ولد جمال حمدان عام 1928م في قرية ناي مركز قليوب (والتي تبعد عن القاهرة نحو 40 كيلومتراً)، ثم عاش في مدينة القاهرة بحي شبرا حيث كان يعمل والده مدرساً، وتوفي في شقته وحيدا ً(كما عاش وحيداً) في 17 أبريل 1993م عن عمر يناهز 65 عاماً.
ورغم عزلته ووحدته إلا إنتاجه العلمي كان يعكس عبقرية من نوع خاص، فقد مكنته عزلته من تجاوز الشكليات والتفاصيل والنفاذ إلى الجوهر والروح، وقد أدى غضبه من المصريين كبشر إلى توحده مع مصر كوطن بعبقرية زمانها ومكانها، وقد أثارت حياة جمال حمدان المختلفة عن المألوف تساؤلات كثيرة:
أهو عبقري فقط، أم عبقري معتزل، أم عبقري مغترب، أم عبقري لديه مشكلات في التكيف الاجتماعي، أم عبقري مريض؟، وهذا ما سنحاول رؤيته في تلك الدراسة.
التركيبة الأسرية وانعكاساتها النفسية:
هناك العديد من الدراسات النفسية التي تحاول الربط بين ترتيب الشخص بين إخوته وصفاته النفسية، وسوف نحاول استخدام نتائج هذه الدراسات لفهم ديناميات شخصية جمال حمدان، وفيما يلي ترتيبه بين إخوته:
1- سعاد– توفيت بعد ولادتها بشهور.
2- شكرية.
3- محمد.
4- جمال الدين.
5- جمال (جمال حمدان).
6- عبد الحميد.
إذا تأملنا هذه التركيبة الأسرية فإننا نخرج ببعض التوقعات التي تساعدنا على فهم بعض الأشياء الغامضة في حياة هذا العبقري:
0 توفيت أخته سعاد بعد ولادتها، وهذه تعتبر صدمة للأسرة في أول ولادة، وبالتالي نتوقع احتفاءً كبيراً بالمولودة التالية وهي شكرية.
0 ثم يأتي أخوه محمد بعد شكرية، فيحظى أيضاً باحتفاء كبير نظراً لكونه ذكرا ً(كعادة الأسر المصرية والعربية عموماً).
0 أما الأخ الرابع وهو جمال الدين فلا نتوقع أن يكون لمولده وقع خاص، فالأسرة لديها الآن بنتاً وولداً.
0 ويأتي المولود الخامس، وهو ولد يسبقه ولدان، فنتوقع أن يكون استقباله روتينياً بل ربما يكون فاتراً فهو تكرار لما سبق، وهذا نلمحه في تسميته "جمال"، رغم أن أخاه السابق يسمى جمال الدين؛
وهذا الموقف في التسمية يوحي بالإحساس بالنمطية تجاه هذا المولود الجديد، وربما يوحي ببعض العدوان الخفي تجاهه من جانب أحد الوالدين أو كليهما، فكأنهما قد ضنّا عليه باسم متميز فأعطوه اسم أخيه السابق بعد أن نزعوا عنه بقيته، فالرابع "جمال الدين" والخامس "جمال"
0 ثم يأتي الأخ الأصغر والسادس عبد الحميد من نفس الجنس، ولكنه هنا آخر العنقود.
إذن فشكرية هي البنت البكرية وأول فرحة الأسرة خاصة بعد فقد سعاد، إذن فلها مكانة خاصة لدى الأسرة، ومحمد هو الولد الأول فله مكانة خاصة أيضاً فهو الرجل الثاني في الأسرة بعد أبيه، وعبد الحميد آخر العنقود المدلل، فله مكانته من هذه الناحية، ويبقى جمال الدين وجمال في الوضع الأوسط ليس لهما تميز في شيء. والابن الأوسط عموماً يكون منسياً، أو على الأقل هو يشعر دائماً أنه منسيّ، ولذلك يغلب عليه الشعور بالظلم أو الإهمال من والديه، ولذلك نجده يأخذ أحد المسارات التالية:
1 – التميز في شيء إيجابي لكي يستعيد مكانته المفقودة ويؤكد وجوده ويقول للجميع:
"أنا أستحق الاهتمام"، فالأمر بالنسبة له مسألة كرامة، ولذلك حين يتحقق تميزه ويبدأ الآخرين في الالتفات نحوه فهو يرفض ذلك غضباً وحزناً، وكأنه يقول لهم بلسان الحال: "أنتم لم تحبوني لشخصي، وإنما لإنجازاتي وأعمالي، لذلك أنا غاضب منكم وحزين على نفسي".
2 – التميز في شيء سلبي، بأن يكون عنيداً أو عدوانياً أو فاشلاً، بحيث يجذب نظر واهتمام والديه رغماً عنهما إليه.
3 – الانسحاب والتقوقع حزناً وألماً وربما عدواناً سلبياً على الآخرين.
وفي حالة جمال حمدان نجد أنه قد حاول أن يستعيد مكانته الأسرية المفقودة (على الأقل في نظره) بالتميز الدراسي فكان هو أول شخص في العائلة يحصل على التوجيهية وأول شخص يلتحق بالجامعة (كلية الآداب) جامعة فؤاد، ووجد نفسه في هذا التميز الدراسي، وأصبح بفضله فخر الأسرة والعائلة كلها، وهذا مفتاح مهم في فهم خياراته بعد ذلك، حيث نجد تشبثه بالعلم كوسيلة وحيدة لإثبات وجوده في صراع الأقران والحياة، وهو يكتشف من وضعه الأسري أنه يحصل على الحب والتقدير بقدر ما يتفوق في علمه لأنه لا يملك أي مكانة خاصة أخرى تمنحه ذلك.
وهذا ما فعله بقية حياته حيث اكتشف أن هناك منافسة غير شريفة، وضاغطة بينه وبين زملائه في قسم الجغرافيا، فانسحب من الصراع حتى لا يبدد طاقاته فيه، وآثر أن يتشبث بالشيء الأوحد الذي يعطيه دائماً الحب والتقدير واحترامه لذاته، ألا وهو العلم، فكأنما كان يصنع علاقته مع الحياة ومع الناس (ولو من بعيد) بواسطة العلم، فكأنه يقول لهم بلسان الحال: "لم تستطيعوا أن تمنحوني الحب لشخصي، فسأحصل على حبكم وتقديركم لعلمي الذي سوف تعرفون قيمته في يوم من الأيام"، ولذلك كان يكتب للناس، ولكن عزة نفسه وكبريائه المجروحين كانا يأبيان أخذ مقابل تافه لذلك العلم، حيث كان يطمح إلى الخلود.
مشواره الدراسي ودلالاته النفسية:
بدأ مشواره الدراسي في مدرسة شبرا الابتدائية عام 1936 م، وكان طالباً عادياً يلعب كرة القدم ومتشوقاً إلى حصة "فلاحة البساتين"، ولم تكن طفولته تنم عن أي عبقرية، ثم التحق بمدرسة التوفيقية الثانوية وأحب مادة "الجغرافيا" وزاد حبه لها بسبب أستاذه المرحوم / محمود جمال الدين، ثم التحق بعد ذلك بقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة) حيث ظهر تفوقه وحصل في السنة الثانية على تقدير ممتاز، الأمر الذي أهله في السنة الثالثة لتعلم اللغة الألمانية وحضور محاضرات تتعلق بمنهجية البحث، وهي محاضرات كانت مقصورة على الطلبة الحاصلين على درجة الامتياز. ثم حصل على ليسانس الآداب بامتياز وعين معيداً بنفس الكلية عام 1948 ثم سافر إلى انجلترا وحصل على الدكتوراة وعين مدرساً بالجامعة.
نلاحظ في مشواره الدراسي اهتمامه بمادة الجغرافية، والجغرافية تعني في الوعي العام بعد المكان، وفي هذا إشارة مبكرة إلى غلبة التعلق بالمكان لدى جمال حمدان وأنه سوف يكون أهم لديه من البشر.
كما أن الجغرافيا كتخصص لا تحظى باهتمام كثير من الطلاب، وكأنه هنا يبحث عن شيء لا يتنافس عليه كثير من الناس، حيث أن لديه ذكريات مؤلمة في التنافس الأسري كان هو فيه خاسراً بسبب ترتيبه غير المتميز بين إخوته، ولم يكسب فيه شيئاً إلا بتفوقه الدراسي على إخوته السابقين له.
ثم نأتي إلى سبب آخر لحبه للجغرافيا وهو أستاذه محمود جمال الدين، فيبدو أنه أعطاه ما افتقده من الحب الوالدي (على الأقل في نظره هو)، وربما تكون هذه العلاقة الإيجابية بهذا الأستاذ الجليل وببعض الأساتذة بعد ذلك طوق نجاة لجمال حمدان أنقذه من الوقوع في التعميم بأن كل البشر سيئين، لأن ذلك لو كان قد حدث، فإن نتيجته هي موقف بارانوي كامل من البشر يؤدي إلى عواقب سلوكية وخيمة.
المحنة:
يقول أخيه دكتور/ عبد الحميد: ساءت الأمور بالنسبة لأخي في قسم الجغرافيا بكلية الآداب وبدؤوا يتربصون به الدوائر. وكان من سوء طالعه أن التقي غير عامد ولا متعمد بتلك الكثرة من الديناصورات التي كانت لها صلة "بفلان" أو "علان"، وممن كانوا يعتبرون ذلك جواز مرورهم صوب اعتلاء المناصب القيادية بلا مجهود أو "علم".
(ملحوظة: عين جمال حمدان بوظيفة معيد عام1948، وفي ذلك الوقت لم يكن أبناء الطبقة المتوسطة قد أخذوا مكانهم في تلك المناصب العلمية الرفيعة بشكل واسع ولهذا يحتمل أن يعاني هذا الشخص القادم من أسرة بسيطة وليس له سند من عائلة أو منصب).
ويكمل أخيه:
"ولم يقتصر الحال على تخطيه في الترقية، بل وصل الأمر إلى حد حرمانه من تدريس مادته المفضلة وهي "جغرافية المدن"، وتكليفه بتدريس مادة "الخرائط" لطلبة السنة الأولى، والتي عادة ما كان يقوم بها المعيدون".
هنا نتوقع زيادة حساسية جمال حمدان تجاه ما وقع له لسببين: الأول، أنه يذكره بوضعه المنسي في الأسرة ومرارة المنافسة مع بقية إخوته تلك التي ابتلعها في صمت وحاول التغلب عليها والخروج منها بتميزه الدراسي، الثاني، إحساسه بالغبن بسبب انتمائه لطبقة متوسطة لا تحظى بالقبول في هذا الوسط العلمي الرفيع، وربما يزيد من تأكيد ذلك العامل الثاني احتفاء جمال حمدان بالثورة ومبادئها الاشتراكية كما ظهر في كتاباته فيما بعد.
يواصل أخيه قوله: "ثم انتدب بعد ذلك للعمل في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وهناك وجد أن أحد الزملاء ممن سبقوه في العمل بالخرطوم قد سطا على كتبه ومحاضراته ووزعها على الطلبة على أنها من بنات أفكاره، وأصيب أخي بالدهشة واستولى عليه الغضب وأثبت لطلبته أنه صاحب هذه النصوص.
وعاد أخي بكل المرارة بعد أن أمضى في الخرطوم فصلاً دراسياً واحداً أنجز فيه أحسن دراسة كتبت عن مدينة الخرطوم باللغة الإنجليزية. وفي القاهرة يجد أن نفس الأستاذ ينافسه على الترقية بل ويحصل عليها قبله بدون وجه حق".
نأتي مرة أخرى إلى "عقدة المنافسة"، وهي عقدة شديدة العمق في شخصية جمال حمدان حيث ترجع إلى طفولته المبكرة كما ذكرنا ووجوده بين إخوة وأخوات يحظون باهتمام ورعاية بسبب ظروف ترتيبهم ومجيئهم للحياة، فالتركيبة الذهنية لديه تؤكد له أن الأقران يسرقون منه كل شيء: الحب والاهتمام (في الطفولة) والتفوق والتميز في الشباب، وهنا نتوقع أن تكون استجابته لهذا الحدث تتسم بالحساسية المفرطة، فما حدث له يتكرر كثيراً في المجتمع المصري بأشكال ودرجات متفاوتة، ولكن التاريخ الشخصي والأسرى لجمال حمدان يجعله شديد الحساسية للدرجة التي لا يستطيع معها تجاوزه بسهولة.
يضاف إلى ذلك أن أصحاب المواهب والعبقريات يكون لديهم درجة عالية من الصدق والحساسية، هي أحد أسباب تميزهم، وهي في نفس الوقت أحد أسباب معاناتهم خاصة إذا وجدوا في مجتمعات يكثر فيها الزيف والالتواء والتجريح، فهؤلاء العباقرة الصادقين ذوي النفوس الشفافة والنوايا المستقيمة ليست لديهم القدرة على الموائمه والالتفافات والمداهنات وسلوكيات الفهلوة التي يتميز بها كثير من الناس في المجتمع المصري.
وفي الحقيقة لا توجد تفاصيل مفيدة عن علاقاته داخل الأسرة واحتمالات ارتباط ذلك بمشاكله مع زملاء العمل وحساسيته للمنافسة مع الأقران، ولكننا نعتمد هنا على الترتيب الأسري وما ينتج عنه من مشاعر بناءً على الدراسات النفسية المتواترة.
ويواصل أخيه سرد أحداث محنته:
"وأيقن أخي أنه لن يقوى على الوقوف أمام هؤلاء الديناصورات، وأنه لا سبيل إلى محاربتهم بسلاحه الوحيد الذي لا يملك سواه وهو سلاح العلم، ورأى أن الأولى به أن ينسحب من هذا الميدان، وأن يترك هذه الكعكة ليتقاسموها بينهم، وأن يكرس نفسه لتحقيق مشروعة الكبير الذي كان يحلم به".
"عايشت أخي في محنته هذه، فلم يكن قراره بالانسحاب والاعتزال بالأمر الهين، ولا هو بالقرار السهل، واقترحت عليه أن يأخذ إجازة دراسية لدراسة دكتوراة الآداب في إنجلترا وهي أعلى من دكتوراة الفلسفة ولم تمنح إلا لعدد قليل من العلماء والأساتذة المبرزين... ولكن طلبه رفض من الجامعة... ولم يبق أمام جمال حمدان إلا قرار العزلة... والانسحاب من المجتمع الذي ظلمه ولم ينصفه أبداً. ويعتكف جمال حمدان في منزله، ويرسل باستقالته إلى الجامعة ولكن المأساة تظهر في أسوأ صورها، عندما تعلق استقالته لمدة عامين إمعاناً في المضايقة وضياع حقوقه المشروعة".
عندئذ قال جمال حمدان عبارته المشهورة:
"لا أريد التعامل مع المجتمع.. ولن أخرج من عزلتي حتى ينصلح حاله... وإن كنت أتصور أن ذلك لن يحدث".
(د. عبد الحميد صالح حمدان 1993، في كتابه: صاحب شخصية مصر: ملامح من عبقرية الزمان. مكتبة مدبولي).
وأصيب جمال حمدان بحالة من الكآبة والمرارة ومرّ بفترة عصيبة أمره طبيبه المعالج على أثرها بالكف عن أي نوع من التفكير أو الكتابة... وطلب منه الاستجمام في أي مجتمع بعيد عن أي منغصات لحياته... وكانت حلوان هي الملجأ.
والأسئلة تتوارد حول هذا الموقف:
1- هل هو موقف اكتئابي مرضي؟!
2- أم موقف اعتزالي؟!
3- أم موقف اغترابي؟!
4- أم أزمة نمو؟!
وهذا ما سنجيب عليه لاحقاً، ولكن على أي حال فقد خرج جمال حمدان من هذه المحنة ليواصل عمله في البحث والتأليف محاولاً أن يلملم نفسه، وفي هذه الفترة حاول أن يهجر سيكوباتية البشر الذين أحاطوا به وآلموه إلى جوهر مصر وعظمتها فوضع كتابه الشهير "شخصية مصر" في طبعته الأولى التي ظهرت عام 1968 أي بعد هزيمة يونيو 1967، وكأننا به يتوحد في محنته مع محنة مصر فيحاول بذلك استعادة الجوهرة المفقودة وسط الهراء والعبث المحيط به وبمصر، ثم واصل تنقيحه وإضافاته لتصدر طبعة جديد عبارة عن ألف صفحة، ثم يعطيها مرة أخرى عشر سنوات من عمره من 1975 إلى 1985 لتصدر في صورتها النهائية عبارة عن 4000 صفحة، وهي عمل عبقري غير مسبوق بكل معنى الكلمة.
ولقد كان توحد جمال حمدان مع مصر وعبقريتها الجغرافية (المكانية) والتاريخية (الزمانية) عظيماً، ولكنه حين كان يتحدث عن الإنسان في مصر كانت تنتابه مرارة غير خافية بل وعنفاً واضحاً وهجوماً قاسياً، وكانت لديه رؤية نقدية إصلاحية هائلة يركز فيها على محور مشكلات مصر في رأيه وهو الدكتاتورية المستبدة أو الفرعونية السياسية كما يسميها.
ومن حسن حظنا وحظ جمال حمدان أنه لم تتح له الفرصة ليسافر إلى إنجلترا أثناء محنته وإلا كانت هناك إمكانية أن يتوحد مع الحضارة الغربية في مثل هذه الظروف القاهرة والطاردة أو يسافر إلى بلاد النفط فيعيش في كنف الرفاهية المخدرة والمعطلة.
ولقد أتاح له بقاءه في مصر رغم عزلته القاسية أن يعيش في مرصد دائم يرصد منه مواطن العظمة ومواطن الداء في مصر ويخرج ذلك في أروع صورة حيث ينحت تعبيرات علمية وأدبية لها صفتا الدلالة والخلود في آن.
وقد عاش حياة شديدة الزهد والتقشف، وكان شديد الحساسية نحو أي شيء يمس كرامته، ففي أحد الأيام كتب الأستاذ / أحمد بهاء الدين في عموده رسالة إلى جامعة القاهرة يطلب منها أن تعيد تقدير جمال حمدان أو على الأقل تمنحه معاشاً استثنائياً لكي يعيش به حياة كريمة. وبعد هذا المقال زادت عزلة جمال حمدان ورفض مقابلة أحمد بهاء الدين أو الرد على تليفوناته وابتعد أكثر وأكثر عن بقية الناس.
وفاته:
مات جمال حمدان في غرفته المتواضعة الفقيرة إثر نشوب حريق فيها ليلة 17 أبريل 1993 وهناك غموض حول سبب وفاته يثير الكثير من التساؤلات، فقد كانت هناك ظروف نفسية ومعيشية تبرر إصابته بالاكتئاب وعزوفه عن الحياة، وهناك ظروف أخرى تقول بأن بعضاً من كتاباته كان من الجرأة بحيث تجاوز بعض الخطوط الحمراء التي تبرر أخذ موقف منه، وهناك احتمال ثالث بأن وحدته وتدهور أحواله المعيشية ربما يؤديان إلى وقوع مثل هذا الحادث الأليم.
وعلى أي حال فقد أدى جمال حمدان خدمات هائلة لمصر وللمصريين على الرغم من معاناته الشديدة من الإهمال والظلم، ولم تعكس كتاباته مزاجاً عصابياً أو سوداوياً بل كانت كتاباته تتسم بالشمولية والمرونة والإبداع الطليق والرؤى الواقعية والمتفائلة علي الرغم من واقعه الشخصي البائس.
مريض أم معتزل أم مغترب؟.
والسؤال الذي يبرز حين نتعرض لحياة جمال حمدان هو: هل كان مريضاً نفسياً أم لا؟.
والإجابة يكتنفها بعض الصعوبات، حيث يقف الإنسان مبهوراً أمام إنتاجه العلمي المتميز والمتصل بالناس والحياة وما يتصف به من ايجابية ومرونة وتعدد للرؤى، وهذا بالطبع ينفي شبهة المرض عن صاحبه. ولكن في ذات الوقت إذا تأملنا عزلته الدائمة وانسحابه من المجتمع، وحالة الزهد والتقشف التي عاشها نجد أن هناك مشكلات لا شك فيها في تكيفه الاجتماعي.
وهنا نستطيع القول بأنه كانت هناك حالة من عدم التوازن في هذه التركيبة العبقرية حيث تضخم الإنجاز العلمي في حين تقلص الانجاز الاجتماعي وهذا يعطي انطباعاً بأن جمال حمدان لم يكن مريضاً بمعنى المرض الطبي الإكلينيكي، ولكنه أيضاً لم يكن عادياً أو مألوفاً أو متوازناً بالمقاييس الاجتماعية المعروفة.
وهناك رأي يقول بأنه كان يعيش حالة من الاغتراب تجاه المصريين كبشر وحالة من التوحد والانبهار تجاه مصر كوطن، فهو يهجو المصريين بكل قسوة ويصفهم بالخنوع والخضوع والاستسلام للدكتاتورية والاستبداد في أغلب مراحل تاريخهم القديم والمعاصر، وفي ذات الوقت يرى في مصر كل عناصر العظمة والعبقرية مكاناً وزماناً. والاغتراب– كما يعرفه فارتن (1975) هو: "الشعور بالتفكك، والشعور بالعزلة، وعدم الانتماء، واللامبالاة، والعجز، واللامعيارية".
ويعرفه الدكتور قدري حفني بأنه "شعور الفرد بالضياع والعزلة وعدم الفاعليةن والوحدة والتضاؤل، وعدم الانتماء، مع كل ما يصاحب ذلك وما ينتج عنه من سلوك مدمر تجاه المجتمع ككل، وتجاه الآخرين، وتجاه الذات في النهاية". ويعرفه أحمد أبوزيد (1979) بأنه: "الانسلاخ عن المجتمع، والعزلة والانعزال، والعجز عن التلاؤم، والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، واللامبالاة، وعدم الشعور بالانتماء، بل وأيضاً انعدام الشعور بمغزى الحياة".
"ومن أكثر أسباب النقص في تكيف العبقري مع المجتمع أو الاغتراب، إحساسه بأنه أرفع بكثير من المستوى الاجتماعي الموجود، وتصميم العبقري على التفوق على كل المعايير القائمة، حتى لو أدى هذا إلى مناقضة الناس له واتهامه بالخروج على المألوف أو حتى الجنون" (محمد عبد الغني علام, 1997, جمال حمدان: عبقرية ضد الانحناء، دار الغد العربي، القاهرة).
وإذا تأملنا التعريفات السابقة وغيرها عن الاغتراب فإننا نجد أنها تنطبق في بعض حيثياتها على جمال حمدان ولكنها لا تنطبق بالكامل، فجمال حمدان رغم اغترابه عن الناس إلا أنه كان منتمياً لوطنه مصر وكتب عنه أجمل ما كتب، كما أن عزلته لم تكن سلبية على الإطلاق بل ترعرعت عبقريته في هذه العزلة (كما فعل ذلك كثير من العلماء والمفكرين والفنانين من أمثال: نيوتن وأديسون، وديكارت، والعقاد، ونجيب سرور، وغيرهم)؛
إذن فنحن أمام نوع من الاغتراب عن الناس (المصريين) يقابله عشق للوطن وللعبقرية والعظمة، فرغم عزلته عن البشر إلا أنه ظل راصداً للحياة وللمجتمع، ومحاولاً تشخيص الداء، وإبراز مظاهر الصحة والعبقرية في مصر التي أحبها وغضب وتألم من أهلها، وهذا ما يظهر في عبارته الهامة والدالة على هذا النوع من الاغتراب: "لا أريد التعامل مع المجتمع.. ولن أخرج من عزلتي حتى ينصلح حاله.. وإن كنت أتصور أن ذلك لن يحدث".
ويقول الدكتور محمد شعلان أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر حول هذا النوع الإيجابي من الاغتراب: "المغترب هو الشخص الذي يشعر بأنه غريب عن مجتمعه لسبب أو لآخر لأنه لم يتواءم مع البيئة أو الثقافة أو المجتمع، وجمال حمدان اغترب عن مجتمعه لظروف نعلمها جميعاً، ليتواصل مع مصر من خلال كتبه وتفكيره وإبداعاته ومصادر الثقافة والعلم المختلفة". أما الدكتور أحمد شوقي العقباوي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر فيذهب إلى أن "الاغتراب كمفهوم فلسفي سيشمل كل من يجد نفسه غير متناغم مع الواقع الذي يعيشه، وبالتالي فهذا سينطبق على العديد من المفكرين والبشر العاديين.
والاغتراب عندما يرتبط بسلوكيات مرفوضة اجتماعياً ويتجاوز المتعارف عليه، فهذا هو الاغتراب السلبي والمخيف. وجوهر الاغتراب هو أزمة وجودية يعيشها الإنسان، وقليل ممن يعيشونها قادرون على الخروج منها بولادة شيء سواء كانت كتاباً أم فكرة أم صورة أم معزوفة موسيقية. والمبدعون عادة يعيشون تلك الحالة من الاغتراب، وإذا كان جمال حمدان مغترباً فقد واجه الاغتراب بالإنتاج ذي الوزن والقيمة والأثر العظيم في ثقافة مصر والوطن العربي"(عن كتاب: جمال حمدان عبقرية ضد الانحناء).
وجمال حمدان لم يهرب من المعركة –كما يتبادر إلى الذهن– ولكنه في لحظة يأس وصدق اكتشف موهبته والكنز الذي بداخله، ووجد أنه لو دخل في معارك حول الترقية والوظيفة، أو باع نفسه متملقاً ومداهناً، فإنه سيهدر وقته وجهده وعبقريته فيما لا طائل من ورائه، لذلك قام بعملية تسامٍ وارتفع فوق ضرورات الحياة الزائفة من مال ومنصب وجاه، وتوجه شطر الجوهر والقيمة الحقيقية للحياة كما قدرها وتصورها عملاً خالداً يتجاوز تفاهات الواقع السقيم والأطماع الحقيرة.
وهو في ذلك– ككثير من عظماء التاريخ – قد ضحى بكثير مما يتهافت عليه البشر من مال ومنصب وزوجة وأولاد وسيارة وفيلا وغيرها،لأنه رأى أن العالم الذي يعيش فيه يحتاج إلى رؤية إصلاحية نافذة تكتشف معالم العبقرية في الوطن وتعري معالم الزيف والاضطراب والتناقض فيمن يعيشون على أرضه. والمصلحون والعباقرة كثيراً ما يضحون باحتياجاتهم الشخصية حين يكتشفون أن العالم غير متسق وأن من واجبهم إعادة النظام والاتساق إليه.
وحين اكتفى جمال حمدان بالجغرافيا (أرض الوطن وسمائه) عن الناس، راح يخلع صفات الحياة على هذه الجغرافيا فجعلها –كما يتضح في كتابه العظيم شخصية مصر– كائناً نابضاً بالحياة والحيوية وليس مجرد تضاريس ومناخ ومحاصيل، وهذه ميزة هائلة لعلم الجغرافيا كما صوره جمال حمدان حيث ألقى فيه الروح، ومزج المكان بالزمان والحضارة.
والسؤال التالي: هل كان جمال حمدان مكتئباً؟.
والمبرر لهذا السؤال عزلته الطويلة، وعزوفه عن مغريات الحياة وحتى عن كثير من ضروراتها.
والإجابة هي أنه مما لاشك فيه أن هناك أدلة تبين أنه قد مر بفترة اكتئاب إبان محنته مع الجامعة، وتلك هي الفترة التي ذهب فيها إلى الطبيب ونصحه بأخذ فترة راحة في مكان هادئ، ولكن من الواضح أيضاً أن جمال حمدان تجاوز هذه الحالة بعد ذلك، والدليل على هذا إنتاجه العلمي المتميز، والذي يمتلئ بالثراء والحيوية والمرونة، واتساع الرؤية والتفاؤل تجاه عظمة الوطن وتاريخه ومستقبله، وهذه صفات يفتقدها الشخص المكتئب عموماً.
وربما يكون الإبداع بالكتابة وسيلة علاجية استعان بها جمال حمدان كنوع من العلاج الذاتي، وهذا معروف في العلوم النفسية، فالكتابة تنفيس وتجديد وإعادة ولادة، ورؤية وتطهر.
الخاتمة:
لم أجد خاتمة لهذه الدراسة أجمل من قول جمال حمدان لنا جميعاً: "في هذا الوقت الذي يضطرب فيه الفكر في مصر ويضطرم بحثاً عن شخصيتها ودورها الإنساني والحضاري... فإننا في حاجة إلى فهم كامل لوجهنا ووجهتنا، لكياننا ومكانتنا، لإمكانياتنا وملكاتنا... وأيضاً لنقائصنا ونقائضنا، بلا تحرج ولا تحيز أو أهروب".
اقرأ أيضا:
ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3) / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر