لم أكن متحمساً لقبول دعوة حضور المؤتمر نظراً لتوقيته في العشر الأواخر من رمضان، وهي أيام أفضّل أن أقضيها في هدوء بين قليل من العمل وما تيسر من التأمل والصلاة وقراءة القرآن، ولكن أغراني أنه المؤتمر الثاني والعشرين للكلية الأوروبية للفارماكولوجيا النفسية والعصبية ECNP وهو مؤتمر يحظى بمصداقية علمية عالية حيث يجمع علماء أوروبا في هذا التخصص بالإضافة إلى علماء آخرين من كافة أنحاء العالم، كما أن انعقاد المؤتمر في اسطنبول بتركيا كان إغراءً آخر، أو قل طمأنة بأنني سأقضي أواخر رمضان في بلد إسلامي، وأرى شكلاً آخر لرمضان لم أعهده من قبل.
من القسطنطينية إلى الآستانة فاسطنبول وبالعكس:
على الرغم من أنني زرت تركيا قبل ذلك لحضور مؤتمرات علمية إلا أنها كانت المرة الأولى التي أزور فيها اسطنبول (يقال أنها كلمة إسلامية أصلها إسلامبول، ويقال أنها كلمة يونانية معناها في المدينة)، وحين وطأت قدماي أرضها لم أقاوم مشاعر متداخلة حول هذه المدينة أكثرها قادمة من طبقات تاريخية قديمة ومتوسطة القدم فهذه هي القسطنطينية التي بشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفتحها قبل رومية، وهي التي أثنى على فاتحها، وتلاحقت في عقلي محاولات الفتح المتكررة والصعوبات التي واجهتها الجيوش الإسلامية لكي تفتح هذه المدينة شديدة التحصين حيث كانت مركزاً حضارياً إبان الدولة البيزنطية ثم الدولة الرومانية، وتذكرت حين مررت بسور المدينة محاولات اقتحام هذا السور من البحر وكيف حالت السلاسل دون ذلك، ثم محاولات نقل السفن فوق مرتفع جبلي لتدشن في جانب آخر ليست فيه سلاسل، وتذكرت مطلب أبي أيوب الأنصاري بأن يدفن في آخر نقطة يستطيع الجيش الإسلامي أن يصلها حول المدينة.
وتذكرت شخصية محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وعمره 21 سنة، وقد كان في طفولته كثير الحركة مما صعب مهمة سيطرة المربين والمعلمين عليه فضلاً عن أسرته، إلى أن يسّر الله له معلماً موهوباً استطاع أن يهذب سلوكه وينظم حركته الزائدة ويوجهها في النواحي الإيجابية، وتذكرت كيف كانت أمه السيدة العظيمة تبني له في فناء البيت نموذجاً لمدينة القسطنطينية وتزرع في نفسه الرغبة والأمل في فتحها، وقد تحقق هذا فعلاً بتوفيق من الله لهذا الفتى القائد الموهوب ثم بجهد مخلص من مربيه، ولقد نشأت مشكلة دستورية آنذاك بعد الفتح سببها السن الصغير للقائد الفاتح، إذ كيف يحكم هذه المدينة العريقة وهو في هذا السن!.
وكنت أصحو من كل هذه الذكريات التاريخية لأعيش أجواء المدينة المعاصرة اسطنبول وأرى آثار العلمانية الأتاتوركية تحاول طمس معالم القسطنطينية والآستانة والباب العالي، وكيف يحاول الأتاتوركيون الجدد التبرؤ من كل المراحل التاريخية السابقة للحاق بالركب الأوروبي، وكيف أن أوروبا تضع معايير معينة لكي تقبل تركيا في منظومة الإتحاد الأوروبي وكيف أن تركيا تتنازل عن كبريائها وعن شموخها وتعمل "عجين الفلاحة" و "نوم العازب" أمام المقرر الأوروبي حتى تعجبه فيقبل انضمامها لأوروبا، وهي التي كانت في يوم من الأيام عالية القامة والقيمة وصاحبة الباب العالي الذي تتوق أوروبا إلى رضاه، وهكذا الأيام دول، والبشر يضعون أنفسهم حيث يستحقون أو يرغبون أو يجتهدون.
ويصحو في داخلي تاريخ الآستانة إبان الخلافة العثمانية بينما نمر على مسجد السلطان أحمد، وعلى المسجد السليماني (الذي أنشئ في عهد سليمان القانوني الذي كان على وشك استكمال الفتح الإسلامي ليشمل كل أوروبا ومعظم آسيا لولا الخيانات والنزاعات الداخلية في العالم الإسلامي)، وأتذكر المهندس العبقري "سنان" الذي شيّد الكثير من التحف المعمارية في اسطنبول وغيرها.
وتختلط الصور والمراحل التاريخية بين لحظة وأخرى وتتبادل الظهور على شاشة وعيي بينما تمر بنا السيارة مخترقة الجزء الأوروبي من المدينة متجهة إلى الجزء الأسيوي، وهي تجربة فريدة لا تعيشها إلا في مدينة اسطنبول فهي المدينة الوحيدة في العالم التي تنتمي إلى قارتين من الناحية الجغرافية، أما من الناحية التاريخية فهي تنتمي إلى ثلاث حضارات كانت فيها مركزاً مؤثراً: وهي الحضارة البيزنطية والحضارة الرومانية ثم الحضارة الإسلامية، وفي الأخيرة شكلت مركزاً للحضارة لمدة تقرب من خمسمائة سنة (منذ فتحها محمد الفاتح في 1453م وحتى إلغاء الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1922 م).
حفل الافتتاح والتنكر التاريخي:
كان حفل افتتاح المؤتمر يوم السبت في الثاني عشر من سبتمبر 2009 م وقد حدث فيه مزج بين التقديم العلمي بواسطة رئيس المؤتمر وبين رقصات لفريق تركي متميز يضم حشد كبير من الفتيان والفتيات قدموا عروضاً رمزية متنوعة كان أولها صادماً لي ولكثير ممن حضروا المؤتمر من العالم الإسلامي؛ فقد بدأ العرض بدخول عدد كبير من الفتيان يلبسون ثياباً بيض وقد ناموا جميعاً على أرض المسرح، ثم دخل عدد من الفتيات يساوي عدد الفتيان النائمين، وكل فتاة تحاول أن توقظ فتاها بحركات رمزية راقصة أشبه بفن الباليه ولكنه لا يستيقظ، وكانت هناك خلفية مصاحبة لهذا المشهد ظهرت على الشاشة العملاقة للمسرح تمثل جزءاً من مسجد مكتوب على أركانه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، ويستمر هذا المشهد الذي يوحي بالموت أو بالمرض لهؤلاء الشباب في تلك الفترة الإسلامية، ثم يتغير المشهد على الشاشة العملاقة فتأتي صورة كنيسة وصليب تتصدر الصورة وفي الخلفية صورة باهتة للمسجد والهلال، وهنا يستجيب الشباب النائم لمحاولات الإيقاظ فيهموا ويستيقظوا ويواصلوا الرقص مع الفتيات بقوة وحيوية، ولك أيها القارئ أن تسترسل في معاني ومدلولات هذا العرض كما تشاء، ولكن ما وصلني منه هو أن مؤلف هذا العرض ومصممه يريد أن يربط بين الفترة الإسلامية وبين موات أو مرض الأتراك، ثم ربط بعد ذلك بين نهضتها وعلمانيتها أو قل نصرانيتها (على اعتبار ظهور الكنيسة بوضوح في المقدمة وتراجع المسجد في المؤخرة مع خفوت ألوانه).
وعلى الرغم من أن تركيا في الحقيقة لم تتحول إلى النصرانية ولكنها تحولت بقرار فردي من أتاتورك إلى العلمانية إلا أن ثمة نبرة لدى العلمانيين المتشددين تحاول أن تستجدي الرضى الأوروبي بإظهار اللون المسيحي والصبغة المسيحية، وقد تأكد لي ذلك حين كنت أتجول في شوارع المدينة في الحافلة المخصصة للجولة المفتوحة وأستمع إلى وصف المرشدة لمعالم المدينة حيث ذكرت أن بالمدينة عدد كبير من الكنائس التاريخية والحديثة ولم تذكر أن بها عدد أكبر من المساجد، رغم أن القباب والمآذن تشكل أهم معالم المدينة، ولكنه التنكر العلماني المتطرف للمعالم التاريخية، وللحقبة الإسلامية لدرجة أنهم يتعمدون عدم تسميتها بالحقبة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية ولكنهم بدلاً من ذلك يطلقون عليها لفظ العثمانية، ويمرون عليها بسرعة وعلى استحياء وكأنها سبة في تاريخهم، وقد كان هذا واضحاً أكثر وهم يستعرضون تاريخ الطب في تركيا حيث لم يشيروا بكلمة واحدة إلى الحقبة الإسلامية رغم أنها تشكل 500 سنة مجيدة في تاريخهم!. وقد يسأل سائل: كيف يحدث هذا في وقت تحكم فيه حكومة حزب العدالة والتنمية وهو حزب ذو مرجعية إسلامية، وفيما يلي سنحاول فهم هذا التناقض.
النظام السياسي وصراع الهويات:
تتمتع الجمهورية التركية بنظام سياسي شبيه بالأنظمة الديمقراطية الغربية، التي تنقسم عامة إلى جهاز تشريعي، وتنفيذي، وقضائي. ولقد تبنت البلاد الحياة الديمقراطية بعد تطبيق دستور عام 1982 وبعد سنوات من الحكم العسكري. يشكل المجلس القومي التركي أو البرلمان الجهاز التشريعي، ويتكون المجلس من 550 نائباً، يتم انتخابهم كل خمس سنوات مباشرة من الشعب. أعلى سلطة سياسية في البلاد هي سلطة رئيس الدولة، الذي يتم انتخابه كل سبع سنوات من قبل البرلمان، ولا يسمح بإعادة انتخاب الرئيس حسب الدستور. يوكل رئيس الدولة رئيس الحزب المنتصر بالانتخابات النيابية مهمة تشكيل الحكومة، لكي يصبح بدوره رئيساً للحكومة، بعدها يقوم رئيس الدولة بالموافقة أو رفض أعضاء الحكومة. والمحكمة الدستورية هي أعلى محكمة تركية وتقوم بفحص مدى مطابقة القوانين المشرعة من البرلمان مع بنود الدستور.
وتتنازع تركيا حالياً صراعات شتى (دولة تتكون من أعراق كثيرة: أتراك وأكراد وعرب وغيرهم)، فعلى السطح توجد قشرة علمانية صلبة تستند إلى الحقبة الأتاتوركية وتتعلق بالدستور العلماني الذي وضعه أتاتورك وأضفى عليه قداسة يحرسها الجيش، بينما توجد في أعماق الناس جذور إسلامية نمت وتغلغلت على مدى قرون طويلة، وعلى الرغم من تمكن العلمانية من الوثوب إلى مراكز السلطة والتحكم في ظرف تاريخي بعينه وبواسطة شخصية كاريزمية مثل كمال أتاتورك (ساعدت أوروبا على تضخيم زعامته وكاريزميته بانتصارات مصنوعة لتبهر به أبناء قومه ولتمكنه بعد ذلك من إنهاء الخلافة وزرع بذور العلمانية في مركز الخلافة)، إلا أن عموم الناس خاصة الطبقة المتوسطة والمناطق الريفية ما زالو مرتبطين بجذورهم الإسلامية ( 99.8 % من سكان تركيا مسلمين طبقاً لتعداد 2008 م) ولكن بشكل هادئ لا يكاد يبدو على السطح بسبب السطوة العلمانية والتي تستبعد –بحكم الدستور- أي ظهور ديني جماعي، والدليل على وجود هذا العمق الديني هو هذا العدد الهائل من الأتراك تراهم في مواسم الحج والعمرة ربما أكثر من جنسيات أخرى كثيرة، وأيضاً صعود أحزاب ذات مرجعية إسلامية إلى الحكم أكثر من مرة رغم محاولات إعاقتها، وهي على الترتيب والتوالي: حزب الرفاه، ثم حزب الفضيلة، ثم حزب العدالة والتنمية، والأخير هو الذي يدير الحياة في تركيا في الوقت الحالي، وينتمي إليه رئيس الجمهورية عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوجان.
وقد حاولت الجبهة العلمانية (المتمثلة في مجموعة من النخبة بالإضافة لقادة الجيش) أن تعوق وصول الأحزاب الإسلامية وذلك من خلال استخدام مواد الدستور العلماني الأتاتوركي، ولكن صندوق الانتخابات كان يحسم النتيجة في أكثر من مرة لصالح الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية.
وفي تركيا ميزة كبيرة لا توجد في أي بلد إسلامي آخر وهي أنهم لا يزوّرون الانتخابات، وأنا أذكر أني قرأت حواراً للمرحوم الأستاذ عادل حسين في جريدة الشعب أجراه مع نجم الدين أربكان وكان رئيسا للوزراء بعد فوز حزب الرفاه في الانتخابات حيث سأله الأستاذ عادل: إذا كان العلمانيون والجيش لا يرغبون في مجيئكم إلى الحكم فلماذا لم يقوموا بتزوير الانتخابات؟ ووقتها تعجب أربكان من السؤال إذ يبدو أنه في الثقافة التركية لا توجد هذه الحلول التلفيقية في السياسة كما هو الحال في بلادنا العربية.
وهنا لا بد من الإشادة بحيادية جهاز الأمن والجهات السيادية الأخرى التي تدير العملية الانتخابية فهم لا يتورطون أبداً في تزوير الانتخابات أو في منع المرشحين من الوصول إلى اللجان ولا في اللعب في الكشوف الانتخابية ولا في الضغط على المرشحين بالقبض عليهم أو على ذويهم ولا يحاربونهم في وظائفهم، بل إن الجهاز الأمني –كما علمت– يلتزم الحرفية المهنية والحياد الكامل في العملية الانتخابية ويعتبر نفسه ملكاً وخادماً للشعب وليس ملكاً أو خادماً لحزب أو لحاكم مهما كان شأنه، ومن هنا يكتسب الجهاز الأمني وقياداته وأفراده احتراماً شديداً من كل الأحزاب والطوائف والتوجهات.
ولا يجرؤ أحد على التلاعب بالدستور لأغراض شخصية أو حزبية، فهم يعتبرونه ضمان استقرار المجتمع وثباته وتماسكه، وعلى الرغم من مرور سنين طويلة عليه وتغير الأحوال إلا أنهم ينظرون إليه بقداسة، وهذا قد يكون ميزة وعيباً فهو ميزة حين يمنع من تسول له نفسه ومصالحه لتغيير مواد الدستور وتفصيلها على مقاسه أو مقاس أبنائه، وعيب حين لا يواكب التغيرات الحادثة في المجتمع وفي العالم.
وقد نجح صندوق الانتخابات في ضبط إيقاع الحياة التركية بعيداً عن الصراعات المذهبية والعرقية والطائفية؛ إذ ليس هناك شك في وجود قشرة علمانية صلبة (وأقولها قشرة لأنها فعلاً كذلك، وأقولها صلبة لأنها ما زالت صلبة، ولكن كونها قشرة يضع احتمالاً لكسرها في أي وقت)، وليس هناك شك أيضاً في وجود عمق ديني قوي في نفوس الناس نمى وترعرع على مدى قرون وليس من السهل محوه، وهو يعاود نموه مرة أخرى في شكل جديد يمثله مجموعة من الشباب والشيوخ جاءوا إلى الحكم من خلال انتخابات نظيفة، ورغم وصولهم إلى الحكم فقد احترموا دستور البلاد ولم يحاولوا العبث به ليوافق مرجعيتهم، بل وفقوا أوضاعهم بشكل واقعي (وربما براجماتي) مع هذا الدستور، ولولا هذا الحل الديموقراطي لربما دخلت تركيا في صراع رهيب بين الهويات والاتجاهات.
ذلك الصندوق الانتخابي النزيه الذي حرمت منه مصر ومعها غالبية –إن لم تكن- كل الدول العربية، واستغنت عنه أو استبدلته –حين اضطرت له– بصناديق مزيفة تأتي بشخصيات مزيفة يضعون قوانين ودساتير مزيفة، وهكذا يملأ الزيف جنبات الحياة العربية.
ويتبع>>>>>> : صندوق الانتخابات يضبط إيقاع الحياة في تركيا2
واقرأ أيضا:
خلل في الأنا الأعلى للصحافة والحياة المصرية / إعادة تأهيل وبناء الإنسان المصري1