وهي تتسم بما يلي:
0 اللامبالاة وبطء الحركة، والتي تصل إلى درجة الجمود ويظهر ذلك في ثبات الشخصيات الحاكمة لسنوات طويلة دون تغيير وتثبيت السياسات والممارسات الحكومية حتى مع ثبوت فشلها.
0ضعف الاستجابة لمطالب الناس واحتياجاتهم فترى الحكومة وكأنها لا تسمع الشكوى الصادرة من فئات كثيرة في المجتمع، وإذا سمعت فهي تستجيب ببطء شديد لا يتناسب مع المواقف وسخونتها أو لا تستجيب على الإطلاق.
0لا تتحرك أجهزة الدولة إلا حين حدوث كوارث كبرى، وما أن تمر الكارثة حتى تعود أجهزة الدولة إلى سباتها في انتظار كارثة أخرى قادمة.
0 ضعف القدرة الرقابية على الأشخاص والأجهزة والمؤسسات بما يتيح فرصة مواتية لتمدد الممارسات الفاسدة دون خوف من عقاب.
0 عدم وجود مشروع قومي أو هدف عام يجمع طاقات الناس والمؤسسات لتحقيقه.
0 الاستهانة بالكرامة الوطنية والنظر بتراخ واستخفاف إلى ما يهدد الأمن القومي، والاكتفاء بتحقيق الأمن الشخصي والمصالح الذاتية للنخبة الحاكمة.
0 يصبح الدور الخارجي (على المستوى الإقليمي أو الدولي) للدولة الرخوة باهتا وضعيفا، وتفقد تأثيرها في الأحداث، وتصبح تحركاتها مجرد ردود أفعال للأحداث أو وسيط معنوي بين الأطراف.
0 تتميع لديها الثوابت العقائدية والسياسية والتاريخية والحضارية، وينعدم لديها الإحساس بالهوية والقيمة، وبالتالي تتقبل بسهولة الكثير من المواقف المهينة على المستوى الدولي.
0 تفقد القدرة على رعاية شعبها في الداخل ورعاية أبنائها في الخارج، بل تصبح هي عالة على هؤلاء وعبئا عليهم.
الدولة القرصان
وهي تظهر في المراحل المتأخرة من الفساد، وهي تسبق الانهيار العام للنظام مباشرة، ذلك الانهيار الذي يمكن أن يحدث في غضون شهور أو سنوات ولكنه بالضرورة آت آت، لأن قوانين المجتمعات لا تحتمل وجود الدولة القرصان لفترات طويلة، كما أن قوانين القرصنة تجعل الجميع يأكلون بعضهم البعض فيصبح الانهيار حتميا. وفيما يلي خصائص الدولة القرصان كما تتضح من الدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية:
0سيطرة الفرد الحاكم أو أسرته على مقاليد الأمور بشكل مطلق، وترسيخ نظام الحكم الدكتاتوري المستبد، وتوجيه سائر الأمور لتحقيق المصالح الشخصية للحاكم على أنها المصالح القومية العليا، واغتصاب السلطة، واعتبار البلد رهينة في يد الحاكم وبطانته.
0تكوين بطانة حول الحاكم الفرد تحميه وتحمي في نفس الوقت مصالحها الذاتية، وتصبح هذه البطانة مسيطرة على كافة الأجهزة والمؤسسات وتوجهها لتحقيق مصالحها ومصالح الحاكم الفردية.
0 يصبح هدف الحاكم الفرد وبطانته البقاء في مقاعدهم واستمرار تدفق الأموال إلى حساباتهم وإحكام سيطرتهم على مقاليد الأمور لأطول فترة ممكنة، ولضمان هذه السيطرة يتم تكوين أعين وأذرع من الأجهزة الأمنية والأجهزة الحكومية تكون مهمتها حماية مصالح النخبة الحاكمة وضمان بقائها والتخلص من معارضيها.
0تتحول الأعين والأذرع إلى أدوات فساد تنتشر في كل الأجهزة والمؤسسات، وتترسخ مع الوقت قيم الانتهازية والقرصنة والسلب والنهب والنفاق والخداع والكذب، وشيئا فشيئا تتحول أجهزة الدولة إلى أوكار للفساد.
0 يصبح الفساد هو أسلوب الحياة المعتمد فعليا على المستوى الرسمي والشعبي، وشيئا فشيئا تغيب صيحات الاستنكار والاستهجان لذلك الفساد.
0تتحالف أجهزة الدولة مع رموز الفساد وتسهل لهم الحصول على الصفقات وتحقيق الأرباح الخيالية على أن يقتسم الجميع الكعكة فيما بعد، وتبسط أجهزة الدولة حمايتها على رموز الفساد حماية لنفسها وحفاظا على مصالحها.
0 يتم اغتصاب السلطة في أيدي أفراد معدودين أو فرد واحد وتستبعد بقية تيارات وفئات المجتمع، ويحدث هذا إما بشكل سافر، أو تحت ستار ديمقراطي خادع من خلال إجراء انتخابات أو استفتاءات مزورة تتحدد نتائجها سلفا.
0 يحدث تحالف واضح بين رجال السياسة ورجال المال ليخدم كل منهما مصالح الآخر ويستبعد المفكرون والمثقفون والعلماء.
0يتم استخدام عدد من فقهاء القانون الراغبين في السلطة لتفصيل القوانين وهندسة الدستور والتحايل بكل الطرق بما يحقق مصالح النخبة السياسية والمالية، كما يتم استخدام عدد من رجال الدين ذوي الرخاوة الدينية والشخصية لتمرير وتبرير كافة تصرفات النخبة الحاكمة وإعطائها شرعية دينية.
0 وتبالغ الدولة القرصان في الحديث عن الطهارة والشفافية وسيادة القانون واحترام الدستور بينما هي تدوس كل هؤلاء. وحين ترى أن الدستور أو القوانين تعوق حركتها وتعطل مصالحها تعمد إلى تغيير كل هؤلاء عند أول فرصة ممكنة.
0 تتم عمليات تمويه وخداع كثيرة حيث يتشدق النظام بالمصلحة العامة والمصلحة الوطنية والمصلحة القومية ليل نهار في حين هو يقصد مصلحة الحاكم، ويتحدث عن الأمن القومي في حين هو يقصد أمن الحاكم وأسرته، ويتوحد الوطن كله مع الحاكم فيصبح أي مساس بشخص الحاكم هو مساس بالوطن فهما في القدسية سواء، وتظهر تعبيرات مثل "الزعيم الملهم" أو "رب العائلة" أو "صانع النهضة الحديثة" أو "المجاهد الأكبر" أو "المعلم" أو "قائد العبور للمستقبل" أو "حبيب الجماهير" أو "المخلص" أو "صاحب الحكمة"، وهكذا يحدث تضخيم لذات الحاكم حتى تبتلع بداخلها ذات الوطن ومصالحه، وينجح النظام القائم في إيهام الناس بأن زوال الحاكم هو زوال للوطن، وأن بقاءه هو صمام الأمان الوحيد للناس.
0كثيرا ما تحتاج الدولة القرصان إلى تأييد ودعم خارجي يضمن استقرارها ويغمض العين عن خطاياها، وفي مقابل ذلك تضحي بالثوابت الوطنية وبالأمن القومي، وترضى بدور التابع أو الشرطي أو السمسار أو البلطجي.
0وفي حالة الدولة القرصان (وهي قمة الفساد السياسي) يتحول جهاز الدولة إلى مؤسسة للفساد والسلب والنهب ويعمل جميع أفراد جهاز الدولة لتحقيق مصالحهم الخاصة مع المبالغة في الحديث الإعلامي عن المصلحة العامة، والمسئولون في هذه الحالة يتحايلون على القوانين واللوائح وحتى على الدستور القائم، وتحدث تحالفات واتفاقات مشبوهة بين رجال السياسة ورجال المال بما يحقق مصالح الطرفين على حساب مصالح الجماهير، ويشيع الفساد في ظل الدولة القرصان حتى يصبح واقعا مألوفا يحاول بقية الناس تعلمه وإتقان آلياته لكي يتكيفوا مع منظومته السائدة.
دوائر المسئولية في مواجهة الفساد
للإنسان ثلاث دوائر من حيث رأيه وسلطته وبالتالي مسئوليته نوجزها فيما يلي:
0 الدائرة الأولى: له فيها رأي وسلطة، كمثل الأب في بيته، أو المدير في إدارته، أو الرئيس في دولته، وهنا تكون مسئولية التغيير كاملة أو شبه كاملة بناءا على مساحة السلطة المتاحة، بمعنى أن التغيير هنا سيكون باليد وباللسان.
0 الدائرة الثانية: له فيها رأي وليس له سلطة، كالمفكر والإعلامي وصاحب الرأي على المستوى العام، وكالموظف (غير القيادي) في محل عمله، والأبناء في الأسرة، وهنا يكون التغيير باللسان أو بالقلم أو بإبداء الرأي، أو بضغط الرأي العام، ولا يملك الشخص هنا القدرة على التغيير المباشر باليد لأنه لا يملك سلطة التنفيذ.
0الدائرة الثالثة: وفيها لا يملك الشخص رأيا ولا سلطة، وهذه الدائرة إما أنها لا تهم الشخص أساسا لذلك لا يكون فيها رأيا ولا يسعى لسلطة، أو أنها تهمه ولكن محظور عليه إبداء الرأي أو ممارسة الفعل، وهذا المشهد الأخير يكون غالبا في البيئة الاستبدادية سواء على مستوى الدولة أو مستوى الإدارة أو مستوى الأسرة حيث تصبح وسائل التعبير مغلقة فضلا عن وسائل التغيير.
وحتى في هذه الظروف لم تبرأ ساحة الإنسان من محاولة التغيير وهي التغيير بالقلب، والذي وصفه الحديث النبوي بأنه أضعف الإيمان، أي أنه الدرجة التي لا يصح الإيمان إلا بها، وهي إنكار المنكر واستنكار الفساد على مستوى القلب والمشاعر، وأهمية هذه الدرجة من الإنكار والاستنكار في ظل ظروف القهر والاستعباد تبدو في الإبقاء على جذور الصلاح حية في القلوب انتظارا للحظة مواتية للتغيير، وهذا الأمر هو بمثابة تعبئة فكرية ووجدانية وروحية ضد المنكر والفساد والظلم والطغيان، وهي ليست انسحابا أو هروبا أو سلبية وإلا لما سماها الحديث النبوي "تغييرا"، وإنما هي إعداد نفسي داخلي وتطهير للضمائر من قبول الفساد، وتجميع لضغط فردي داخلي يلتقي في لحظة ما بضغط متجمع في نفوس أفراد آخرين أتقياء أنكروا المنكر والفساد بقلوبهم ليخلق هذا ضغطا جماعيا يواجه الفساد والإفساد في لحظة مواتية للتغيير.
وفي الحديث النبوي يسمى هذا الإنكار التعبوي "جهاد القلب" ففي حديث رواه مسلم عن ابن مسعود –مرفوعا-: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
من هذه الدوائر نرى أن لكل إنسان حظه في مقاومة الفساد لأن الفساد مرتبط بالإنسان وبالحياة في كل المراحل، فهو أشبه بالميكروبات والفيروسات التي تخترق الجسد في كل لحظة وتحاول الفتك به، ولولا وجود جهاز المناعة في الجسد الحي لهلك الناس جميعا.
ماذا بعد؟
من السذاجة أن يتصور أحد أن بإمكان هذه الدراسة وضع حل للفساد يغطي كل جوانبه، ومع هذا سنحاول إعطاء بعض المفاتيح الأساسية تتصل غالبا بالبعد النفسي والاجتماعي للفساد.
دعنا نرى الفساد حين يصل إلى قمته لنرى كيف نتعامل معه وهذا يجعل التعامل مع الدرجات الأدنى أكثر سهولة. هناك سيناريوهات متعددة للفساد نذكر منها:
0 أن تنتبه النخبة الفكرية والثقافية والعلمية لما وصل إليه حال المجتمع من الفساد، خاصة أن هذه النخبة بتكوينها العقلي تكون قادرة على اجتياز عتبة المألوف اجتماعيا واختراق حاجز العتمة وتنبيه عموم الناس للخطر الذي لا يرونه، وبمعنى آخر تكون هذه النخبة عصيّة على الاستلاب الذي تمارسه السلطة على بقية الناس. ولا يكفي التنبيه، بل يحتاج لأن يتبعه تجميع سلمي لهذه النخبة، وإرادة ذات نفس طويل تجعل من العدد القليل منهم نواة يتجمع حولها كل الراغبين في الإصلاح، ويجب أن تحتفظ هذه الدعوة بسلميتها وحياديتها وموضوعيتها وزهدها في مكاسب السلطة أو المال، وحرصها الشريف على المصلحة العامة وسلامة الوطن.
ومن خلال جهود هذه النخبة تزداد مساحة الوعي وربما تبدأ آليات أخرى داخل أحزاب أو نقابات أو مؤسسات أهلية في المجتمع لتحدث ضغطا سلميا على المؤسسات السياسية بهدف الإصلاح الحقيقي، وتكشف في ذات الوقت أي محاولات للتلفيق أو التحايل أو الخداع. قد يبدو هذا الحل رومانسيا ومبالغا في التفاؤل، وهذا صحيح فقد تصبح هذه النخبة هدفا للسلطة القائمة تسعى لاستئصالها أو تشويهها أو استقطابها، وهذا ممكن في حالة تلوث النخبة وضعفها.
0 أن يستمر الفساد ويتضخم ويصبح سرطانا يأكل بعضه بعضا فيفاجأ الجميع بانهيار مفزع في أي لحظة تنهار معه أركان البنية الأساسية وتحدث الفوضى وتمر سنوات إلى أن يحدث تجميع مرة أخرى على برامج ورؤى ومنظومات جديدة.
0 أن يحدث انقلاب على السلطة من داخلها أو من قوة متربصة أخرى وتتحول مقاليد الأمور إلى قوة غامضة لا يعرف أحد نواياها وتوجهاتها، أي أن المصير يوضع في يد المجهول.
0أن يحدث تدخل خارجي مباشر (في صورة احتلال كما حدث في العراق) أو غير مباشر (بالضغوط والأعمال المخابراتية) لوضع خريطة جديدة للمجتمع تحقق في الأساس مصالح القوى الخارجية وتشكل وصاية على الشعب وحكومته الجديدة العميلة في الأغلب.
0 أن تحدث هبّة شعبية عارمة تحت تأثير احتياجات أساسية محبطة (كالطعام والشراب والمسكن)، أو جرح للكرامة الوطنية أو مساس بالثوابت الدينية، وتكتسح الجموع الثائرة الغاضبة كل شيء في طريقها، ولا يمكن التنبؤ بالنتائج فالأمر يخرج هنا عن إطار المنطق العقلاني إلى إطار سلوك الحشد، وأحسن الفروض هو أن تظهر قيادة تستطيع التحكم في هذا الحشد الهائج بوعود إصلاحية وتغييرات أساسية يحلم بها ذلك الحشد، وقد تصدق هذه الوعود أو لا تصدق، المهم هو صرف مارد الحشد الذي توحش وانتفض بعد صمت طويل.
مراجع الدراسة
0 القرآن الكريم
0حمدي عبد الرحمن حسن (1993). الفساد السياسي في إفريقيا، الطبعة الأولى، دار القارئ العربي، القاهرة
0 يوسف القرضاوي (1994) . فتاوى معاصرة، الطبعة الثالثة، الجزء الثاني، دار الوفاء، المنصورة
0 فهمي هويدي (2007) . عن الفساد وسنينه، الطبعة الثانية ودار الشروق، القاهرة
اقرأ أيضاً:
بثينه ومنى... حدوتة مصرية / عماد الدين الكبير جدا / لنتعلم كيف نتعلم / المعارضة.. من النفس إلى الكون(1)