المعارضة.. من النفس إلى الكون(1)
شرعية السلطة وشرعية المعارضة
قد تقوم السلطة على شرعية دينية (الحكم بأمر الله أو بتفويض من الله كما يدّعى الحاكم)، أو على شرعية ثورية (مبنية على تخليص الشعب من سلطة استعمارية أو حاكم ظالم) أو على شرعية قبلية (أقوى القبائل شكيمة هي التي تحكم) أو على شرعية القوة (من يملك الجيش هو الذي يحكم) أو على شرعية دستورية (من خلال أحكام الدستور وصناديق الانتخابات)، أو على شرعية تلفيقية تزويرية (من خلال شكل دستوري مزيف وعن طريق انتخابات تم تزويرها). والسلطة الشرعية الدستورية هي أكثر السلطات موضوعية وواقعية وتوازنا وأقربها لتحقيق السلام الاجتماعي والتوازن بين قوى الشعب المختلفة لأنها تسمح بالتعبير المتوازن لكل القوى والطوائف التي يتشكل منها المجتمع، أما بقية الشرعيات الأخرى فهي تفتقد لهذه الموضوعية وتفتقد لحالة التوازن ولقيمة العدل، ولذلك تجدها في حالة توجس ويسيطر عليها الهاجس الأمني بشكل دائم، كالقطة الشرسة التي خطفت قطعة لحم وتعرف أن هناك من يطاردها، فتجد مبالغة في إظهار القوة (عربات الأمن في كل مكان تحمل جحافل الجنود المدججين بالسلاح) والبطش السلطوي (عمليات الاعتقال والتعذيب وانتهاك الأعراض.. وتعمد إظهار ذلك وشيوعه لدى الناس بصرف النظر عن ثمنه السياسي داخليا أو خارجيا)، وتجد توقفا تاما عن ممارسة السياسة بقوانينها ووسائلها والاكتفاء بالضبط الأمني والضغط الأمني والتوجيه الأمني، فالمفهوم السائد هنا عن الشعب أنه قطيع، والقطيع لا يساق إلا بالعصا.
أما شرعية المعارضة فتأتى من رغبة حقيقية لدى الناس في تغيير السلطة (إذا كانت غير شرعية) أو تعديل كيفية ممارستها للسلطة (إذا كانت شرعية). وعلى الرغم من أن المعارضة تتشكل من النخبة غالبا إلا أنها لكي تقوى وتنجح لابد وأن تكون معبرة عن أشواق واحتياجات قطاع مهم من الجماهير يشكلون الدعم والحماية لها من محاولات بطش السلطة. أما إذا كانت المعارضة تشكل فقط رؤية النخبة دون جذور جماهيرية فإن ذلك لا يمنحها شرعية مهما كان بريق أفكارها ومبادئها. وهذا يطرح سؤالا مهما: هل تبدأ المعارضة من القمة أم من القاعدة؟ والجواب هو أن تفاعلا ما غير منظور يحدث بين القاعدة والقمة، فالقمة تستشعر رفضا معينا لبعض الأوضاع فتقوم هي ببلورة هذا الرفض وتنشيطه لدى القاعدة، ثم تشكل مسارات تستقبل فيها جهود القاعدة ومساهماتها وتقود العمل نحو إحداث ضغط على السلطة يكفى لأن تغير السلطة في نفسها أو تتغير بالكامل.
ولكي تحافظ المعارضة على شرعيتها فإنها مطالبة بأن تلتزم بقواعد اللعبة السياسية والاجتماعية وأن لا تستجيب لاستفزازات السلطة بهدف جرها إلى ممارسات غير شرعية وبالتالي تجد السلطة مبررا لتصفيتها، وهذه تكاد تكون أهم وسيلة تستخدمها السلطة لتصفية معارضيها وتجريدهم من شرعيتهم، وقد تلجأ إلى الكذب أو التلفيق أو تستغل أخطاء المعارضة أو تدفعها لارتكاب الأخطاء المبررة لاجتثاثها بدعوى خروجها على الشرعية.
والمعارضة في حقيقتها ليست خروجا على الشرعية أو خيانة أو تآمرا أو عصيانا أو تمردا (كما تحب السلطة المستبدة أن تسميها أو تصفها)، ولكنها في الحقيقة جزء مهم من منظومة الشرعية، لا يحدث التوازن السياسي أو الاجتماعي بدونه، فالرأي لا تتضح قيمته وأهميته وصوابه من عدمه إلا بوجود الرأي الآخر الذي يعضده أو يفنده أو يعدله أو يعارضه، كل ذلك بعيدا عن التآمر أو الخيانة أو العصيان أو العمل السري الذي يعطى السلطة المستبدة وغير المستبدة الحق في تصفية المعارضة أو قمعها أو تشويهها.
والمعارضة في مفهومها السوي هي حوار بين كيان ناضج وكيان ناضج آخر يختلفان في الرؤى والمفاهيم والممارسات ويتنافسان في تقديم الأفضل للجماهير صاحبة المصلحة العليا، أما في الأوضاع غير السوية، فإن العلاقة تكون بين سلطة والدية (تدعى ملكية الحق والحقيقة والتوجيه المطلق) ومعارضة تأخذ دور الطفل المتمرد الساخط المنفلت، والذي يعطى التبرير للسلطة الوالدية لقمعه (راجع نموذج مسرحيتي مدرسة المشاغبين والعيال كبرت لترى العلاقة –في شكل كوميدي– بين سلطة والدية مستبدة وغير منطقية وبين ذات أو ذوات طفلية غير ناضجة تعطى للسلطة الوالدية المبرر للوصاية الدائمة عليها).
وشرعية المعارضة تبدأ من البيت حيث يتربى الأولاد والبنات على أن لهم الحق في إبداء آرائهم بحرية وبشكل بناء مع الاحتفاظ بواجب الاحترام للأبوين ككبار لهما تجربتهما وسلطتهما الأبوية، وينتقل هذا المبدأ إلى المدرسة فيستشار الطلاب في الكثير من أمور العملية التعليمية دون انتقاص من حق المدرسين والمديرين والموجهين أصحاب العلم والخبرة، ويتصاعد هذا النموذج المحترم للرأي والرأي الآخر إلى كافة المؤسسات حتى يصل إلى المؤسسة السياسية في صورته الناضجة الراشدة. وبدون ذلك النمو الطبيعي والتصاعد الهرمي الراسخ يصبح بناء المعارضة محاطا بالكثير من الشكوك، وهذا هو الوضع القائم في مجتمعاتنا العربية، فالشعوب تطمح إلى الحرية والتعددية والمساواة والعدل على المستوى السياسي الأعلى في حين تفتقد كل هذه القيم على كل المستويات بدءا من الأسرة مرورا بالمدرسة والمسجد والكنيسة وأماكن العمل والمؤسسات والأحزاب الشكلية (في حالة وجودها) والجماعات.
والنظم الاستبدادية قد تحرم مجموعات معارضة من الشرعية (من خلال حظر نشاطها أو تجريمه ووضعها تحت سيف القانون المدني العادي أو قانون الطوارئ أو القانون العسكري) وبذلك تدفعها للعمل السري الذي قد يتحول في أي وقت إلى عنف وتمرد وعصيان، وقد يجر المجتمع إلى حالة صدام بين العنف والعنف المضاد، وصراع غير سلمى على السلطة يدفع المجتمع كله فيه ثمنا فادحا. وهذا ما يجعل مبدأ المعارضة الشرعية تحت مظلة الدستور (وليس مظلة السلطة ورؤيتها فقط) أساسا هاما في استقرار المجتمعات. وقد ثبت عمليا أن المجتمعات التي أسست بناءها السياسي والاجتماعي على مشروعية السلطة والمعارضة هي المجتمعات الأكثر استقرارا والأكثر شفافية والأكثر عدلا والأقل فسادا، والعكس صحيح في المجتمعات التي ترفض المعارضة أو تخونها أو تلجمها أو تسحقها.
دوافع المعارضة
* المعارضة من أجل المعارضة: ويلجأ لهذا النوع شخصيات معينة يمكننا تقسيمها إلى عدة أنواع:
1- الشخصية النرجسية: وهو شخص محب لذاته ومعجب بها ويشعر أنه متفرد وأنه جدير بالشهرة والمكانة لذلك يسعى لنيلهما من خلال تبنى موقف معارض يمنحه تميزا وتفردا وتألقا.
2– الشخصية الهستيرية: يهتم صاحبها بالاستعراض وجذب الاهتمام والإثارة حتى ولو كلفه ذلك مواجهة المتاعب من سجن أو تشهير، فهو في النهاية يحقق أهدافه من الشهرة وتسليط الأضواء.
3- الشخصية البارانوية: وهى شخصية تشعر بالاضطهاد والظلم دائما و وتميل إلى الشك وسوء الظن، وتكره السلطة –أي سلطة– وتقاومها باستماتة.
4 – الفئات المحبطة والمهمشة: خاصة من الشباب الذين يفتقدون لفرص العمل وفرص الترقي فيصيبهم الإحباط والغضب من السلطة القائمة التي يشعرون أنها السبب في معاناتهم، فيأخذون موقف المعارضة تعبيرا عن غضبهم وسخطهم وربما بحثا عن فرصة لتحقيق ذواتهم المنسحقة أو المهمشة أو المستبعدة، فهم قد فشلوا في تحقيق أحلامهم وفشلوا في الاندماج في المجتمع، ولم يبق أمامهم إلا تصدير إحباطاتهم وصراعاتهم إلى الخارج من خلال الاشتباك مع السلطة ورموزها ومؤسساتها بصرف النظر عن نتائج هذا الاشتباك. والمعارضة في هذه الحالات تكون سطحية وبدائية وغير ناضجة ومشتتة ويمكن شراءها أو ترويضها أو احتواءها أو ابتزازها من قبل السلطة.
* المعارضة من أجل إسقاط السلطة: وهذا النوع من المعارضة يجمع الساخطين والغاضبين من تيارات مختلفة فيعملون على حشد الجماهير لهدف واحد فقط وهو إسقاط السلطة التي يعتبرونها في نظرهم غير شرعية أو ظالمة أو فاسدة، وهذا الهدف يستغرقهم تماما بحيث لا يفكرون في احتمالات البدائل، وهل ستكون أفضل أم أسوأ من السلطة القائمة. والدافع الوحيد لهذه المعارضة هو الغضب والسخط على السلطة القائمة والرغبة في تغييرها مهما كان البديل لها حتى ولو كان الشيطان نفسه فهو في نظرهم أفضل من الوضع القائم.
* المعارضة من أجل الإصلاح: وهى لا تسعى إلى تغيير السلطة القائمة بقدر ما تسعى إلى تعديل وتطوير وتحسين أداءها من خلال ما تبديه من ملاحظات وانتقادات، ولكن هذا النوع من المعارضة قد يتحول إلى الرغبة في إسقاط السلطة القائمة لكي يحل محلها في حالة يأسه من تعديل مسارها أو إصلاح حالها.
* المعارضة من أجل الوصول للحكم: وهى معارضة لا تهتم بطبيعة النظام القائم وفساده أو صلاحه وإنما تهتم بكيفية الوصول إلى كرسي الحكم، ولهذا تتصيد الأخطاء للسلطة القائمة لإبعادها عن السلطة وتسلم مقاليد الحكم منها. وقد يكون الدافع لذلك براجماتيا أو قبليا أو طائفيا أو دينيا.
* المعارضة من أجل التوازن والتكامل: وهى وضع مثالي للمعارضة قد لا يوجد كثيرا في الواقع، فهي تهتم بصلاح الأمور بصرف النظر عمن يديرها ولديها القدرة على احترام وتقدير إيجابيات السلطة في الوقت الذي تنتقد فيه بموضوعية سلبياتها وأخطائها، وهى لا تنتقد فقط وإنما تطرح البدائل والحلول الواقعية مدفوعة بالحرص على المصلحة العامة. وهذه المعارضة تكون على درجة عالية من الفهم والإدراك وبالتالي يكون تأثيرها أقوى في السلطة التي تعارضها وكذلك في تشكيل الرأي العام للمجتمع الذي تنتمي إليه. والمعارضة التكاملية لديها المرونة والجاهزية للانتقال من موقع المعارضة إلى موقع السلطة ثم العودة بعد ذلك إلى موقع المعارضة حسب ما تقتضيه المصلحة العامة وتوازنات القوى والمصالح.
المعارضة بين الهدم والبناء
يقول جون كينيث في كتابه "تشريح السلطة" (ترجمة عباس حكيم ، ص 99-100 ،دمشق 1994): "قد لا يكون أمرا عاديا على الدوام أن يتبادر إلى ذهن الفرد بصورة فورية البحث عن وسائل مقاومة السلطة التي لا يرغبها، وكيف يتمكن من حلها وتفكيكها – يعلن بأن ممارستها غير ملائمة وغير شرعية وغير دستورية، وظالمة أو شريرة، ويجب أن يتم لجمها، أو منعها من الممارسة، فالحكومة متسلطة جدا، ولهذا يجب أن تكون أقل حجما وأقل تدخلا في شئون المواطنين، وأقل هيمنة –أي أن شيئا ما لابد من فعله كي تخف سيطرتها.. هذا ما يبدو أنه رد الفعل الأول المنطقي على السلطة. أي أن المرء يسعى إلى أن يحد من ممارستها، أو يمنعها كلية، ومع هذا فليس ذلك هو الرد الذي يلجأ إليه الناس عموما على الصعيد العملي، كما أنه ليس الرد الذي يجده المقاومون للسلطة أجدى من غيره، إنما الرد الفعّال والأكثر تداولا على ممارسات سلطة غير مقبولة هو العمل لإنشاء موقف مضاد لها".
ومن هنا نفهم بأنه ليس كافيا أن تنتقد المعارضة السلطة وممارساتها ورموزها ليل نهار، ولكن لا بد من أن يكون لدى المعارضة تصورا بديلا يغطى كافة أو أغلب العناصر التي يحتاجها الناس لقيام حياتهم، فالناس بطبيعتهم يخشون التغيير خاصة إذا كان نحو مجهول، وهم على استعداد لتحمل وقبول السلطة القائمة بأخطائها ومظالمها وحتى فسادها إذا كان البديل هو الفوضى أو المجهول. إذن فالمعارضة لا تنجح أبدا بمجرد انتقادها للأحوال القائمة (كما هي العادة في المعارضة الصحفية أو الإعلامية عموما)، ولكنها تنجح إذا فعلت ذلك إضافة إلى تكوين تصور واضح لبديل السلطة من البرامج والمؤسسات والقيادات (وهذه مهمة الأحزاب وجماعات الضغط ذات الرؤية التكاملية والقدرة على إعطاء البديل العملي الواقعي الذي يحمى من الفوضى ومن المجهول. ولهذا نجد كثير من النظم لا تقلق أبدا من المعارضة الصحفية أو الإعلامية لأنها تعرف أنها غير قادرة –مهما بلغت حدتها– على تغيير النظام أو تعتعته، خاصة إذا كانت السلطة قادرة على تفكيك أو تفجير أو لجم الأحزاب والجماعات القادرة على طرح البديل العملي للسلطة. بل إن الانتقاد الإعلامي للسلطة قد يفيدها من حيث يعطى صورة ديمقراطية خادعة يستفيد منها النظام في تحسين صورته داخليا وخارجيا . وقد يقول قائل بأن الانتقاد الإعلامي ينشط وعى الناس ويهيئهم للمطالبة بالتغيير والسعي إليه، وهذا صحيح إلى حد ما ولكنه غير كاف للتغيير مهما طال به الأمد ما لم يتبلور ويتجمع في صورة برامج ومؤسسات وآليات بديلة للسلطة أو ضاغطة عليها أو متحاورة معها من منطق القوة السياسية أو الاجتماعية.
أنماط المعارضة
* الفردية مقابل الجماعية: قد تكون المعارضة فردية يبدأها شخص، وقد يتجمع الناس حوله فتتحول لمعارضة جماعية، وقد يظل فردا يحاول أن يوقظ الناس وينقى وعيهم الذي لوثته السلطة، وقد تكون جماعية صادرة عن حزب أو مؤسسة أو جماعة ضغط. ولا تصبح المعارضة ذات قوة مؤثرة ومغيرة إلا إذا وصلت إلى حشد عدد من المؤيدين يشكلون الكتلة الحرجة التي تشعر معها السلطة أنها مجبرة على تغيير ممارساتها أو مجبرة على التسليم والرحيل محققة التداول السلمي أو غير السلمي للسلطة.
* الموضوعية مقابل الحماسية: وقد تكون المعارضة موضوعية قائمة على أسس واقعية ولديها بدائل عملية للتغيير، وقد تكون عاطفية تلعب على مشاعر الناس بالشعارات الرنانة الجوفاء وبالحديث في العموميات والأحلام.
* الصواب مقابل الخطأ: وقد تكون المعارضة صائبة تقوم على مبادئ وقيم صحيحة سياسيا واجتماعيا، وقد تكون مخطئة ولكنها تستغل فساد السلطة ونفور الناس منها وضيقهم بها، فتقدم نفسها للناس بأنها بديل أقل فسادا وأقل خطأ، وربما يقبلها الناس كأمر نسبى أو كرغبة للتخلص من السلطة بأي ثمن.
* الغيرية مقابل الأنانية: وقد تقوم المعارضة لخدمة الناس وإيقاظ وعيهم ودفعهم للتغيير الإيجابي الذي يعود عليهم جميعا بالنفع، وقد تكون ذاتية أنانية تسعى للتغيير الذي ينفعها هي كحزب أو طائفة أو جماعة ضغط.
* العلنية مقابل السرية: وقد تكون علنية شفافة وقد تكون سرية تعمل تحت الأرض، أو قد تكون ذا طبيعة مزدوجة بحيث يكون لنشاطها شق علني تخاطب به الناس وشق سرى تدبر فيه أمورها وتقوى من شوكتها خاصة إذا كانت تواجه سلطة استبدادية غير شرعية.
* السلمية مقابل العنيفة: وقد تكون المعارضة سلمية تمارس نشاطها من خلال القنوات المشروعة بعيدا عن كل أشكال العنف المباشر أو غير المباشر وقد تكون غير ذلك بحيث تستخدم كل الوسائل لزعزعة أركان السلطة التي تراها من وجهة نظرها غير شرعية.
* الناضجة مقابل الهوجاء: وقد تكون المعارضة ناضجة تعرف ما تريد وكيف تصل إليه بخطوات محسوبة، وتستثمر كل المواقف لتأكيد وجودها وحقها في تغيير السلطة أو تعديل مسارها، وقد تكون هوجاء مندفعة تعبر عن ردود أفعال لممارسات السلطة دون أن يكون لها خط واضح للفكر والفعل المتراكم.
* التغيير الإيجابي مقابل الظهور والشهرة: وقد تكون المعارضة منطلقة من رغبة حقيقية للتغيير الإيجابي وقد تكون منطلقة من رغبة في الظهور والشهرة والتميز الفردي أو الجماعي. وكلما كانت المعارضة جماعية وموضوعية وناضجة وصائبة وذات جذور شعبية قوية ولديها نفس طويل في التغيير وسلمية وعلنية وشرعية (بمعنى استنادها إلى مطالب جماهيرية وليست الشرعية الممنوحة من النظام فقط والذي ربما يكون هو نفسه غير شرعي) كلما كانت احتمالات نجاحها في مهمتها أكثر تأكيدا حتى ولو طال الوقت.
المعارضة سنة كونية
الحرية هي الأصل في الوجود الإنساني، وقد تفرد الإنسان بها من بين المخلوقات، فقد خلقه الله قادراً على فعل الخير وفعل الشر "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً"(الإنسان 3)"وهديناه النجدين" (البلد:10)، وأعطاه حرية الاختيار كاملة، ومنحه الإرادة لفعل هذا أو ذاك ثم جعله مسئولاً عن خياراته في الدنيا وفى الآخرة. وبهذا التكوين الحر الناضج المسئول استحق الإنسان التكريم على سائر المخلوقات. ولم يضمن الله الحرية للإنسان فقط بل ضمنها أيضاً لإبليس فمنحه الفرصة للاعتراض على أمر السجود لآدم ولم يشأ سبحانه أن يقهره على السجود، ولو أراد لكان فلا راد لأمره، ولم يكتف بذلك بل منحه فرصة إلى يوم القيامة يمارس فيها دوره الذي ارتضاه لنفسه فأسس حزب الشيطان والذي أنضم إليه ملايين من الأنس والجن بكامل حريتهم.
وأرسل الله الرسل تترى إلى البشرية ليبلغوهم كلمة الله وليؤسسوا حزب الرحمن الذي يضم المؤمنين من الإنس والجن، وليصححوا للناس معتقداتهم، ولينشروا الحق والخير والعدل في الأرض في مواجهة حزب الشيطان الذي ينشر الباطل والشر والظلم في الأرض، ومع هذا فقد علم الله رسله درساً هاماً في الحرية في أعلى مستوياتها وهى حرية الاعتقاد الديني حيث قرر بوضوح لا لبس فيه أنه: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة:256].
وسيدنا نوح عليه السلام لم يشأ أن يقهر ابنه على الاعتقاد فيما يعتقده ولكنه حاوره وحذره ثم تركه يقرر ما يريد رغم علمه بأن ما يريده ابنه فيه هلاكه في الدنيا (الغرق) وهلاكه في الآخرة (جهنم)، ولكن نوحاً يعلم مراد الله من البشر ويعلم قيمة الحرية التي منحها الله الإنسان حتى إذا عبده كان ذلك عن طواعية وحب وليس عن قهر وخوف.
والحرية على المستوى النفسي ضرورة للنمو النفسي الطبيعي ولتطور الوظائف النفسية وبالتالي لنمو وتطور الحياة، فهي التي تعطى فرصة للتفكير الحر وللإبداع الحر وللعمل الخلاق الذي يثرى الحياة وينميها ويطورها.
ومن هنا يصبح الاستبداد مرضاً واضطراباً نفسياً لكل من المستبد (بكسر الباء) والمستبد (بفتح الباء) به فهو يشوه الطرفين ويشوه البيئة ويلوثها بكل أنواع الفساد. ولهذا نجد أن الأديان السماوية والحركات الإصلاحية الفلسفية والاجتماعية والسياسية حرصت في كل مراحل التاريخ على علاج هذا المرض العضال الذي يعصف دائماً بمكتسبات الحضارة الإنسانية ويحدث –كما ذكرنا– تشويها لفطرة البشر وتلويثاً للبيئة الإنسانية بكل ألوان الانحراف والفساد، فالاستبداد هو مصدر الكثير من المفاسد الفردية والجماعية.
ولا حرية بدون القدرة على الاعتراض والتعبير عن الرأي الآخر مهما كان، على أن يتحمل الإنسان مسئولية رأيه وخياراته، وقد أقرت آيات القرآن الكريم بشكل واضح ومباشر سنة كونية في علاقات البشر وهى الاختلاف، ووضعت القواعد لجعل هذا الاختلاف إيجابيا حتى لا يفنى البشر بعضهم البعض. يقول تعالى:
"...... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقره251)
"....... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج:40)
"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ*وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود 118، 119).
وعن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في جهنم واديا، وفى الوادي بئر يقال له هبهب، حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد" (رواه الطبراني بإسناد حسن).
وعن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون أئمة من بعدى يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يتفاحمون في النار كما تفاحم القردة" (رواه أبو يعلى والطبراني، وذكره في صحيح الجامع الصغير).
فالرأي والرأي الآخر سنة كونية، ومطلب شرعي لتتوازن الرؤى وتتحقق المصالح ويدفع الفساد. ويتبدى التوازن في كل شيء في خلق الله فما من شيء إلا وله ضد يقابله أو ويتكامل معه، فالسالب يقابله الموجب، والذكر يقابله الأنثى، والحياة يقابلها الموت، والجنة يقابلها النار.... وهكذا.
ثقافة المعارضة
قد يبدو تعبير "ثقافة المعارضة" عصريا إلى حد ما، ولكنه في الحقيقة ليس جديدا على التراث الديني أو التراث العلمي، ففي التراث الديني يوجد ما يسمى بفقه الاختلاف، وعلى أساسه نشأت رؤى وتيارات بين الصحابة رضوان الله عليهم أثرت الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية في المجتمع الإسلامي في فترات ازدهاره، ويكفى أن تفتح أحد كتب التفسير لتجد المؤلف أو المصنف يعرض تفسيرات متعددة للنص القرآني تعطى زوايا مختلفة للفهم، وقد بني على ذلك نشأة المذاهب الأربعة وغيرها ونشأة الفرق الإسلامية على اختلاف توجهاتها، وعلى الرغم من كل هذا كان تيار الحضارة الإسلامية قويا متدفقا لما يزيد على ألف ومائتي سنة لا يوقفه فساد أمير أو خروج حاكم عن الجادة أو انحراف مفكر أو خطأ مجتهد، لأن القاعدة العلمية الرحبة والقائمة على التعددية والتكامل واحترام قواعد الاختلاف والمبادئ الدينية كانت تشكل الوعي العام وتؤثر في حركة الجماهير أكثر مما يفعل الحكام أنفسهم، فعلى الرغم من الاستبداد السياسي في بعض المراحل التاريخية كانت هناك تعددية علمية وفقهية تخلق وراءها تعددية شعبية متوازنة ومتسامحة ومتبادلة التأثير في المسار الحضاري.
أما في التراث العلمي الحديث فتعود جذور ثقافة المعارضة إلى منهج التفكير العلمي الذي يعرض الأفكار لعملية تمحيص من خلال التفكير النقدي الذي يرى الوجه والوجه الآخر ويعطى فرصة لدراسة البدائل والاحتمالات، حتى لا ينساق العقل وراء بعد واحد أو رؤية واحدة أو تفكير خرافي أو سحري، أو عمليات استلاب يقوم بها شخص قادر على الإيحاء أو الاستهواء أو القمع الفكري.
ونحن للأسف الشديد في تربيتنا الأسرية وفى مناهجنا الدراسية وفى طرق التعليم والتربية، وفى إدارة مؤسساتنا من أدناها إلى أعلاها نبعد كثيرا عن ثقافة المعارضة، بل نعتبرها خروجا على الطاعة وخروجا على الإجماع وربما سوء أدب أو سوء أخلاق، أو خيانة، أو تمرد، ومن هنا سادت النزعة الفردية في التوجيه الأسرى والتوجيه المدرسي والتوجيه المؤسسي، ونشأت ثقافة القطيع التي تضع مقاليد الأمور في يد شخص يسوق بقية الأفراد إلى حيث يرى أو يريد، وهذا قمة الامتهان والظلم الإنساني لأنه يجرد الإنسان من إنسانيته، ويجعله أقل من الشيطان الذي نال حقه في الاختلاف الذي وصل إلى التمرد والعصيان، ويجعل الفرد المستبد يأخذ حقا يتطاول به على مقام الإله جل وعلا والذي منح الشيطان هذا الحق وأمهله إلى يوم القيامة.
اقرأ أيضاً:
عماد الدين الكبير جدا / لنتعلم كيف نتعلم / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / الباشا والخرسيس