"جسد المرأة الذي له جغرافيا، سوف يكون له تاريخ صعب".. حكمة قالها (أو ربما تناقلها) أنيس منصور، ولكن للأسف لم تصل إلى أذن الحسناء سوزان تميم فدفعت حياتها ثمنا لجغرافيا جسدها وتقاسيم وجهها وعاشت تاريخا مأساويا رغم تقلبها في نعيم العاشقين لجمال الخرائط. وربما يمنعني صيامي (وخلفه حيائي) من الدخول في تفاصيل جغرافية تكمن وراء هذا الحدث التاريخي الذي يعكس علاقة الثروة والسلطة بالجمال في مجتمعاتنا العربية، ولكنني أترك لخيالك العنان في تخيل ما تريده من خلال الأرقام المذكورة في الصحف ومنها:
أن رجل الأعمال العاشق وعدها بخمسين مليون دولار إن هي عادت إليه، واتهمها بسحب 400 مليون دولار من حساباته السرية في البنوك (طبقا لتصريحات زوجها عادل معتوق)، ثم الأخبار التي تقول بأنه دفع 2 مليون دولارا ثمنا لقتلها، فإذا عرفت أن رجل الأعمال لديه القدرة على تقييم الأشياء فلك أن تتخيل جسدا يدفع فيه كل هذه الملايين. وهذا ما جعل أحد المتابعين للأحداث يحسد من قام بتغسيل جسد سوزان وتكفينها، وتساءل: كم دفع هذا الرجل "المغسل" مقابل تغسيل هذا الجسد الأسطورة الذي انتزع قلوب رجال الأعمال والأمراء وغيرهم.
ولسنا هنا نصدر أحكاما مسبقة ضد أحد، فالمتهم برئ جدا حتى تثبت إدانته، وإن كان هذا القول قد تغير بعد أحداث العبارة ومحاكمة ممدوح إسماعيل، وبعد قضية هايدلينا، وقضايا أخرى مماثلة، فالقاضي في النهاية بشر يحكم بما يصل إليه من وثائق وأوراق وشهادات شهود، وكل هذه أشياء يمكن إجراء تعديلات كثيرة فيها قبل أن تصل إلى ساحة القضاء، وهناك محترفون لإجراء مثل هذه التعديلات خاصة إذا كان المستفيد سيقدر هذه الخدمة بسخاء كما قدر جغرافية الجسد الساحر.
ويبدو أن سيناريو رجل الأعمال والفنانة سيتكرر كثيرا خاصة إذا عرفنا أن سيكولوجية رجل الأعمال تقوم على اقتناء كل جميل أو ثمين أو مبهر، وهو لا يكتفي بالاقتناء بل يصر على الامتلاك، وعلى الرغم من نجاحات رجل الأعمال في عالم المال إلا أنه أحيانا تنقصه الشهرة، فيحاول أن يعوض هذا النقص من خلال اقترابه من مشاهير الفن خاصة من تتحقق فيهن معايير عالية في الجمال تغري رجل الأعمال باقتنائها، والشعور بالظفر على أقرانه وهو يمتلك هذا الجمال الأنثوي الأخاذ.
وإذا انتقلنا إلى سيكولوجية المشاهير من الفنانات (خاصة فنانات الدرجة الثانية والثالثة) نجد أنها تقوم على الاستعراض والتحرر والتعددية، بمعنى أنها تسعى نحو استعراض ملكاتها وإمكاناتها وجمالها وجاذبيتها أمام أكبر عدد ممكن من الجمهور، وهي تشعر بالنجاح والطمأنينة كلما زاد عدد معجبيها والمفتونين بها، وإذا خيرت بين الزواج المستقر في أحضان رجل واحد وبين تصفيق وإعجاب الجماهير العريضة فإنها تفضل الجماهير؛
ولهذا حين تقترن الفنانة برجل الأعمال تحدث أزمة ربما تؤدي إلى التورط في القتل، حيث يعمد رجل الأعمال إلى امتلاك تلك التحفة الجمالية وحده، بينما ترى تلك التحفة أنها أغلى وأثمن وأروع من أن يمتلكها رجل واحد مهما كان ثراؤه، وهنا يحدث الصراع بين الإثنين، وربما ينتهي ذلك الصراع بقرار من رجل الأعمال بتصفية الفنانة حتى لا يمتلكها أحد غيره، وهو في غمرة إحساسه بالغيرة والهزيمة من ناحية، وإحساسه بتضخم نفوذه وقوته وثروته من ناحية أخرى يشعر بأن من حقه أن يفعل ذلك؛
وأن ثروته ونفوذه وعلاقاته سيحولان بينه وبين القانون فلا تقع عليه عقوبة أو يطاله قانون، وهنا تحدث الكارثة. وتزداد الأزمة وتتعقد حين يكون رجل الأعمال متلحفا بالسلطة في صورة عضوية الحزب أو الأمانة أو المجلس، هنا يصاب بحالة من الثقة والطمأنينة الزائدة، فهو قد جرب مرارا اختراق حواجز القانون، وشعر أنه يملك ويمتلك كل شيء بما فيها أراضي الدولة وأجساد الحسناوات.
ومن المفارقات أن حادث مقتل سوزان تميم مع تفاصيل الملايين التي ألقيت حولها وعليها يتزامن مع حادث انهيار صخور المقطم على أكواخ المعدمين في الدويقة، وربما تتعمد الصحف المعارضة والمستقلة نشر صفحات متقابلة عن الحدثين.
وربما يكون القاسم المشترك بين الحدثين هو أن الجسد يموت سواءا في شقة شديدة الفخامة في حي راق بمدينة دبي الأسطورية أو في كوخ تحت صخور جبل المقطم، والأجساد كلها تتعفن سواءا تلك التي ألقي عليها الملايين أو ألقيت عليها الصخور، وكل يبعث على نيته، ولكن الشيء المختلف هو أن جمال جسد سوزان تميم (في حياتها طبعا) يجعل رجل الأعمال يسرع كثيرا في نثر الملايين على تضاريس ذلك الجسد؛
بينما تشوهات أجساد أهل الدويقة (جراء الفقر والجهل وفيروس س والفشل الكلوي والأمراض الجلدية وآثار انحناءات الظهر ذلا وتسولا وقهرا) تجعل رجل الأعمال نفسه يتردد كثيرا قبل أن يتبرع للدويقيين بجنيه واحد، أو أن يفكر في تطوير عشوائيتهم أو عشوائيات غيرهم، وربما يدعوهم إلى شراء شقق وفلل في مشروعاته المعمارية المنتشرة بطول مصر وعرضها متهما إياهم بالتكاسل عن حضور معارض شركاته والتراخي عن ركوب الأتوبيسات المكيفة التي تنقلهم إلى مدنه الجديدة ليروا على الطبيعة القصور والفلل وحمامات السباحة وأراضي الجولف الخضراء.
وأهل الدويقة مسئولون عن تشوهات جسدهم وعن روائح عرقهم وعن تلوث أحيائهم، تلك الأشياء التي منعت جموع المتبرعين من رجال الأعمال ورجال الحزب ورجال الأمانة (أي أمانة) من الوصول إليهم، واكتفائهم بعمل صور مركبة على الكومبيوتر تبين تواجدهم وسط الفقراء، ويتم أخذ تلك الصور في حي العجوزة أو مصر الجديدة.
والدويقيون لا يعرفون الموت بمعناه التقليدي الذي يعرفه الناس إذ أنهم عاشوا أمواتا بين الأحياء يتسولون، وإذا "طلعت أروحهم" تحت صخرة ثقيلة فإنهم ينتقلون إلى حياة أفضل في رحاب الله الكريم الرحيم، وقد استبدلوا الشقق التي وعدهم بها المسئولون عشرات السنين بقصور شاسعة، واستبدلوا أحياءهم المحشورة بين الصخور بجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، أي أن موتهم كان مكسبا يحسدهم عليه الأحياء منهم.
ولكي تفهم الصورة أكثر دعني آخذك لجيرانهم سكان المقابر، وقد عشت ليلة كاملة بينهم في ظروف استكشافية إعلامية وعلمية، ورأيت بعيني ولم يحك لي أحد كيف يعيشون ويأكلون وينامون ويتزاوجون ويفرحون ويحزنون ويحبون ويكرهون ويموتون، ووجدت أن موتهم أبسط بكثير من موت غيرهم، وربما تكون هذه هي الحكمة التي من أجلها يعيش حوالي مليون من أهل القاهرة في المقابر، فهم مع معايشتهم للأموات تجري لهم عملية تقليل حساسية تجريدي (حسب أقوال علماء النفس السلوكيين) للموت فلا يخشونه أبدا، فالمسافة بين موتهم وحياتهم مجرد جدار يفصل بين فناء القبر والقبر ذاته.
وأذكر أنه في تلك الليلة القبورية التي قضيتها بينهم (الله لا يعودها)، كنا نتحرك بحذر شديد حيث أن أجساد الرجال والنساء كانت مبعثرة هنا وهناك بلا تمييز (على الأقل لنا)، وكنا نخشى أن ندوس أي جسد دون أن نقصد، ففي ظلمة المقابر تستوي الحجارة والأجساد، وحتى المستيقظين من سكان القبور كانوا يجلسون في هيئة تجعلهم يظهرون في الظلام وكأنهم شواهد قبور، فإذا اقتربت منهم سمعت سعالا مختنقا أو صوت أنفاس متحشرجة.
وبحكم مهنتي واهتماماتي وفضولي، أتنقل بين أقصى الطبقات فقرا وأقصاها غنى ورفاهية، وهذا يجعلني أشبه بالبندول الذي يتحرك بين الطبقات الاجتماعية المختلفة صعودا وهبوطا، ويوقظ وعيي بما يحدث هنا وهناك ويجعلني أشفق على من يعيشون تصورا أحاديا للطبقات كهؤلاء الذين يعيشون في رحاب القصور الرئاسية، أو المقرات الحزبية، أو المدن العالمية التي هي على أرض وأجساد مصرية، وأشفق أيضا على أولئك الدويقيون الذين لا يجدون ميكروباصا ينقلهم إلى مارينا أو إلى سان استيفانو أو فندق الفورسيزون أو حتى مدينة الرحاب.
وحين كنت أنزل –بشكل عارض حتما– في فندق سان استيفانو أو الفور سيزون (لمجرد حضور مؤتمر علمي وأغادره فورا عند انتهاء المؤتمر)، كانت تقفز إلى ذهني المقارنة فورا بين ما أراه في حمام غرفتي (الطارئة) بهذا الفندق أو ذاك وبين ما أراه في المساكن القبورية أو الدويقية (أو ما أتخيله من حمامات هذه المساكن، إن كان بها حمامات أصلا).
ولست أنكر أنني كنت من المعجبين جدا بمدينة الرحاب النظيفة الجميلة، وبفندق سان استيفانو الرائع، وبالفور سيزون المذهل، وكنت أفخر بالمجموعة التي قامت على هذه المشروعات المعمارية الراقية والعملاقة، وأصدق فعلا أنهم بناة المستقبل، وصانعو الجمال على أرض مصر العشوائية، ولكنني تراجعت كثيرا عن هذه المشاعر ومعي عدد غير قليل من أهل مصر الأصليين حين تطايرت الأخبار المصاحبة لمقتل الحسناء (صاحبة الجغرافيا والتاريخ) سوزان تميم، والتي تفيد أن العاشق وشركاته قد حصل على ما يصل إلى 40 مليون متر مربع من أرض مصر الحزينة لكي ينشئ عليها مدنه ومشروعاته؛
ولكي ينفق من ريعها ليس على الدويقيون وأصحاب عزبة الزبالين وعزبة الصفيح، وإنما على هيفاء لبنانية تقيم في جناح خاص بالفورسيزون، وتذهلني الأرقام المبعثرة تحت أقدامها ويدفعني خيالي الساذج إلى تصور إنفاق هذه الملايين من الدولارات على تطوير بعض العشوائيات والقبوريات، ولكني أعود إلى وعيي وأقول أين جغرافيا الجسد التي تصنع التاريخ في تلك المناطق؛
ثم أتساءل في سذاجة: ولماذا لم ينثر بيل جيتس أمواله على أجساد وتحت أقدام الحسناوات، وفضّل بدلا من ذلك أن يقضي بقية سنوات عمره في المشروعات الخيرية، فيأتي الرد مرة أخرى بأن بيل جيتس على الرغم من ذكائه الهائل إلا أنه كان ضعيفا في الجغرافيا.
اقرأ أيضاً:
السنة والشيعة.. فتنة السياسة أم فتنة العقيدة؟ / من أين تأتي الأحلام؟ / تفسير الأحلام بين العلم والخرافة