في يوم الجمعة 3 من أغسطس 2007 نشرت أكثر من صحيفة (خاصة المصري اليوم والدستور) خبرا مفاده أن نقيب شرطة بمركز المنصورة يدعى م . م قام هو وأفراد قوته بضرب وتعذيب المواطن نصر أحمد عبدا لله الصعيدي من قرية تلبانة حتى الموت. فقد داهمت هذه القوة منزل القتيل بحثا عن أخيه "على" (الذي يشتبه في اتجاره بالمخدرات), وضربوا زوجته وبناته الأربع, وسارع شقيقه نصر (يعمل نجارا) إلى البيت عند سماعه الخبر وسأل الضابط عن سبب الغارة فرد عليه الضابط "وأنت مين يا روح أمك" (تعتبر هذه العبارة من أكثر العبارات تأدبا في مثل هذه المواقف, وهذا يحسب للضابط قائد الغارة).. وعندما علم أنه شقيق "على" انقض عليه هو وأفراد قوته بالضرب, (يحتمل أن يكون نصر قد تجاوز حدوده وطلب أن يرى إذن النيابة كما رأى في الأفلام الأجنبية), وتم نقله إلى المستشفى حيث توفى بعد 24 ساعة متأثرا بجراحه (نصيبه كده وما حدش يموت ناقص عمر). وفى نفس اليوم نشرت العديد من الصحف أخبارا وتحقيقات عن الشاب "يحيى عبد الله" من واحة سيوه والذي قام ثلاثة من الضباط ومعاونيهم (حسب ما ورد في الصحف) بوضع الكحول الأحمر على جسده (هذا إكرام له فالكحول أفضل من الجاز الو..) وإشعال النار فيه مما نتج عنه حروق شديدة حاولوا معالجتها في الإسكندرية للخروج من المأزق ولما لم يفلحوا في ذلك نفوه إلى ليبيا ليخفوا الجريمة, وقد حدث كل هذا على أرضية شكوك حامت حول مجموعة من شباب سيوه بأنهم ربما يكونوا قد شاركوا في سرقة كابلات كهرباء.
ليست هاتين الحادثتين هما الأوليان من نوعهما ولن يكونا الآخران فقد تكررت حوادث الضرب والتعذيب حتى الموت في أقسام الشرطة وفى السجون في تاريخنا الحديث ولكن زادت المعدلات في السنوات الأخيرة, أو ربما زاد الكشف عنها بواسطة الصحافة المستقلة, ومع هذا لم نسمع عن محاكمات جادة تجاه من قاموا بهذه الأفعال التي تقشعر منها جلود الحيوانات المفترسة, والسبب في ذلك ربما يكون تقفيل المحاضر بشكل معين, أو شهادة الشهود المنتقين بعناية بوليسية, أو تدخلات سلطوية عليا, أو تليفونات أو رسائل محمول, أو ضغوط تمارس على أهل الضحايا للتنازل, أو يأس واستسلام وخضوع تلقائي من أهل الضحايا, أو تسليمهم الأمر لله لعدم ثقتهم بتحقيق العدل في دنياهم وتأجيل ذلك ليوم تشخص فيه الأبصار, أو انشغالهم بلقمة العيش ومصاريف الدروس الخصوصية وكروت المحمول واشتراك وصلة التليفزيون, أو انشغالهم في هموم حياتهم واحتساب الموتى عند الله, أو إحالة الأمر إلى القضاء والقدر وأن القتيل عمره انتهى عند هذه اللحظة وأن الباشا الذي ضربه أو عذبه لم يكن إلا سببا, أو يتنازلون مقابل عدة آلاف قليلة من الجنيهات يدفعها أقارب الباشا للحفاظ على مستقبله, وأحيانا لمجرد أنهم دعوا لشرب كوب من الشاي في مكتب أحد البشوات الكبار الذين لم يحلموا يوما بالوقوف أمام مكاتبهم فضلا عن دخولها والجلوس فيها والاستمتاع بابتسامة الباشا الودودة الدافئة وكلماته المهدئة للخواطر.
وإذا كنا اعتدنا أن نتساءل دائما عن موقف الباشا وجنوده الخاطئين الذين لفظ القتيل أنفاسه بين أيديهم وتحت نعالهم وعصيهم وعلى خوازيقهم: كيف ينامون وكيف يأكلون وكيف يجلسون مع زوجاتهم وأولادهم, وكيف يذهبون إلى الصلاة في يوم الجمعة, وكيف يصومون رمضان, وكيف يذهبون إلى المصايف؟.. فإننا نتساءل في هذه المرة عن أهل الضحية المعذب حتى الموت: كيف ينامون وكيف يأكلون وكيف يجلسون مع زوجاتهم وأبنائهم وكيف يتابعون أغاني الفيديو كليب وأفلام الكوميديا طوال الليل في الوقت الذي تدور بمخيلتهم صورة ابنهم أو شقيقهم وهو يعانى آلام الضرب بالعصي والصعق بالكهرباء والحرق بالنار والتعليق في السقف لساعات طويلة في غرفة مظلمة وهو جائع وعطشان يستغيث ولا يجد من يغيث حتى لفظ أنفاسه ألما ويأسا وكمدا؟ (بالمناسبة بعض الحالات تموت موتا نفسيا بسبب الشعور بالمهانة والظلم والقهر, حتى ولو لم توجد إصابات جسدية تفسر الوفاة).
ويسرح الخيال عائدا للخلف في التاريخ (كعادتنا حين نفقد الأمل في الحاضر والمستقبل) ليواكب ما دار في نفس المصري الذي سبق ابن عمرو بن العاص في سباق الخيل فضربه ابن عمر بدرة كانت في يده قائلا: أتسبق ابن الأكرمين؟!... في حدث نستطيع في عصرنا الحاضر هضمه وابتلاعه وتبريره وتمريره بسهولة فائقة نتميز بها على غيرنا من الشعوب (فكثيرا ما يعتدي نجم كره أهلاوي على الحكم في مباراة مع الزمالك اعتراضا على كارت أحمر ويصرخ في وجهه قائلا: أنت عارف أنت تطرد مين؟ ويتبع ذلك بلكمات سريعة تنتهي بسقوط الحكم, ويتم الصلح بعد ذلك في غرفة الملابس مع الاعتذار للحكم, إذ ليس لدينا فيفا توقف اللاعب عن المباريات التالية, ونحن شعب طيب ومتسامح), فلماذا لم يستطع الحاضرون في هذا السباق أن "يلموا الموضوع ويراضوا المصري بكلمتين ويصالحوه على ابن عمرو بن العاص, وكفاية عليه الهزيمة في السباق, ويا دار ما دخلك شر, ودي لحظة انفعال والشيطان دخل بناتهم, وحماس شباب ما أنت عارف, والعين ما تعلاش على الحاجب, والمياه ما تطلع في العالي, وأنت عارف القوى عايب, والباب اللي يجيلك منه الريح سده وأستريح, ويعنى هي الشتيمة بتلزق, ويا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم, والمسامح كريم, وعديها المرادي, وطنش, وسماح النوبة, وروق إل G وكبر إل D ..." ...
للأسف كل هذا لم يحدث وركب الشاب المصري دماغه التي لم تبرمج بعد بكل ما سبق, و"نقحت عليه" كرامته وقرر خوض الفيافي والقفار سيرا على الأقدام أو راكبا حصانه (اللي سبق بيه وجاب له وجع الدماغ) في رحلة غاية في المشقة إلى المدينة المنورة ليصل إلى أعلى سلطة في الأرض في ذلك الوقت مطالبا بحقه الذي انتهكه ابن الأمير عمرو بن العاص رغم أن الضربة التي تعرض لها لم يثبت (في تقرير طبي موثق) أنها أحدثت كدمات أو تشوهات في الجسد (يحتمل أنها كانت درة كهربائية تحدث ألما ولا تترك أثرا يتعلق به وكيل النيابة ويثبته في التحقيق).
لماذا لم يتردد وهو في الطريق ويقرر العودة, لماذا لم يلحق به أصحاب الحلول التوفيقية والتلفيقية ويقنعوه بالعودة ويردوه إلى صوابه؟.. ما الذي كان يدور في رأسه وفى حناياه طوال الطريق الوعر ليلا ونهارا على مدى ما يقرب من الشهر وهو يتعرض للمخاطر من قطاع الطرق ووحوش البراري؟.. أي قدر من الكرامة والشعور بالذات يسكن جنبان هذا المواطن ويدفعه إلى هذا السلوك؟؟... أي ثقة في عدل الخليفة يسعى إليها وهو متأكد منها؟؟.. وهل لم يخف بطش عمرو بن العاص وابنه حين يعود إلى مصر وقد اشتكاهم إلى رئيسهم الأعلى وأحدث لهم هذا الحرج؟؟.. وهل لم يخف من استدعاء جنود عمرو لأبيه وزوجته وابنته وتهديدهم لهم بالاغتصاب لو لم يعد هذا الشخص عن غيّه؟؟.. هل أمن على نفسه وأسرته تلفيق قضية آداب أو مخدرات أو إرهاب؟؟.. كيف تركه حرس الحدود يمر وهم يعلمون نيته في شكوى أمير البلاد وابنه؟؟.. كيف غفل عنه المخبرون وهم مندسون في كل مكان وجالسين على كل القهاوي؟؟.. كيف لم ينتبه له أحد البشوات فيدعه لشرب الشاي في مكتبه ويمارس ضغطا أدبيا عليه للتنازل والتصالح, وإذا لم يفهم الرسالة يسحب الشاي ويستبقى هو للنظر فيما إذا كانت عليه قضايا أم لا؟؟.. ولماذا لم يقم رجال الحزب والحكم المحلى بدورهم في ترضية هذا المواطن الغاضب ذي الرأس الناشفة بكلمتين وبس؟؟.. ولماذا لم يستدع رجل دين يذكره بوجوب الطاعة والانحناء والرضا بما يفعله ولى الأمر على أساس أنه أدرى بما يصلح رعيته؟؟.
لا نعرف لما ذا لم يحدث كل هذا, ولكن الذي بلغنا أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد هو أن الخليفة العادل العظيم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه استقبله بنفس الروح الكريمة العالية فلم يكتف بتعويضه (من بيت مال المسلمين الذين لم يضربوه) ولم يكتف بالاعتذار له أو تطييب خاطره, وإنما استدعى عمرو بن العاص رضي الله عنه وابنه وطلب من المصري أن يرد الضربة لابن عمرو ثم زاد في الطلب وأمره أن يضرب صلعه عمرو بن العاص فتردد المصري كرما وحياء ونبلا قائلا: إنما ضربني ابنه ولم يضربني هو.. فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما معناه: قد ضربك بعز أبيه, ولم يكتف الخليفة العادل العظيم بذلك بل أرسل عبارته المدوية لتكون قانونا للعدل يجلجل في صفحات التاريخ ليخيف كل من يجور ويوقظ أصحاب الحقوق: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
ما هذا الفارق الهائل بين البشر في هذا الموقف والبشر في أي قرية أو مدينة أو واحة مصرية معاصرة, لماذا تصرفوا هناك بكل هذا النبل وتلك الكرامة وذلك العدل, ويتصرفون هنا بعكس ذلك تماما؟؟. يبدو أن الفارق هو فارق نفسي بالأساس.. فارق في إحساس كل طرف بذاته.. ففي زمن عمر بن الخطاب كان المصري يشعر بكرامته وعزته وكيانه ويشعر بأن له حق المواطنة حتى أمام أمير البلاد وفاتحها, وهو لا يتنازل عن حقه وكرامته, ولا يطالبه أحد أو يضغط عليه ليتنازل, وفى المقابل نرى عمر بن الخطاب يجل هذه الروح الكريمة العظيمة (رغم اختلاف الديانة حيث كان المصري قبطيا) ويصر على رد الاعتبار بكل الوسائل ويستدعى أمير مصر (ويغامر في ذلك بالأمن القومي والمصالح العليا للبلاد) لتحقيق العدل حتى ولو كان على المستوى الفردي فالعدل لا يتجزأ, وإذا رأيت جورا بيّنا على حقوق الأفراد فتأكد من وجود الجور الأكثر بيّنة على حقوق الشعب بأكمله.
ويبدو أن الباشا (أي باشا) الذي ضرب وعذّب حتى الموت (قبل ذلك والآن وبعد ذلك) يشعر فعلا في قراره نفسه أنه "باشا" فالاسم لم يأت من فراغ وإنما أملاه الواقع الذي يعطى للضابط تضخما في ذاته وتوسعا في سلطاته يصل (بل يتجاوز) ما كان يحظى به الباشا التركي من حق في رقبة الفلاح "الخرسيس" الذي كان يستعبده في أرضه ويمتلكه هو وأسرته, ويجلده بالكرباج, ويلقى عليه الماء الساخن يسلخ به جلده (كما ورد في الأخبار والروايات), ولا يجرؤ أحد أن يسأله في ذلك, ومن هنا ربما نستطيع أن نفهم سر ارتباط لقب "باشا" بضباط الشرطة أكثر من غيرهم فهي إن قيلت لغيرهم تقال على سبيل المجاملة الاجتماعية أما لهم فهي لازمة وواجبة ومؤكدة.
والفلاح هنا هو المواطن المصري, وهو خرسيس في نظر الباشا, وقد بحثت في القاموس عن معنى كلمة خرسيس فلم أجد, ويحتمل أن تكون كلمة تركية أو أن تكون كلمة من صنع المرحلة الباشاوية, وبصرف النظر عن أصل الكلمة ومعناها اللغوي إلا أنها تحمل ظلالا تدور حول الحقارة والدناءة والخبث والقذارة والجهل والوضاعة وعدم الجدارة وضعف الاستحقاق. وهذه الصورة الذهنية التي ترسخت في نفس الباشا التركي أو المملوك السلطاني أو الخديوي أو الملك للمواطن المصري هي نفسها في نفس الباشا الحالي, وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فاذهب إلى أي قسم شرطة واقض فيه يوما أو عدة ساعات, وانظر ماذا يدور فيه, وما هي الألفاظ التي ينادى بها البشوات على المترددين على القسم (من أول "يا له" إلى يا "ابن إل ..." .." يا ابن إل...." "يا ....."). ولست أدرى لماذا يتفرد البشوات عندنا بهذا القاموس اللفظي الذي نسمعه في أقسام ومراكز الشرطة, وكيف يتعلمونه وأين يتعلمونه وممن يتعلمونه, على الرغم من انتسابهم في الأصل لأسر طيبة في كثير من الأحيان, وأن هذا القاموس لم يكن واردا أو محتملا في بيئتهم العائلية الأصلية, بل إن القليلين منهم الذين لا يستخدمون مفردات هذا القاموس ليشعرون بالغربة بين أبناء مهنتهم, وربما يتهم الواحد منهم بأنه "فافى" أو "طرى" أو "عامل ابن ناس".
وروح الباشا تسكن من يعمل في هذا الجهاز المهم وترسخ مع الوقت ومع تكرار سماعها, وتتضخم معها الذات خاصة حين ترى السلطة في يدها بلا حدود, وهنا لا تحتمل أن يسألها أحد عن سر اقتحامها للبيوت أو عن إذن النيابة, أو عن الموقف القانوني, وليس أخطر من غضب الذات المتضخمة حين يعترضها أحد خاصة إذا كان فلاحا خرسيسا, هنا يطيش صواب الباشا ويشعر بامتهان كرامته وسقوط هيبته التي هي في نظره هيبة الدولة كلها, ومن هنا يحق له التضحية بالفلاح الخرسيس في سبيل الحفاظ على هيبة الدولة وسلامتها. وهذا تضخم بشوات يجعلنا نفهم سر الحسد والتباغض الخفي (وربما أكثر من ذلك) بين جهاز الشرطة والجهاز القضائي حيث يسعى جهاز الشرطة إلى التخلص من القيود التي ربما يفرضها عليه الجهاز القضائي, وفى المقابل يشعر الجهاز القضائي بأنه يقضى في الأمر ولا يملك القوة للتنفيذ إلا من خلال جهاز الشرطة الذي يتنافس معه على السلطة بدلا من أن يتكامل معه في إرساء الحق والعدل.
وأحداث التعذيب حتى الموت التي تكررت كثيرا في الآونة الأخيرة مع شيوع العنف اللفظي والعنف البدني بدرجاتهم المختلفة في مراكز الشرطة ومقار الأمن يستدعى مراجعة للتركيبة النفسية للبشوات وكيف يتم إعدادهم, وما الذي يقال لهم في أروقة المحاضرات وفى السكاشن وفى قاعات وساحات التدريب, وما هي الصورة الذهنية لضابط الشرطة لديهم, وما هي الصورة الذهنية للمواطنين بطبقاتهم الاجتماعية المختلفة, وما الذي يجعل شخصا من جلدتنا يقوم بتعذيب مواطن من جلدتنا أيضا حتى يلفظ أنفاسه بين يديه ثم لا يشغله غير سلامته وكيفية خروجه من هذا الأمر بلا محاسبة, وهل هذه أعمال فردية يتحمل وزرها من فعلها وتأتى بطريق الصدفة, أم أنها روح عامة تتسم بالعدائية والاحتقار للمواطن المصري الذي هو في النهاية مجرد "فلاح خرسيس" لا يستحق إلا الجلد بالكرباج أو السحل على الأرض أو الحرق بالنار أو الصعق بالكهرباء. وقد يثور سؤال برئ, كيف تدخل أدوات التعذيب أقسام الشرطة ومقارها, وكيف تشترى, وما هي البنود التي توضع تحتها, وهل هي عهدة مثل بقى الأشياء والأسلحة والأساسات؟.. وهل هناك تدريب على استخدامها؟.. أم أن استخدامها بدون تدريب كاف هو الذي يؤدى إلى المخاطر التي تحدث دون أن يقصد مستخدموها؟؟.
كل هذه تساؤلات مشروعة تفرضها المصلحة العامة والخاصة على السواء فقد يجد أي منا نفسه أو أي فرد من أسرته ضحية لمثل هذه الممارسات دون حماية من قانون أو عدل, فليس أخطر من شخص متضخم الذات تضع في يده سلطة بلا ضوابط. ولكي لا نبتعد عن العدل الذي ننشده وعن الموضوعية التي ننادى بها لا بد من التنبيه إلى وجود عدد لا بأس به من ضباط الشرطة المخلصين المتفانين الذين يضحون براحتهم وبحياتهم الشخصية والعائلية في سبيل أداء واجبهم, ويقضون ساعات طويلة في العمل مقابل مرتبات زهيدة نسبيا, وهم منا ونحن منهم, ونرتبط بالكثيرين منهم بصداقات وقرا بات وعلاقات زمالة وجوار. ومن المنطقي أيضا أننا لا نطالب بأن يكون ضابط الشرطة في رقة الفنان أو الأديب ووداعتهما, فهذا يعيق أداءه لمهمته ويخالف طبيعة وظيفته التي تتطلب الحزم والقوة الراشدة والجدية والانضباط. ويخطئ أيضا من يحاول التعميم ووصم جهاز الشرطة بما يقوم به بعضهم أو كثير منهم واعتبار أن هذا الجهاز في مصاف الأعداء فهذا أيضا توصيف خطر, فهم أولا وأخير إخوتنا وأقاربنا وجيراننا وزملاءنا وأصدقاءنا, وكل ما نطالب به هو مراجعة لما أصاب المهنة (كما أصاب مهن أخرى) من خلل بسبب بعض التصورات أو السياسات أو الممارسات مما وصل إلى مرحلة الخطر خاصة تجاه جهاز شديد الحساسية وعظيم الدور في مجتمعنا وفى أي مجتمع.
وقد يخطئ البعض فيتصور أن جهاز الشرطة لا يمكن أن يقوم بدوره دون ممارسة العنف اللفظي والجسدي معا ودون بعض التجاوزات, وهذا خطر كبير ففي كل الدول المتقدمة يمارس جهاز الشرطة دوره بحزم وقوة وفى نفس الوقت باحترام لحقوق المواطن (مهما كانت جريمته) وانضباط بالقانون. وربما تختفي الكثير من المشكلات لدينا حين يختفي لفظ الباشا من تعاملاتنا مع رجال الشرطة فقد رأينا في بلاد كثيرة أنهم ينادون برتبهم, وفى هذا تقدير لهم ولمنازلهم وفى ذات الوقت ابتعاد عن التضخيم المبالغ فيه لدواتهم والذي يحمل خطرا عليهم وعلي من يتعامل معهم على السواء. وأيضا تعتدل الموازين حين يشعر ضابط الشرطة أن التزامه بالقانون وحراسته له هو سر قوته واحترامه بين أهله وناسه. وربما يحتاج الأمر زيادة جرعة تدريس حقوق الإنسان في كليات الشرطة, وربط ذلك بحرمة النفس في الأديان, وقبل كل هذا تغير روح هذا الجهاز المهم بحيث يعود مرة أخرى (حقيقة وشعارا) في خدمة الشعب (فقط لا غير).
نأتي أخيرا للتركيبة النفسية للطرف الآخر وهو الفلاح الخرسيس, الذي تضيع حقوقه وتضيع كرامته وربما تضيع حياته, وهو ساكت أو خائف أو خانس أو قانع أو جاهل أو متربص أو متآمر, أو متنازل. وهو يفعل كل ذلك ولديه تقدير متدن لذاته, وهبوط حاد في كرامته, وجفاف خطير في عزته وشموخه, وجهل شامل بحقوقه كمواطن, وفشل في علاقته بالسلطة يجعله هو والسلطة يخسران, وسلبية عدوانية خبيثة تؤدى إلى تدهور مستويات حياته, وإرث تاريخي استعماري يجعله مملوكا أو عبدا للباشا (أي باشا) يخشاه ويتزلف إليه ويلعنه في قراره نفسه ويمارس الفهلوة للتحايل عليه وعلى الحياة فيخسر نفسه ويخسر حياته ويخسر مستقبله ومستقبل أبنائه الذين ادّعى الخضوع والخنوع من أجل الحفاظ على مستقبلهم. وشيئا فشيئا يتشوه الفلاح الخرسيس وتتضاءل صورته في عين الباشا (أي باشا) فيبالغ الأخير في احتقاره وسحقه ويتعدى على حقوقه ويقهره, وربما يستمتع (كل منهما) بذلك أو يتعود عليه ويألفه.
ولسنا نبالغ إذا قلنا بأننا في حاجة إلى إعادة تأهيل قد تستغرق سنوات للخروج من عقلية ونفسية الفلاح الخرسيس إلى عقلية ونفسية المواطن الكريم الذي يسعى لحقوقه ويؤدى واجباته بشكل لائق وكريم, فلا يتملق السلطة في الظاهر ويلعنها في الخفاء, ولا يتوحد مع المعتدى فتتسع دائرة العدوان والفساد, ولا يجعل ظهره مطية لكل من تسول له نفسه بالركوب. إننا في حاجة إلى تحرر داخلي يبدأ من داخل أنفسنا التي أصابها العفن والوهن, وإلى أن نرى أنفسنا في وضع نستحق فيه الحياة الكريمة فنسعى لتحقيقها وقد نزعنا معا ثياب الباشا والخرسيس ولبسنا ثياب العدل والعزة والكرامة, ولن يتحقق هذا حتى نرى الباشا الذي عذب وضرب وصعق وحرق قابع في السجن يقضى عقوبة فعله ونرى الفلاحين وقد أصروا على القصاص القانوني الموضوعي العادل صيانة لأرواح أبنائهم وأعراض بناتهم دون شغب أهوج أو عنف منفلت, ونرى تقارير الهيئات الدولية وقد خلت صفحاتها من اتهامنا المتكرر بانتهاك حقوق الإنسان والحيوان والنبات والأرض والبحر والجو.
اقرأ أيضاً:
لنتعلم كيف نتعلم / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الصيام.. أوله في النفس وآخره عند الله