الفصام: الأسباب المرسبة (1)
ثانيا: اضطراب الإدراك
1- يحدث في الفصام المبتدئ خبرات تغير الذات... والجسم، وتغير الكون، وهي خبرة أكثر منها وساوس أو ضلالات في هذه المرحلة وهي تدل أساساً على اضطراب في إدراك الذات Perception of The self وصورة الجسم Body image وكذلك اضطراب في إدراك العالم الخارجي، ويصاحبها انفعالات مرعبة حتى أرجعها البعض إلى اضطراب انفعالي أساسا وهي تدل على أن الجزء النشط والمسيطر في المخ، والذي تعود على استقبال المؤثرات وإدراكها لم يعد هو وحده الذي يعمل أساساً بل تداخلت أجزاء جديدة (نتيجة لإعادة النشاط في الأجزاء القديمة في المخ) في العمل فأضافت أبعاداً جديدة على الإدراك..
فتغيرت نوعيته غير أن هذا العرض يحدث في بداية الذهان بصفة عامة، وخاصة في الذهان الدوري من النوع الاكتئابي. والذي يفصل بين هذا وذاك هو السن (في الفصام يحدث مبكراً وفي الاكتئاب متأخراً نوعاً) والتاريخ الأسرى الذي يساعد في إعطاء دلالة للخبرة حسب نوع المرض الغالب في الأسرة، وفي الأعراض المصاحبة، وأخيرا حسب تطور سير المرض كما سيرد ذكره.
2- تحدث في الفصام هلوسات وصورة وأخيلة على درجات مختلفة:
أ- فقد يشكو المريض في بداية الأمر من أنه يسمع أفكاره Audible thoughts ولكنه يقول أنها داخل رأسه وأنها أفكاره هو.
ب- وقد يشكو من أنه يخيل إليه أن أحد يكلمه داخل رأسه ويقال أن هذه أقل درجة من الهلوسات المسقطة والمغتربة Projected & Alienated وهنا ينبغي أن نشير إلى أن كلمة "يخيل إلي" لا تنفي أصالة التجربة المرضية وجديتها كما هو شائع وإنما تشير أكثر فأكثر إلى وعى المريض بما يجرى وإدراكه -بعض الشيء- لطبيعته في أول المرض ولا يعني إطلاقاً خبرة كاذبة.
3- ثم قد يشكو من أنه قد سمع صدى أفكاره Ecto de la pensée
4- وهو قد يشكو أيضاً من أنه يسمع أصوات اثنين يتحدثان عنه ويتناقشان في شأنهVoices arguing.
5- ثم يشكو من صوت أو أصوات تعلق على أفعاله أولا بأول Voices Commenting
6- ثم قد يشكو من أنه يسمع (أو يرى أو يشم.. الخ) هلوسات بعيدة عنه لا يعرف مصدرها.
وكل ذلك قد يحدث ووعى المريض رائق واضح، وهو أقرب إلى الهدوء، مما يجعلنا نسمى هذه الهلوسات هلوسات باردة تمييزاً لها عن الهلوسات الساخنة التي تصاحب حالات الهياج واضطراب الوعي.
7- اضطراب أبعاد الذات: يمكن أن يعتبر جزءاً من اضطراب الإرادة والتحكم بين الذات وبين العالم، وإن كان في كل الأحوال ظاهرة قائمة بذاتها يشعر فيها المريض أن ذاته لم تعد محدودة بجسمه وأنه لم يعد هناك فواصل تفصله عما حوله من ناس وأشياء، وهذه الظاهرة تدل على انهيار الأنا والرجعة إلى حال بدائية من الوجود، وإداركها ليس اضطراباً إذا في الإدراك بل هو إدراك لحدث غريب شاذ حدث فعلاً في تركيب الشخصية وحدودها، ونتيجة له يمكن تفسير كثير من الأعراض السابقة مثل إقحام الأفكار وانتزاعها بل وأهم من ذلك قراءتها وإذاعتها وهذه الأعراض الثلاثة تدل على ضعف حدود الذات واستقلالها وضعف تحكمها في ذاتها (وهو خطوة قبل فقد الأبعاد تماماً).. وكأن هذا الضعف جعلها قابلة للاختراق والتصنت.
كما أن هذه الظاهرة نفسها مسئولة عن بعض الأعراض اللاحقة التي تتصل بفقد الإرادة مثل: الفعل المفروض على الشخص، والانفعال المقحم مما سيرد ذكره فيما يلي.
ثالثا: اضطراب الإرادة:
1- يظهر اضطراب الإرادة -كما أشرنا- مع ظاهرة فقد أبعاد الذات وهذا تلازم دال ومباشر.
2- كثير من الأعراض الدالة على السلبية التي ذكرت قبلاً تدل على فقد الإرادة ضمناً مثل إقحام الأفكار، إذاعتها بلا إرادة من المريض، والأصوات الآمرة التي تناقش أمره دون أي تدخل منه والتي تعقب عل يفعله وتوجهه.. الخ.
3- يشكو المريض من أن أفعالا إرادية تفرض عليه دون إرادة منه وتسمى الأفعال المفروضة Made Volitional acts.
4- قد يشكو المريض من أن عواطف تقحم على وجدانه دون أن يريدها أو يستطيع مقاومتها وتسمى العواطف المقحمة Made affects.
5- قد يظهر ضعف الإرادة في شكل التردد الفظيع حتى بين مد اليد للسلام أو العدول عن ذلك فتقف اليد في وضع وسط في نصف الطريق لا تمتد إلى السلام ولا ترجع عنه بل تهتز أماماً وخلفاً.. وتسمى اليد المترددة. وهذا التردد نفسه الدال على فقد الإرادة يعجز المريض عن اتخاذ أي قرار حاسم في أبسط الأمور.
6- وقد يظهر ضعف الإرادة في العجز عندما يقدم المريض لينفذ آراؤه أو حتى ليتخذ قرار أصلاً.. لا سيما وأن آراؤه مثالية في الأغلب ويحتاج تنفيذها إلى إرادة حديدية، ويبدو التناقض واضحاً بين مثاليته وعجزه.
7- قد يبدو فقد الإرادة في القابلية للاستهواء في أشكال الطاعة الآلية الوضعية التصلبية الشمعية حيث يتشكل جسم المريض - دون مقاومة منه كما يشكله الفاحص وكأنه تمثال من شمع Flexibilities Cerea.
8- تريد الكلام (كالصدى) وإعادة الحركة "المصاداه المحاركة" هو أيضا دليل على فقد الإرادة.
9- قد يبدو ضعف الإرادة في صورة عكسية مثل الخلف Negativism حيث يأتي المريض بعكس ما يطلب منه تماماً، وهذا استهواء سلبي ورغم أنه يبدو عناداً وكأنه اعتداد بالذات إلا أنه فقد للإرادة في جوهره. أما المقاومة فهي أن يمتنع المريض عن المطلوب دون أن يأتي بعكسه وهذه درجة ما من الخلف.. ودالة أيضاً على المطلق ومن ثم ضعف الإرادة.
10- قد يظهر ضعف الإرادة في صورة العزوف عن العمل والإنتاج والتحصيل الدراسي رغم الحديث عن النية في ذلك جميعه.
رابعا: اضطراب السلوك الحركي:
السلوك الحركي تعبير عن مظاهر عقلية أخرى، لذلك فإن اضطرابه قد يكون مظهراً لما ذكرنا من اضطرابات سابقة أو ما سنذكر من اضطرابات لاحقة مثل ما يلي:
1- قد يأتي المريض سلوكاً غير متناسق وشاذ وأحياناً متعارض مع بعضه البعض، مما يدل على أنه تحت سيطرة أكثر من دافع أو أكثر من مركز نشط في المخ في نفس الوقت.
2- قد يظهر كثير من مظاهر ضعف الإرادة في السلوك الحركي مثل الطاعة الآلية، والوضعية التصلبية الشمعية، وتردد الكلام كالصدى والخلف والمقاومة... وتردد الحركة كالصدى... الخ.
3- قد يبدو على فعل المريض التكرارية، والأسلوبية، والتثابر.
4- قد يظهر المريض حركة خاصة مثل الدوران في مكان محدود بلا توقف طول الوقت دون أن يجهد، ويظل ينظر إلى مواقع قدميه ليس إلا.
5- قد يظهر المريض بيديه وجسمه حركات دالة على اضطراب محتوى فكره وشذوذه بصفة خاصة.
6- قد تتجزأ حركات المريض. أو تبدو فيها العرقلة مثل عرقلة الفكر سواء بسواء.
7- يمكن اعتبار الانزواء الاجتماعي لدرجة التحوصل -مجازاً- من مظاهر هبوط المستوى الحركي الاقتحامي.
خامسا: اضطراب العاطفة:
يعتبر اضطراب الوجدان والعاطفة في الفصام اضطراباً أساسياً من حيث أن انسحاب العاطفة من العالم الخارجي هي الأساس الدينامي لاضطراب الفصام بصفة عامة، فإن كانت اضطرابات الفكر أكثر وأظهر فإن اضطراب العاطفة أسبق وأخطر سيكوباثولوجيا. وعلى كل حال فإن الاضطراب الفكري هو الاضطراب السلوكي الأساسي في الفصام.
حتى لا يمكن أن نعتبر الفصام فصاماً دونه بينما الاضطراب الوجداني السلوكي قد يحدث في الفصام وفي غيره كما سيتضح من دراسة هذا الكتاب وذلك أيضاً من الناحية السلوكية الظاهرة، وإذا أردنا أن نوجز ماذا يحدث في العواطف بصفة عامة، فإننا نستطيع القول أن المريض يصبح بلا عواطف ذات فاعلية فإن وجدت العواطف فهي إما بدائية أو متذبذبة أو متناقضة أو ذاتية.. فلا جدوى منها -إن وجدت- في الكيف الاجتماعي ولا في التواصل مع الناس.
وأهم الأعراض في المجال الوجداني العاطفي هي:
1- تبلد الشعور واللامبالاة: وفي الواقع أن المريض لا يبدى عواطف ظاهرة، وكأنه لا يبالي، ولكن العواطف تكون قد انسحبت إلى الجزء الأعمق من الشخصية.. فهي تختفي إلى الداخل ولكنها لا تنمحي.. (ويظهر ذلك أثناء العلاج العميق والمكثف للفصام).
2- تذبذب العاطفة: إذ تنتقل من النقيض إلى النقيض.. وبالتالي فإن عدم استمرارها هذا يجعلها غير ذات أبعاد صالحة لعمل علاقة مع آخرين ويفشل وظيفتها للتكيف. وهذا ما أشرنا إليه.
3- تباين العواطف: فهي لا تتفق مع محتوى التفكير أساساً، ولا تتفق كذلك مع طبيعة الموقف أو مجرى السلوك.. ولهذا فهي بغير فائدة.. ولا معنى..
4- تناقض العواطف (أو ثنائية الوجدان) فتوجد العاطفة ونقيضها في نفس الوقت إزاء نفس الشخص مما يجعل الناتج من تصادمها عدما..
5- ظهور عواطف بدائية مثل الغضب والهلع (من العالم الخارجي خاصة وأحياناً عواطف تتعلق بالشبق النكوصي)..
تعقيب
بعد أن عرضنا الأعراض التي تظهر من خلال اضطراب الوظائف المختلفة نرى أنه يمكن إعادة ترتيبها بحسب مستويات التفكك السالف ذكرها:
فالمستوى الأول من الانفصام أو التفكك (تفكك المستويات) يفسر أعراضاً كثيرة منها فقد إبعاد الذات، وخبرة تغير إدراك العالم الخارجي، وانتزاع الأفكار وإقحامها وإذاعتها والأصوات التي تتناقش في أمر المريض أو تعقيب على فكره، وسماعه أصواتاً غريبة عنه والأفعال المفروضة عليه، وكذلك العواطف المفحمة في وجدانه، والتردد وثنائية الوجدان وتذبذبه من النقيض إلى النقيض..
كل ذلك إنما يفسره أن النفس لم تعد تعمل ككل بل انفصمت عراها وأصبح هناك أكثر من كيان يعمل في نفس الوقت (يمكن أن يسمى هذا التعدد في الكيانات حالات الأنا، أو مستويات المخ.. حسب مختلف المدارس) وبالتالي فكل هذه الأعراض إنما يفسرها أن كيانا بعمل مع كيان آخر دون تنسيق (أو بمعنى آخر أن مستوى يعمل في نشاط دون مراعاة لنشاط المستوى الآخر).
أما المستوى الثاني: من التفكك (تفكك الوظائف النفسية بعضها عن بعض) فيفسر أعراض أخرى كثيرة منها تباين العواطف، والتباعد بين أحلام اليقظة (التفكير) والفعل الإرادي، والتناقض بين السلوك الحركي أو الانزواء الاجتماعي وبين الانفعال الضاحك المسترخي (ظاهرياً).
أما المستوى الثالث: من التفكك.. وهو مقومات كل وظيفة على حدة في داخل أجزائها ومكوناتها.. فهو يفسر أعراضاً كثيرة مثل اضطرابات الفكر المتعلقة بتفكك عملية التفكير ذاتها (كالغموض واللاترابط، وسلطة الكلام والتكثيف والتفكير العياني، وعرقلة التفكير، وضغط الأفكار وفقرها) وتذبذب العواطف، وشذوذ السلوك الحركي وتجزئته وعرقلته. أما بقية الأعراض: فقد تكون مظهراً لسلوك بدائي ظهر من خلال إثارة النشاط القديم (الأثري أو الطفلي) مثل الأفكار الأثرية والتفكير العياني.
وقد تكون هناك محاولات للجوء إلى دفاعات مختلفة كالإزاحة والإسقاط (فتظهر الهلاوس والضلالات مثلاً) لجمع شمل هذا التفكك والتناثر بدفاعات قد تزيد من الأعراض ظاهرياً ولكنها محاولات إسعافية لمنع التناثر الكامل هذا ولابد من أن نشير هنا إلى ميل المريض إلى النكوص، وإنه إذا نجح في ذلك، وسمح له المجتمع به وحماه وأعانه فإن كثيراً من الأعراض تختفي تماماً ولا تظهر إلا تحت ضغوط الحياة الناضجة المستقلة الواقعية، وهذا مما يحير بعض الفاحصين، لأنه حتى اللامبالاة والتناثر تختفي مؤقتاً إذا مارس بعض المرضى طفولتهم في حماية خاصة... وهذا ما يسمى أحياناً التحسن الظاهري بالنكوص.
وأخيراً: فإنه ينبغي الإشارة إلى القول الشائع بأنه في مرضى الفصام لا تتغير وظائف الوعي، والذكاء، والذاكرة إلا أن هذا موضوع يحتاج إلى نقاش.
1- الوعي: يظل الوعي سليماً من حيث وضوحه، إلا أن المريض قد يبدو غير منتبه رغم تسجيله لكل ما يحدث من حوله وتسمى هذه الخاصة أنه محتفظ بدرجة من الانتباه السلبي ولكن بالتعمق في دراسة الوعي نجد أنه يتغير نوعياً إلا أن حجم هذا الكتاب لا يتسع لشرح هذا التغير النوعي الذي قد تكون مظاهره حالة كالحلم قد تصيب الفصامي في بعض أطوار تتطور المرض.
2- الذكاء: لا يتأثر الذكاء فعلاً رغم الاعتقاد التاريخي بأن الفصام هو عته مبكر، وبالرغم من أن التفكير التجريدي (وهو من مقومات الذكاء) يضمحل إلا أن القدرات اللفظية تظل ثابتة: وحتى هذا الاضمحلال الظاهري يعتبر مؤقتاً لو أتيحت له فرصة الشفاء إلا أنه في نهاية أطوار المرض ومع التغيرات العضوية في الجهاز العصبي يضمحل الذكاء فعلاً.
3- الذاكرة: تظل ذاكرة المريض سليمة رغم أنه يبدو عاجزاً عن التسجيل، إلا بعد الإفاقة قد يحكي كل تفاصيل ما حدث بلا نسيان لأي لفتة أو همسة.. مما يدل على أن عمل المخ بالنسبة لوظيفة الذاكرة يستمر رغم ظاهر تعطله.
وللحديث بقية........ أنواع الفصام (1)
_________________________________
[1] أجرى هذا البحث بتوصية الجمعية المصرية للطب النفسي وأجراه الدكتور رفعت محفوظ تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمود سامي عبد الجواد ويمكن الرجوع إليه منشوراً بالجمعية.
واقرأ أيضاً:
مقالات عن الفصام والوهام / الفصام والوهام Schizophrenias & delusions