ومازال قتل الأبناء مستمرا:
لم تجف بعد دماء ابن وبنت وزوجة المهندس كمال شريف الذي قتلهم في شقته بحي النزهة في مصر الجديدة منذ عدة شهور حتى يفاجئنا حادث مروع آخر ومشابه إلى حد كبير حيث يقتل رجل أعمال ابنه وابنته وزوجته في شقتهم بحي النزهة أيضا، ولكن هذه المرة بطبنجة أفرغ رصاصاتها في صدورهم ورؤوسهم. وقد تردد أن الأب القاتل كان يتعاطى المخدرات والكحوليات ويغيب عن أسرته فترات طويلة يعيشها في الفنادق؛
وعلى الرغم من ثرائه بسبب أموال ورثها إلا أنه ضيعها وأصبح يعيش أزمة مالية مستمرة ولا ينفق على أسرته، وقد سبب هذا مشكلات مزمنة، وكان كثيرا ما يهددهم بالقتل منذ سنوات، ولكن أحدا لم يتخيل أنه سينفذ تهيده بهذه الوحشية. ولم ينج أحد من المذبحة ليحكي لنا ما حدث ولكن مسرح الجريمة يقول باختصار:
العثور على جثة الزوجة وبجوارها جثة الابن طالب الهندسة (يبدو أن أحدهما كان يدافع عن الآخر ضد هجمة الأب)، والابنة طالبة الثانوي بسريرها غارقة في دمائها، والأب جالس في مكان آخر والطبنجة في فمه.
ولكي نفهم التركيبة النفسية والظروف الاجتماعية التي تحيط بمثل هذه الجرائم تعالوا نستعيد بعض تفاصيل الحادث المماثل والذي وقع في منتصف يناير 2009 في نفس الحي والذي نشر بجريدة الدستور بتاريخ 17 يناير 2009، فقد اشترى المتهم بلطة وسكينا مشرشرة، وذهب إلى البيت وانتظر حتى نامت أسرته فتوجه إلى غرفة ابنه (مهندس أيضا)، ولكن الابن استيقظ على وقع خطوات أبيه، وحاول مقاومته.. لكن الأب عاجله بضربة من البلطة أصابته بذبح في جانب من الرقبة ثم سدد له ضربة أخرى في منتصف رأسه ثم أصابه بأخرى في ذراعه اليمنى، فسقط الابن يلفظ أنفاسه على السرير وسط بركة من الدماء كانت تسيل من رأسه ورقبته.. تأكد الأب من وفاته فتوجه إلى حجرة ابنته..
وقبل أن تنتبه له كان قد هوى على رأسها بالبلطة لكن ضربته لم تنه حياتها بعد أن حالت البطاطين بين حد البلطة وتعرضها لإصابة مؤثرة، فنزع الغطاء عنها وسدد لها ضربة محكمة أحدثت جرحا غائرا في رأسها أفقدها الوعي.. لكنه لاحظ أنها لا تزال على قيد الحياة فعاجلها بضربة أسفل أذنها أنهت حياتها.. ثم سارع إلى غرفة زوجته التي انتبهت له.. وكانت في طريقها لفتح باب غرفتها وهي مذعورة.. فهوى على رأسها بضربة من بلطته فسقطت أمامه وحاولت الفرار منه والاختباء أسفل السرير، لكنه تمكن منها وأصابها بضربة من بلطته فسقطت أمامه وأصابها بضربة أخرى في نفس مكان الضربة الأولى فشلت حركاتها.. فحملها ووضعها على السرير وانهال عليها بالضربات القاتلة.. ثم خرج من الحجرة وذهب إلى أبنائه فوجدهما جثتين هامدتين فعاد إلى زوجته ورقد بجوارها لعدة ساعات ثم نهض وأحضر السكين المشرشرة وقطع شرايين يديه وقدميه محاولا إنهاء حياته هو الآخر، ولكنه لم يمت، وتم نقله إلى أحد المستشفيات، وقد ذكر في التحقيقات المبدئية أنه نفذ جريمته خوفا على أولاده من الفقر بعد خسارته كل مدخراته في البورصة. وقد وجدت السلطات المختصة ورقة مكتوبة بالحبر الأسود بخط يد المتهم كتب فيها "تحيا البورصة المصرية الأمريكية".
نحن أمام جريمة قتل، ولكنها تحوي إفراطا في استخدام العنف، فقد كانت تكفي السكين للقتل، فلماذا البلطة، كما أن السكين العادية تقتل فلماذا السكين المشرشرة والتي تحدث مزيدا من الألم، ودائما نقول بأن عدد القتلى في الجريمة يتناسب مع مخزون العنف في النفس، وواضح هنا أن مخزون العنف كان رهيبا، وهل يعقل أن يحمل زوجا وأبا كل هذا العنف لأسرته؟.. أم أنه عنفا موجها إلى أشخاص أو هيئات أو مواقف أخرى ولكن المتهم أزاحه في هذه اللحظة إلى أحب الناس إليه. وهل هذا القتل نوع من قتل الرحمة، بمعنى أنه لم يقتلهم كرها لهم بل حبا لهم وخوفا من أن يتعرضوا للفقر وويلاته بعد أن خسر هو كل أمواله أو معظمها في البورصة.
وقد ورد في ثنايا الخبر أن هذا الأب كانت قد ظهرت عليه علامات الحزن في الشهور الثلاثة السابقة للجريمة، وكان معتزلا أسرته ويجلس أغلب الوقت في غرفته منفردا، وفشلت محاولات أسرته لإخراجه من عزلته، فهل يا ترى أصيب هذا الأب باكتئاب، وكان للجريمة علاقة بهذا الاكتئاب؟؟؟، حيث تكون لدى المكتئب ميولا انتحارية ولكنه قد يخشى على من يحبهم أن يشقوا من بعده فيقوم بقتلهم راحة لهم (كما يظن من منطقه الاكتئابي)... عموما هذه ليست تشخيصات أو احتمالات مؤكدة، ولكنها مجرد مفاتيح لفهم ما جرى ويؤيدها أو ينفيها تفاصيل التحقيقات المؤكدة وتقارير الطب الشرعي، وفي مثل هذه الحالات يجب عرض القاتل على لجنة طبية نفسية لتقييم حالته، إذ أنه ليس من السهل أن يقتل أب أبنائه وهو في حالة سوية، بمعنى أنه في أي جريمة يقتل أب أبنائه أو تقتل أم أبنائها لابد من الوقوف على الحالة النفسية وقت الجريمة، وهذا ليس مهربا طبيا للقاتل أو القاتلة ولكنه اقترابا من العدل في توقيع العقوبة أو تخفيفها بناءا على اعتبارات موضوعية.
وفي السعودية قتل أب مدمن كحوليات طفليه وهو تحت تأثير الشراب، وفي الأردن في ضاحية الرابية قام أب يحمل شهادة الصيدلة بقتل اثنين من أبنائه ثم انتحر.
حدوتة قبل الموت:
هل تخيل أحدنا تلك اللحظات التي يستيقظ فيها ابن أو بنت في عمر الطفولة أو المراهقة ليجد أبيه بجوار سريره وبيده سكين يحاول أن يذبحه بها أو بلطة يهشم بها رأسه أو طبنجة يصوبها نحوه ليقتله، وماذا يدور في رأس الابن أو البنت في تلك اللحظات، وكيف انقلبت الدنيا فجأة وبدلا من أن يأتي الأب ليقبل ابنه أو ابنته في السرير ويربت عليهما ويطمئنهما حتى يناما في هدوء وسلام، وبدلا من أن يوقظهما ليفاجئهما بهدية كانا يتوقا إليها أو برحلة طالما ألحا عليها، أو بأحضان بعد غياب عنهما في سفر طويل أو قصير، أو حضر ليطمئن على أن الغطاء لم ينكشف عنهما في البرد، كل هذا يتبدل ويأتي الأب هذه المرة وبداخله كل هذه القسوة يفجرها في جسد صغير عاش سنوات قبل ذلك يرعاه (أو كان يجب أن يرعاه) ويخشى عليه من أقل ضرر يصيبه (أو كان يجب أن يخشى عليه)، وهو الآن يمزق هذا الجسد بوحشية هائلة، ويلقي في هذا القلب الصغير شحنة هائلة من الخوف والرعب، وهو الذي تعود أن يحميه من أي شيء يخيفه أو يفزعه حتى ولو كان شيئا تخيليا.
إعلان: "لا تقتلوا أبناءكم وبناتكم":
إذن ما الذي يجعل أبا يفعل ذلك ويقتل أبناءه بوحشية؟ ولماذا تكرر قتل الأبناء في المجتمع المصري بوجه خاص في الآونة الأخيرة؟.. أب يقتل بناته الخمس وتنجو منه السادسة بأعجوبة بسبب خلاف مع زوجته... أب يأخذ طفله من أمه ويقفز به من الشرفة إثر خلاف عائلي... أب يضع ابنه وابنته في ماسورة مياه حتى لفظا أنفاسهما... أب يقتل ابنته ويقتل أمها وعدد من أفراد أسرتها بسبب خلافات زوجية.. أم تقتل طفلها بعد ولادته بعشرة أيام... وتتوالى حوادث قتل الأبناء والبنات على أيدي الآباء.. ولا تخلوا صفحات الحوادث من أخبار قتل الأمهات للأبناء والبنات وإن كانت بنسبة أقل.
وتأتي الإحصاءات لتقول بأن 60% من أحداث العنف في المجتمع المصري في السنة الأخيرة كانت عائلية بمعنى أن القاتل والمقتول من نفس الأسرة، ويكاد الأمر يصل إلى ضرورة وضع لافتات في الشوارع مكتوب عليها "لا تقتلوا أبناءكم وبناتكم" وأن يتكرر نفس الإعلان في الإذاعة والتليفزيون، وأن نحتاج دورات إرشادية لتعليم الآباء والأمهات كيف يتجنبوا قتل أبنائهم ودورات أخرى لتعليم الأبناء كيفية تفادي محاولات القتل من الأب أو الأم.
الحالات التي يقتل فيها الآباء أبناءهم:
هي دائما حالات غير سوية بالمعنى النفسي والمعنى الاجتماعي والإنساني لأن الإنسان مفطور على رعاية أبنائه والمحافظة عليهم بل وفدائهم بنفسه أمام أي خطر يتعرضون له، ولذا حين يتبدل الحال ويصبح هو سبب هلاكهم نعلم أننا أمام وضع غير سوي. ويمكن أن نوجز الأسباب فيما يلي:
1 – قتل العار: ويدفع إليه الشك في نسبهم، وهذا من ناحية الأب، وقد يكون هذا الشك مرضيا كأن يكون الأب مصابا بمرض نفسي كالفصام أو الاضطراب الضلالي، أو يتعاطى المخدرات (وخاصة الحشيش أو البانجو)، أو يكون الشك قائما على أحداث أو قرائن تجمعت لديه من الواقع وربما تكون هذه القرائن قد تم تفسيرها بشكل خاطئ أو متحيز خاصة إذا كانت شخصية الزوج من النوع البارانوي (الشكّاك، سيء الظن، المستبد، المتعالي، المحتقر للناس، والذي يعتبرهم دائما أشرار خونة متآمرين).
2 – قتل الرحمة: ويحدث حين يصاب الأب (أو الأم) باكتئاب شديد، ويكون الاكتئاب مصحوبا بضلالات (معتقدات وهمية خاطئة وراسخة في نفس الوقت ولا تتعدل بالإقناع أو المناقشة) مفادها أن الحياة التي نحياها بائسة وقاتمة، وأنه من الأجدى والأفضل أن نموت ونغادرها حتى لا نتعرض لمزيد من المعاناة مثل الفقر والمرض والحزن والألم. وهنا يقتل الأب (أو الأم) أولاده ثم ينتحر، وقد ينجح (أو تنجح) في الانتحار أو تكون الطاقة العدوانية قد أفرغت في قتل الأبناء فيبقى على قيد الحياة ليتعذب بمشاعر الذنب إلى أن يموت.
وأغلب الحالات التي قتلت أبناءها كان يدفعها الخوف على الأبناء من الفقر، وكان يحدث ذلك بعد أزمة مالية شديدة تسببت في اكتئاب شديد لم ينتبه إليه المحيطين بالمريض. وعلامات الاكتئاب السابقة لقتل الرحمة تكون في صورة: حزن شديد أغلب الوقت أو طول الوقت، فقد الاهتمام بالأشياء التي اعتاد الشخص أن يهتم بها، فقد القدرة على الإحساس أو الاستمتاع بأي شيء، اضطراب الشهية للطعام بالزيادة أو النقصان، اضطراب النوم بالزيادة أو النقصان، أفكار عدمية والإحساس باللاجدوى واللاقيمة والإحساس بالدونية ومشاعر الذنب، التفكير الدائم في الموت، الرغبة في الانتحار، الانطواء وعدم القدرة على العمل، الإحساس بفقد الأمل وقلة الحيلة. وقبل أن يقدم المكتئب على الانتحار أو قتل أبنائه يكون شاردا وأحيانا يهمهم همهمات غير مفهومة، ويكون مشوش الوعي، وإذا تحدث فإن حديثه يغلب عليه نبرة اليأس الشديد وأنه لا فائدة من أي شيء.
والأب هنا قد يقتل أبناءه بطريقة بشعة –كما فعل المهندس الذي قتل أبناءه بالبلطة وهم نيام- والسب في ذلك هو حرصه الشديد على أن يكون القتل مؤكدا حتى لا يتعذبوا بإصابات تصيبهم دون أن تقتلهم.
3 – قتل إزاحة العدوان: وفيه يكون العدوان موجها نحو شخص آخر (الزوجة غالبا) فيقوم الأب بقتل الأبناء انتقاما من الزوجة التي أهانته أو عذبته أو خانته (حقيقة أو توهما) ، ولسان حاله يقول: "سأحرق قلبك على أولادك"، وكأنهم أولادها فقط وليسوا أولاده. وقد يتعرض الأب للقهر والإهانة والظلم من المجتمع الخارجي، وهو لا يستطيع أن يواجه الذين قهروه وأذلوه وانتهكوا كرامته، لذلك يتوجه بعدوانه نحو الحلقة الأضعف في حياته وهم أفراد أسرته فيزيح غضبه نحوهم ويفجره فيهم.
4 – قتل ضعف الانتماء للأسرة: كأن يكون الأب مسافرا لفترات طويلة، أو يكون مقيما لكنه دائم التغيب عن المنزل، وعلاقته بأبنائه ضعيفة للغاية وربما تكون مضطربة بسبب إهماله لهم، وفي نفس الوقت يحدث استقطاب شديد للأبناء تجاه أمهم التي تهتم بهم، وبقدر ما يقتربون منها ويحبونها بقدر ما يبتعدون عن الأب ويكرهونه، وهنا يشعر الأب وكأنه في مواجهة معسكر عدائي قوامه زوجته وأبنائها (هو دائما يكرر عبارة: انت وولادك). والأب هنا لا يقتل بصفته أبا كاملا منتميا إلى أسرته، وإنما هو مجرد أب بيولوجي وليس له علاقة وجدانية من أي نوع بأبنائه، والعداء بينه وبينهم مثل العداء بينه وبين أي أشخاص آخرين لا يعرفهم ولا يشعر ناحيتهم بأي مودة، هو باختصار أب بالنسب والاسم فقط.
5 – قتل الغيرة: حين يشعر الأب أن زوجته تفضل أحد أبنائها من الذكور عليه، وأنها استبعدت الأب واستغنت عنه بالابن. ويلزم أن تكون شخصية الأب غير ناضجة بحيث يضع نفسه في منافسة بينه وبين ابنه الذي حل محله في قلب الأم فتثور في نفسه مشاعر غيرة تدفعه لقتل غريمه الذي هو ابنه.
6 – قتل الفقر: وفيه نوعان: الأول هو أن يكون ثمة فقر موجود فعلا تعاني منه الأسرة ويصل إلى درجة يعاني فيها الجميع من الجوع ونقص شديد في بقية الاحتياجات الأساسية، والثاني هو الخوف (الحقيقي أو المتوهم) من حدوث فقر في المستقبل القريب، وفي كلتا الحالتين يفضل أحد الأبوين أن يقتل أبنائه حتى لا يتعرضوا لويلات الجوع ومذلة الاحتياج. والنوع الأول ورد فيه قول الله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً" (الإسراء:31)، والنوع الثاني ورد فيه قول الله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ ...." (الأنعام:151)، وفي كل الحالات تأتي الطمأنة من الله بضمان الرزق فيقول مرة: "نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم" ومرة أخرى: "نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم".
7 – قتل الرضيع: وهو أن تقتل الأم رضيعها في السنة الأولى بعد ولادته، وذلك بسبب مرض نفسي يسمى "ذهان ما بعد الولادة" (Post partum psychosis) وهي حالة تحدث في 1-2 من كل ألف ولادة وتقوم الأم المصابة بهذه الحالة بقتل وليدها في 4% من الحالات، وهي تفعل ذلك استجابة لهلاوس تسمعها "اقتلي هذا الطفل" .. "هو ليس طفل بل شيطان" ... "إن شكله قبيح" ... "سيعاني كثيرا في هذه الحياة الكئيبة.. والأفضل له أن يستريح بالموت". وأعراض حالة ذهان ما بعد الولادة تتلخص في اضطراب شديد في الحالة المزاجية مصحوب بضلالات وأحيانا هلاوس سمعية أو بصرية، مع استغراب للمولود ورفض له أو إهمال شديد لاحتياجاته، وقد تعبر صراحة أنها لا تطيقه بجوارها، مع حالة من الشرود والسرحان، والتشوش والارتباك واضطراب النوم والصراخ بلا سبب واضح.
8 – قتل تحت تأثير المسكرات والمخدرات: فهذه المواد تؤثر على حالة الوعي وتشوه الإدراك، كما أنها تضعف مراكز التحكم في المخ فيصبح الشخص في حالة اضطراب في رؤيته وإدراكه وحكمه على الأمور، وتصبح نزعاته العدوانية في حالة انفلات، ولهذا يقتل لأتفه الأسباب، وربما يقتل أقرب الناس إليه، وقد يندم بعد الإفاقة من المسكر أو المخدر، وقد يحاول أن يقتل حالة الندم هذه بالإغراق في مزيد من الشراب أو بالانتحار.
9 – القتل بسبب الفصام (Schizophrenia): وهو مرض نفسي يؤثر في التفكير والمشاعر والسلوك، وقد تصاحبه ضلالات اضطهاد أو ضلالات عظمة أو هلاوس سمعية تأمره بأشياء غريبة، وقد يكون من ضمنها قتل أبنائه لكي يصبح نبيا، أو لكي يفدي بدمائهم الإنسانية أو ليكفر بهم عن أخطاء الناس، أو لأنهم مدسوسين عليه بواسطة قوى شريرة.
11 – القتل كجزء من الانتحار: حين ينوي الأب (أو الأم) أن ينتحر فإنه قد يفكر في قتل أبنائه قبل انتحاره حتى لا يتعرضوا من بعده لمشاكل الحياة، ومن الناحية الدينامية فإن الشخص هنا يعتبر أبناءه امتداد لذاته فهو يقتلهم حتى يكون تدمير الذات كاملا ولا يبقى منها شيئا على قيد الحياة.
12 – قتل إزالة الارتباط: حين تعيش زوجة مع زوج يقهرها ويستبد بها ويسئ معاملتها، وهي تريد الطلاق ولكنها تشفق عل مصير ابنتها منه، فهي في لحظة ضعف أو غضب أو يأس قد تقتل ابنتها التي تربطها به لكي تتحرر من هذه العلاقة. وقد يفعل الزوج نفس الفعل إذا أحس أن زوجته تستخدم الأولاد كأداة للضغط عليه أو لي ذراعه أو تأديبه أو إخضاعه لشروطه أثناء أو بعد الطلاق.
الإنقاذ المبكر:
بقدر ما يكون قتل أب لأبنائه أو قتل أم لأبنائها جارح ومزلزل لمشاعر البشر جميعا بقدر ما نحتاج لإجراءات واحتياطات حتى لا يحدث هذا الأمر، ومنها ما يلي:
1 – الانتباه إلى الفئات الهشة في المجتمع والتي تعاني ظروفا استثنائية من الناحية النفسية أو المادية أو الاجتماعية، فلا نغمض أعيننا عن أسرة تعيش مأساة مرض نفسي للأب أو الأم، أو تعيش فقرا مدقعا أو تعيش مشكلة أسرية مزمنة وتستغيث ولا مغيث، حتى تصل إلى نقطة الذروة بعد سنوات من العذاب.
ولا يجب أن ننتظر كثيرا ونحن نرى أسرة تمر بأزمة مادية، أو زوجين بينهما مشاكل متفاقمة، أو مجموعات اجتماعية تعيش تحت خط الفقر وتفتقد للمقومات الحياتية والمهارات الاجتماعية.
وإنه لجرم كبير في حقنا جميعا حكاما ومحكومين أن نرى مسلسل قتل الأبناء في مجتمعنا يتصاعد بهذه الوتيرة العالية ثم نكتفي بالشعور بالألم السلبي أو حتى البكاء تحسرا على أطفال أو شباب في عمر الزهور لفظوا أنفاسهم على يد من كان يتوقع منهم أعلى درجات الحب والحنان والرعاية ثم لا نفعل شيئا إلا انتظار حادث آخر أكثر ترويعا. بل إن المجتمعات الحية والنفوس السوية تهم فورا بمراجعة كل منظوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية حين تواجه بمثل هذه الظواهر المروعة.
2 – الانتباه إلى حالة "الأمية النفسية" التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، حيث الجهل الشديد بالنواحي النفسية والاضطرابات النفسية، والإهمال الشديد والمعيب للمشاعر والانفعالات. ويلاحظ أن هذه المشكلة لا تتوقف عند عوام الناس بل تصل إلى المثقفين وأصحاب الشهادات العالية حيث يقللون من أهمية المشاعر ويعزون الاضطرابات النفسية للجن والسحر، ويذهبون بأصحابها للدجالين والمشعوذين.
أما فئة الأطباء والصيادلة وهم أكثر فئة تتعامل مع المرضى النفسيين فإن نسبة كبيرة منهم يكونون من أكثر الناس تورطا في إبعاد المرضى النفسيين عن العلاج الصحيح حيث ما زالوا يعتقدون (وينقلون اعتقادهم هذا إلى المرضى) أن المرض النفسي غير قابل للشفاء، وأن الأدوية النفسية ما هي إلا منومات ومخدرات.
وهذه المعتقدات الخاطئة تصدر عن أناس لم يتعلموا أثناء دراستهم شيئا عن الأمراض النفسية حيث ننفرد نحن المصريون ومعنا عدد من الدول العربية بإهمال تدريس مادة الطب النفسي لطلاب الطب فيتخرجوا وهم لا يعلمون كثيرا عن هذا التخصص وتكون معلوماتهم عنه أقرب لمعلومات رجل الشارع، ومع ذلك فالناس يأخذون كلامهم بثقة على أنهم أطباء، والصيادلة كذلك باستثناء قلة منهم.
وهذا يسبب تأخير علاج وشفاء حالات نفسية كثيرة وقد تصل تلك الحالات في خطورتها إلى إيذاء نفسها أو إيذاء غيرها. وهناك حالة لا أنساها كانت مصابة باكتئاب جسيم وقد منعها أخوها وهو طبيب كبير من أن تذهب لطبيب نفسي وتفاقم المرض لعدة سنوات وكادت تحدث كارثة لولا أن الله لطف بهذه المريضة وبأسرتها، وبعد علاجها في اللحظات الأخيرة وتماثلها للشفاء أيقنت المريضة بحجم الجرم الذي اقترفه تجاهها أخوها الطبيب الكبير الذي لا يعرف عن الطب النفسي أو العلاج النفسي إلا شائعات سمعها من العوام، ولم يعرف شيئا عن التقدم الهائل في هذا الفرع من فروع الطب وعن إمكانات الشفاء العالية فيه؛
وعن طبيعة الأدوية النفسية، وأنها ليست مخدرات أو منومات كما يعتقد بل علاجات حقيقية، وأن الأجيال الحديثة من هذه الأدوية ليس لها أي تأثير مهدئ أو منوم بل يتعاطاها المريض في النهار ويذهب لعمله ويقود سيارته، وأن الأمراض النفسية هي نتاج لاضطرابات تركيبية وكيميائية في المخ تحتاج لعلاجات دوائية كما أنها نتاج لتفاعلات مضطربة مع البيئة تحتاج لعلاجات نفسية وسلوكية.
3 – الهندسة الاجتماعية: وهي تعني إعادة توزيع وتنظيم المجتمع بحيث نزيل الازدحامات والاختناقات السكانية والمرورية، وإعادة رسم خرائط سكانية وعمرانية جديدة تجعل الحياة أكثر يسرا وراحة، فلا يختنق الناس لدرجة تجعلهم يقتلون أحب الناس إليهم.
4 – الإصلاحات السياسية والاقتصادية: والتي تعطي الشعور بالعدل، وبقيمة المواطن في بلده، وتعطي فرصا للتعبير وللتغيير المتواصل، وتعطي أملا في النمو وتحقيق الأحلام والطموحات الشخصية والعامة. فليس أخطر من منظومات سياسية أو اقتصادية جامدة وراكدة تخنق حركة الناس وطموحاتهم وتقتل الأمل في التغيير لديهم وتجعلهم يشعرون بالظلم والمهانة والقهر طول الوقت.
5 – العمل على استعادة الوئام العائلي والذي ضعف تحت تأثير الأوضاع السياسية المضطربة والأحوال الاقتصادية المتردية، وانشغالات الآباء بالأعمال المضنية لتحقيق اكتفاء الأسرة، أو سفرهم لفترات طويلة، أو انعزال كل فرد في الأسرة بعيدا عن الآخر بسبب الانكفاء على شاشة كومبيوتر أو الانشغال بشاشة تليفزيون، أو الانتماء للأصدقاء أكثر من الأسرة.
6 – احترام قيمة الإنسان كأعظم مخلوق خلقه الله وكرمه وأسجد له الملائكة وحمله الأمانة وجعله مسئولا ومختارا، هذه القيمة التي تردت وأهدرت في المجتمعات العربية في ظروف جعلت من الإنسان مجرد شيء بلا قيمة وبلا اختيار وبلا تقدير، فهو لا يساهم في اختيار حكامه، ولا يشارك في رسم خطوط مستقبله أو مستقبل أبنائه، ولا يستشار في أمور وطنه المصيرية، ولا تحترم آدميته في الشارع أو في أماكن العمل أو في أقسام الشرطة أو في معسكرات الاعتقال.
ودائما تصل رسالة إلى الجميع أن قيمة الإنسان مهدرة وهنا يظهر في مواقف العنف استهانة بحياة الإنسان فنجد الميل للقتل لأتفه الأسباب وكأن القاتل يذبح دجاجة أو خروفا، أو يقتل بعوضة حطت على جلده فلدغته أو لم تلدغه.
7 – استعادة القيم الدينية التي تعلي من قيمة الإنسان وكرامته، كمثل قوله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ...." (الإسراء 33)، وأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرمة النفس، وأن زوال الدنيا أهون على الله من قتل النفس بغير حق، وأن حرمة النفس تزيد على حرمة الكعبة المشرفة. وأيضا استعادة معاني ضمان الرزق للنفس وللأولاد، فلا يقتل أب أبناءه بسبب فقر حادث (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام 151) أو فقر متوقع "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً" (الإسراء:31).
واقرأ أيضا:
انتبه من فضلك: الجرّار يرجع إلى الخلف / بيّاع مصر يصيبنا بالنكد على بحيرة جنيف / خلل في الأنا الأعلى للصحافة والحياة المصرية / صندوق الانتخابات يضبط إيقاع الحياة في تركيا1