الطبيب معايشا والمناخ معالجا والمجنون إنسانا(1)
5- الخطة العلاجية.... والعلاج التكاملي الشامل.
وهذا يعني وضع خطة علاجية (Treatment Plan) لكل مريض على حدة، على حسب تشخيصه وعوامل أخرى كثيرة، وتحدد هذه الخطة الأولويات العلاجية، وجرعاتها، ومدتها، مع المرونة والتغيير فيها وفق النتائج وما يجد من متغيرات، مع مراعاة أن تتكامل هذه العلاجات المختلفة فيما بينها (Integrated Therapeutic Approach)، واضعين في الاعتبار التشخيص الشامل المتعدد الجوانب والمستويات للمريض[11] وكذلك احتياجاته المختلفة، وتحريك كل ما يمكن تحريكه من إمكانياته الكامنة وقدراته المعطلة، كل ذلك يتم في إطار البيئة العلاجية الحية.
ولقد لاحظ د. بنديك احتياج المرضى لمثل هذا التناول، فهو يقول: "لا ننكر أن ثمة عددا قليلا من المرضى الذين لا يحتاجون العلاج بالعمل ويمكن شفاؤهم عن طريق "العلاج الفعال" غير أنه من الثابت أن ثمة حالات أخرى لا يصلح لها العلاج الفعال إلا كأساس أولي ثم يأخذ العلاج النفسي والعلاج بالعمل دورهما في إعادة المريض إلى الحياة الاجتماعية السوية، كما أن هناك حالات معينة لا تستجيب للعلاج الفعال على الإطلاق حتى تبدأ بالعلاج البيئي".. وفي حديثه عن علاج أحد المرضى، ذكر أن هذا العلاج "لم يقتصر على العلاج الكهربائي فحسب، ولكنه كان يشكل جانبا هاما من العلاج البيئي الشامل".
كذلك فإننا نلاحظ أن البرامج العلاجية اليومية في الخبرة المجرية، كانت تحتوي على العديد من النشاطات المختلفة، والتي تهتم بالجوانب العديدة للمريض. فهو يذكر البرنامج العلاجي لمجموعة من المرضى كالآتي: "أنهم يحملون الطوب أثناء عمليات الهدم، الأمر الذي يتضمن الذهاب والعودة بالإضافة إلى مهام جانبية مدهشة، فالطوب يجب أن يصنف، وينظف ويوضع في العربة، وتسحب بعيدا، وتفرغ وتعبأ من جديد. وبعد ساعتين أو نحو ذلك ثمة استراحة تحت شجرة الكستناء، حيث تقرأ لهم روزي بصوت مرتفع. ثم يمارسون العزق وتمهيد الممر.. وبعد الطعام يخرجون إلى بستان الخوخ حيث تحتاج جور البطاطس إلى عناية. ثم تدير روزي الجرامافون، وتطلب من المرضى الجامدين الأغبياء مراقصتها، أو يذهبون للسباحة في حوض السباحة... برنامج جديد يومياً، مليء بالمتغيرات والأفكار.
وعلى ذلك يتضح لنا أهمية وعي د. بنديك بأهمية التخطيط عند علاج المريض، وكذلك وعيه بجدوى الطريقة الشاملة المتكاملة في العلاج، أو ما أسماه "العلاج البيئي الشامل". بقي أن نذكر هنا أنه كان يهتم بالتاريخ المرضي للحالة، والدراسة الطولية والمستعرضة لها، مع محاولة فهم "معنى العرض" وما يسمى "بالعلة الغائية" له، وهو يقول: "إذا عشت بين مرضى العقل فسوف تستنتج أنهم يختلفون كلية عما تصفهم الكتب المدرسية[12]". كذلك كان يهتم بعمل الجلسات النفسية، وينصت جيدا إلى ما يقوله المريض، كما أنه لا ينسى أهمية تتبع الحالة بعد خروجها من المصحة "لأن بدونه لا يستطيع أحد أن يحكم على انجازات مؤسسة للأمراض العقلية".
وتجدر الإشارة هنا، إلى أننا في ممارستنا الإكلينيكية في الخبرة المحلية، نحاول أولا أن نقوم بتشخيص المريض وفهمه على مستويات وأبعاد تشخيصية متعددة: فهناك المستوى الوصفي للأعراض، ثم مستوى وظائف الأنا، ثم درجة النشاط البيولوجية للمرض، ثم المستوى التركيبي وكيفية ظهور الأعراض، ثم المستوى الدينامي، بالإضافة إلى متغيرات أخرى كثيرة. وبناء على هذا الفهم نقوم بوضع خطة علاجية (مبدئية على الأقل)، نتصور فيها تتابع العلاجات المختلفة، وجرعاتها، وفتراتها. وكيفية إعداد المريض لها، والخطوات اللاحقة.... وهكذا، مع العلم بأننا ننتبه إلى أي متغيرات لم تكن ظاهرة لنا في البداية، وما قد يستتبع ذلك من تغيير في الخطة العلاجية.
ثالثا – الجنون.. الأدب.... الفلسفة:
نظرا لأنه قد قيل الكثير، ومازال يقال، عن التشابه بين الشعراء والفلاسفة والمجانين، فإني أردت أن أعرض -بشيء من التفصيل- ذلك الجانب الرائع الهام من الكتاب، والذي قد يلقي بعض الضوء على المنطقة المشتركة، بالإضافة إلى أن مؤلف الكتاب تعلم من الأدب بصفة عامة، ومن أشعار الفصاميين بصفة خاصة، بعض الحقائق الهامة عن مرض الفصام ومعاناة الفصاميين؛ فهو يذكر، على سبيل المثال، أن دستويفسكي قد وضع أصابعه بدقة على جوهر الفصام، في وقت لم يكن الأطباء فيه صنفوا ذلك المرض بعد.
يعطينا الكاتب مثالا لفتاة فصامية في الخامسة والعشرين من عمرها، كتبت تقول:
لم الواحد؟ أليس الواحد هو الجوهر...
لا شيء باق مما تراه عيون البشر.
الماضي قد توقف. والمستقبل قد مضى
والسر الآن- تكون أو لا تكون.
لما نعيش؟ ولماذا نعيش؟ الحياة لا تهتم
هل يهم إذا وقفت أو جلست
فتحت أو قفلت؟ من الأفضل إلا تحلل
وجودك الخاص، تقول الملحة الشائعة.
هنا يقول د.بنديك أن هذه الفتاة تضم الثلاثة -أي الشعر الفلسفة. الجنون- بين جوانحها، وأنه من خلال قصيدة كهذه يمكن أن نستبصر شيئا عن الفصام، وكذلك عن الميتافيزيقا، فكما هو واضح في القصيدة نجد أن الفصامي يستغرقه الإحساس "باللاشيئية"، والفتاة كانت تتبين أن الفصام يعني التعارض القاتل بين أن تصبح متوحدة مع الكل وبين استحالة ذلك التوحد.
وفي تعليق آخر على قصيدة لنفس الفتاة، والتي استعار منها اسم "القفص الذهبي" أو "القفص المموه" كعنوان للكتاب الذي بين أيدينا[13]، يقول: "الواقع أن المجانين يعيشون في قفص مزدوج: يقيمون بأنفسهم جزءا منه حول أرواحهم، ويتكفل المجتمع بالآخر يحاصر به أجسادهم. وتعتبر إزالة قضبان القفص الذي أقاموه بأنفسهم أشد الأمور صعوبة، إن لم تكن مستحيلة". ثم يضيف: "أننا جميعا بشكل أو بآخر نعيش في أقفاص".
وبالرغم من أن الكاتب لم يخض في أسرار العبقرية والجنون، على حد قوله، لكنه يقول:".. ليس خفيا أن الشعراء والمجانين مرتبطون مع بعضهم البعض بطريقة ما، فكل من الشاعر والمجنون غير راض، وكل منهما يستريح على وسادة عزيزة من عبادة الذات مثل الشاعر كوستولاني، وكل منهما يوقن أننا لا نساوي إلا ما نساويه أمام أنفسنا وهذا في الواقع ليس عبادة ذات بقدر ما هو اعتراف مطلق بشخصيتهم".
أنا مع نفسي....... مقياس
كلماتي المنحوتة من الذهب الخالص هي
كلمات السرور
على كل قطعة ذهب تتبدى
صورتي كصورة الملك.. وفي الأعالي
ترى نقش الكلمة المشحونة بالزهو:
أنــا!
ثم يعطينا الكاتب مثالا آخر لشاعر فصامي كتب يقول[14]:
تعلمت في المساء في إحدى القرى
في حجرة صغيرة، مع التنهدات
أن جدي هو السيد
سلفي السكير، لا أنا
أعرف الآن أن جدي
يضطهدني، رغم أنه مات
ويحدق في بعينين زجاجيتين
ويرقص على قمة رأسي
..........
أن أعرف أنه حين الوحش المفترس
ذو الصرخة الطويلة الحادة المنبعثة
يجعلني أنطلق في وهدة الليل
فإنه جدي وليس أنا.
والآن سأقول ما أعرفه أنا بمفردي
إذا هاجمني مرة أخرى معولا
فلن أستطيع أن أصارع من هو أنا
لذلك فأنا أكتب أشعاري على الماء...
يعقب الكاتب على ذلك قائلا: "في وسع المرء أن يفهم بعض ما يسميه العلماء بالانفصام أو الثنائية، فحين (تنفصم) الروح، ينطلق الشخص الآخر، المرعب من الأعماق، الآخر الذي ليس أنا ولكنه أنا... أن الشيء المخيف هنا أن الشاعر لا يعرف حقا أيهما هو الذات الحقيقية".
ثمة ذات ثانية في داخلي
تقتل ذاتي الحقيقية، وهي في الواقع
قد قتلتها تقريبا، وما أفظع أن أشهد ذلك
........
وحين تستسلم إحدى الذاتيين أخيرا
فمن المؤكد أنني سأكون قد مت
وحتى ينتهي قلق تحطم الأعصاب
أريد أن أعرف جواب السؤال – من أنا؟
يعقب د. بنديك بقوله: "أن المرء هنا يساوره الإحساس بأنه لا توجد ذاتين فحسب وإنما ثلاثة، الثالثة هي تلك التي يرعبها مراقبة ما إذا كانت الذات الأولى أو الذات الثانية هي التي تنتصر. لم أفكر في شيء كهذا من قبل. فالفصامي لا يعذبه الصراع المحكوم عليه بالفشل من شخصيتين فحسب وإنما يزيد فيتعذب من جراء عدم استطاعته معرفة أي الشخصيتين هي الحقيقية. لقد تقبل الاثنين، لكن الشك يسلمه لليأس".
وفي سياق آخر، يقول المؤلف: "إذا صح أن هناك انفصاما فهذا هو بالتأكيد، انفصام في الوعي، وفي الشخصية، وصراع بين الأنا والأنا المغايرة، وهو ما وصفه الشاعر يانوس آراني بصورة أفضل من بلوير:
هل أصبحت شبحا يزور مملكته
أنا أرقب في ضعف، وصبر وهدوء،
وأسأل في دهش: أما زلت نفسي؟
أم أحتل ذلك الآخر مكاني؟"
يكفينا هنا هذا القدر من أشعار الفصاميين، ووصفهم لخبراتهم الفصامية، ومن أشعار الشعراء وتعبيرهم عن تفكك الشخصية، ويمكن أن يراجع القارئ بعض ما نشر من أشعار في هذه المجلة طوال صدورها وكذلك ما أسميناه "الكتابة الطليقة"، لنرى عمق التشابه، وصعوبة التفرقة بين إبداع شاعر متميز، وبعض إرهاصات إنسان متألم.
رابعا- تعقيب عام:
لقد اخترت من الكتاب بعض الأفكار التي رأيت أنها تصلح أن تكون بمثابة المبادئ الأساسية في علاج المرضى النفسيين، وفي اعتقادي أنها كذلك، لأنها نابعة من "خبرة حية مكثفة" و"جهد صادق أمين" و"محاولة مستمرة" مع "تعديل مستمر وتطوير لتلك الأفكار" من جانب صاحبها. ومن هذا المنطلق، فإن تلك الأفكار تصلح أن تكون بمثابة "فروض عاملة"، يتنفع بها من يريد، شريطة أن يعاملها كفروض، وليست كأفكار جامدة أو حقائق ثابتة، حتى يتسنى لكل ممارس أن يؤكد بعضها، أو يعدل منها، أو يضيف إليها، أو يطورها.
ولقد تحاشيت في عرضي السابق أن أقدم أفكارا أخرى عرضها المؤلف في كتابه، نظرا لأنها تتعلق أكثر بالظروف الحضارية والنظام السائد في المجر وقتذاك، كما أنني لم أتعرض لتقسيم الأمراض النفسية ووضعها كما عرضها الكاتب، حيث أنها ذات طابع شخصي يحتاج إلى موقف نقدي مقارن مما قد يتطلب مقالا مستقلا.
ورغم مضي أكثر من ثلاثين عاما على تأليف هذا الكتاب فإنني ما زلت أرى أنه يمثل علامة على الطريق، لأنه يكشف مدى النقص والضعف والاختزال في الاتجاه السائد في علاج الأمراض النفسية. بهذه المناسبة فإن د. بنديك يقول: "لقد دفع نجاح العلاج الفعال المتزايد الأطباء المعاصرين إلى إهمال العلاج بالعمل أكثر مما فعل سابقوهم من الأطباء الذين عاشوا في فترة الاعتقاد باستحالة علاج مرضى الأمراض العقلية، أما إذا أراد هؤلاء الأطباء المعاصرون أن يحققوا شيئا ذا قيمة في ميدان العلاج فعليهم أن يجعلوا من المرضى شغلهم الشاغل وينخرطوا معهم في الحياة.
ومن الملاحظ اليوم أن الأطباء يحسون أنهم فرغوا من أداء واجبهم نحو المريض إذا أعطوه الأقراص والحقن والصدمات الكهربائية. ولا يقدرون أن المريض يحتاج كذلك إلى الكلمة الطيبة، والكرامة، والحرية، والشغل والترفية والظروف البيئية الموائمة. ورغم ذلك لا ننكر أن العلاج الفعال هو الذي مكن الأطباء من تطبيق طريقة العلاج الحر على نطاق واسع اليوم... والعكس صحيح فلقد وفرت الظروف البيئية الطبيعية للمصحات التي تعتمد العلاج بالعمل إمكانيات أوسع للعلاج الفعال".
ثم يقول: "وحتى في الحالات التي ينجح العلاج الفعال في شفائها، يظل عاجزا عن وضع اللمسات الأخيرة".
وبعــــد.....
فأنا أتصور أن قراءة هذا الكتاب هي واجب حتمي لكل ممارس لعلاج المرضى النفسي، وبالنسبة للأطباء الأصغر بالذات (وهم الأمل والرجاء) أعتبره لا يقل أهمية عن أي مرجع تقليدي يمتحنون فيه!!.
________________________________________________________________
[11]- Comprehensive Multidimensional Diagnosis -
[12] - وقد حاول المؤلف من خلال هذه المعايشة أن يكون وجهة نظر في الجنون.
[13] - اسم الكتاب الأصلي، باللغة الإنجليزية، هو:The Gilded Gage
[14] - انظر مقتطف وموقف، الإنسان والتطور، عدد أكتوبر 1980 ص 81.
عدد يناير 1985