نظرا لشدة زلزال"تسانومي" الأخير في جنوب شرق آسيا (قتل في لحظات قصيرة ما يزيد على160 ألف نسمة وشرد الملايين), فقد صاحبه زلزال آخر داخل نفوس البشر في كل أنحاء العالم فقد ثبت عمليا وبصورة مفزعة أن استقرار الأرض التي نحيا فوقها استقرار مؤقت أو خادع وبالتالي يصبح أمان الإنسان واستقراره على ظهرها مشكوك في دوامه, ومن هنا ثارت تساؤلات عديدة وملحة: لماذا......؟ وكيف.......؟ ومتى.....؟ وماذا نفعل إذن؟
خاصة وأنه لا توجد وسيلة علمية للتنبؤ بالزلازل ناهيك عن من يتوقع وقوعها.... ونشط الخطباء والوعاظ في دور العبادة يذكرون الناس بما نسوه ويحذرونهم ويرهبونهم مستشهدين في ذلك بمظاهر الفساد والعصيان والغفلة في الأماكن التي وقع فيها الزلزال واتى طالما حذروا منها فلم يستمع إليهم أحد ولم يصدقهم أحد..... في حين وقف الدنيويون على الجانب الآخر يؤكدون أن الزلزال ظاهرة طبيعية مقطوعة الصلة بسلوك الإنسان وأن الربط الديني هنا ربط تعسفي يفتقد للدليل العلمي الموضوعي.
فحين يحدث زلزال في أي مكان في العالم يصدر تقرير من مراكز الأرصاد يحدد شدة هذا الزلزال (على مقياس رختر) ومركزه ليطير هذا التقرير إلى وكالات الأنباء كي تبثه عبر وسائل الإعلام مضافا إليه تقرير آخر بالخسائر التي نجمت عنه, وليس مطلوبا من هذه الجهات أكثر من ذلك فهي جهات علمية محايدة (أو يفترض أن تكون كذلك) تهتم بالجانب الوصفي وليست معنية بما وراء ذلك.
وعلى الجانب الآخر– كم ذكرنا- ينشط الخطباء في المساجد والوعاظ في الكنائس والمعابد محذرين الناس من غضب الله الذي جاء في صورة زلزال والذي يستوجب الاستغفار والتوبة والرجوع عن طريق المعاصي والذنوب وإلا فسيزداد سخط الله وتتوالى الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية. أما فرق الإنقاذ والإغاثة فلا يشغلها هذا التصور أو ذاك وإنما تهرع لإغاثة المنكوبين بكل ما تملك من وسائل.
ويظل السؤال يلح: هل الزلزال مجرد ظاهرة طبيعية جيولوجية متصلة بحركة طبقات الأرض ومنقطعة الصلة عن سلوك البشر المقيمين على ظهرها.. أم أن أفعال البشر تستجلب هذه الظاهرة المدمرة؟
وإذا كان الاحتمال الأخير صحيحا فما هي الآلية التي يحدث بها ذلك وما الوسيلة لدفعه؟ ....
وإجابة السؤال (أو محاولة معرفة الإجابة) ليست ترفا خاصة أنه لا توجد وسيلة حتى الآن للتنبؤ بوقوع الزلزال رغم تقدم أجهزة الرصد وعلوم الجيولوجيا, وبالتالي فإذا كان لسلوك البشر دخلا في حدوثه فلربما يتوجه الاهتمام نحو تعديل هذا ا لسلوك تجنبا لحدوث الزلازل.
وتعديل السلوك هنا لن يتوقف عند تجنب المعاصي والذنوب وإنما يمتد لسلوكيات تبدو خارجة عن هذه الدائرة (ظاهريا) مثل التفجيرات النووية والعبث بجغرافية الأرض وجيولوجيتها بتغيير مجرى الأنهار وإقامة السدود وتشكل البحيرات الصناعية أو حفر الأنفاق أو قطع الجبال أو تلويث الغلاف الجوى بمخلفات الصناعة ومخلفات الحروب بما يؤدى إلى ظاهرة الاحتباس الحراري التي يحذر العلماء من آثارها على المدى الطويل.
وقبل الدخول في تفاصيل الإجابة عن هذا السؤال نحذر من خلل فكرى يصيب الإنسان على وجه العموم والإنسان العربي على وجه خاص وبدرجة تثير القلقهذا الخلل هو ما نسميه"التفكير الاستقطابي" أو "التفكير الاختزالي", حيث يميل العقل إلى طريقة" إما .... أو"( Either ...or ) وهذا النوع من التفكير يستبعد منطقية العوامل المتعددة والرؤى المتراكبة والمتداخلة وربما يميل العقل البدائي أو المستسهل أو غير الناضج إلى التفكير أحادى البعد حتى ولو كان هذا التفكير قاصر عن الإحاطة بظاهرة ما.
فنحن هنا في موضوع الزلزال نسمع إلى التساؤل الاستقطابي الاختزالي التالي: أهو ظاهرة طبيعية من اختصاص هيئة الأرصاد أم ظاهرة دينية من اختصاص أئمة المساجد ووعاظ الكنائس وكهنة المعابد؟ ... والإجابة الاستقطابية أو الاختزالية تنبع من رؤية أنبوبية وإدراك ضيق للأحداث ومعانيها والحكمة منها، فإذا سلمنا بأن الزلزال مجرد حدث أرضى جيولوجي منفصل عن السياق العام للكون ولحياة الإنسان وسلوكه فإننا هنا سنتورط في رؤى تجزيئية تجعلنا عاجزين عن الإدراك الكوني الشامل والمتكامل فضلا عن أن ذلك سيدعنا بعيدين عن إدراك مشيئة الله وإدارته لهذا الكون بكل ما فيه من قوى بناء أو هدم, وهذه الرؤية لن تكون مشكلة دينية أو روحية فحسب وإنما ستكون أيضا مشكلة نفسية إدراكية خطيرة.
وعلى الجانب الآخر إذا سلمنا بأن الزلزال مجرد انتقام إلهي أو ابتلاء إلهي, وأهملنا دراسة البعد الأرضي الجيولوجي وما يتصل به من عوامل فإننا نكون قد عطلنا جهدنا البشرى في فهم الظواهر وتحليلها تحليلا علميا ومحاولة الاستفادة منها أو تجنبها. ولكي نفهم هذه الإشكالية أكثر سنحاول نقلها إلى دائرة أقرب في حياتنا وهى دائرة المرض, حيث أننا إذا نظرنا إلى المرض من جانبه الغيبي فقط (الانتقامي أو الابتلائي) مع إهمال الجانب العضوي السببي فإننا كنا سنكتفي عبر مراحل التاريخ الإنساني بالرقى والتعاويذ دون البحث عن علاج لأي مرض.
وإذا نظرنا إلى المرض من جانبه العضوي فقط فإننا نستغرق طول الوقت في رحلة العلاج العضوي المادي ونفقد القدرات الشفائية للصلاة والدعاء وهى قدرات هائلة ليس فقط على المستوى الديني وإنما أيضا على مستوى جهاز المناعة الذي يتحسن كثيرا في أحضان الاعتقاد الديني الإيجابي.
*من هنا تبرز الحاجة إلى رؤى أكثر تعددية وعلى مستويات متعددة, رؤى لها صفة الإدراك الكوني والنضج المعرفي المتصاعد.
ونقصد بالإدراك الكوني: إدراك الزمان بكل أبعاده (إدراك اللحظة الحاضرة بكل تفاصيلها مع إدراك الزمن الماضي الممتد إلى التاريخ السحيق وإدراك الزمن المستقبل بما يحويه من حياتنا الدنيا ثم حياة البرزخ ثم البعث ثم القيامة وما يليها من نعيم أو عذاب), وإدراك المكان بكل أبعاده (الغرفة التي أجلس فيها والبلد الذي أعيش فيه والأرض التي أعيش فوقها ثم المجموعة الشمسية التي تضم كوكبي ثم المجرة التي أنتمي إليها ثم بقية المجرات ثم السماء الدنيا ثم بقية السماوات ثم العرش ثم الكرسي, وكل ما تضمه هذه الكينونات من مخلوقات أراها أو لا أراها).
أما النضج المعرفي فهو يعنى الانتقال من مرحلة جمع البيانات إلى مرحلة تكوين المعلومات إلى مرحلة بناء المنظومة المعرفية وأخيرا إلى مرحلة الحكمة التي ترى الأشياء بمنظور كوني واسع وتعطى الأشياء المدركة من المستويات السابقة (البيانات ثم المعلومات ثم المعارف) معنى يتجاوز المجموع الحسابي لها وروحا تتجاوز العالم المنظور إلى الكون الأوسع, ولذلك قال الله تعالى:"ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا", فالحكمة هنا رؤية كلية شاملة بعيدة عن التجزيء والاستقطاب, وبالتالي تمكن صاحبها من رؤية الظاهرة وما وراء الظاهرة من معاني.
والزلزال (من الناحية الإدراكية) كظاهرة جبارة وهائلة لا يمكن إدراك أبعادها برؤية ميكروسكوبية كما لا يمكن إدراكها حتى بالرؤية العادية (بالعين المجردة) وإنما تحتاج لرؤية تلسكوبية كونية شاملة. والزلزال (من الناحية المعرفية) كظاهرة متعددة المستويات والتأثيرات لا يمكن قراءتها على مستوى البيانات أو مستوى المعلومات أو مستوى المعارف, وإنما تحتاج لمستوى الحكمة (المتعدد الأبعاد والمستويات والقادر على قراءة الملفات الظاهرة والمخفية, والقادر على الاستنباط التجريدي, والقادر على الربط بين عالمي الشهادة والشهود).
وبناءا على ما سبق من تصحيح للخلل الفكري"الاستقطابي" أو "الاختزالي" نجد أننا نحتاج إلى جهد هائل على مستوى قراءة ظاهرة الزلازل في بعديها الطبيعي الظاهر والروحي غير الظاهر. فمن الناحية الطبيعية ربما نحتاج إلى إيقاف العبث بالأرض وبالغلاف الجوى, وهذا ما دعا إليه المصلحون في مؤتمر الأرض والذي تخلفت أمريكا عن حضوره على الرغم من أنها أكبر عابث بالطبيعة من خلال تفجيراتها النووية ومصانعها وحروبها.
ومن الناحية الدينية نحتاج للتوقف كثيرا أمام أخطائنا وذنوبنا التي تزداد يوما بعد يوم حتى لتكاد تلوث الأرض وما يحيط بها.
وهذه النظرة الدينية للزلزال ليست نظرة ميتافيزيقية موغلة في التفكير السحري وإنما هي نظرة غاية في الواقعية والإيجابية, فمثلا إذا تصورنا أن أسرة تعيش في شقة وأنهم جميعا يعبثون بمبانيها وأثاثاتها, ويتركون بقاياهم في أركانها, ويتركون مواسير المياه والصرف الصحي بلا إصلاح, ويرتكبون كل الموبقات التي تلوث وعيهم وضمائرهم وتشعل العداوة والبغضاء بينهم, فماذا يكون حال هذه الشقة التي يسكنونها بعد عدة سنوات؟ هذا بالضبط هو حال الأرض مع انتشار المظالم والمفاسد.
وقد يقول قائل: إن المفاسد تقع في الأرض كلها فلماذا يقع الزلزال في مكان معين دون الآخر على الرغم من أن المكان الآخر يكون أكثر فسادا(كأمريكا وإسرائيل مثلا مقارنة بجنوب شرق آسيا), والإجابة هنا لا تخضع للقوانين الظاهرة بالكامل وإنما يحكمها أيضا قوانين غيبية, فلله حكمة في اختيار مكان ما وزمان ما لإيصال رسالة للبشر توقظهم وتنبههم حتى لا يغتروا بالاستقرار الكاذب على سطح الأرض فيمعنوا في الطغيان والفساد, وهذا بالضبط كشخص صحيح البدن قد علا وتجبر على الناس بصحته وقوته فيصيبه الله بمرض يكسر جبروته أو يوقظه من غفلته, وهذا المرض يصيب أي جزء من جسده وليس شرطا أن يكون هذا الجزء هو المتورط في الطغيان أو الفساد وإنما هو جزء يمرض لكي تصل عن طريقه رسالة الانتقام أو الإيقاظ.
ومع هذا فلن يعدم المراقب المتأمل أن يجد في كل مكان حدث فيه زلزال مروع مظهرا أو أكثر من مظاهر الإفساد, فعلى سبيل المثال: زلزال جنوب شرق آسيا الأخير والمروع الذي مات فيه حوالي 160 ألف نسمة, هذا الزلزال أصاب منطقة انتشر فيها ما يسمى بالسياحة الجنسية حيث هرع الأوربيون بالآلاف بحثا عن المتعة الجنسية الخاصة التي ربما تمنع قوانين بلادهم ممارستها مثل:
مواقعة الأطفال الذكور أو الفتيات الصغار وقد قام بعض الآسيويون بخطف الأطفال لاستخدامهم في هذا الغرض كما قام بعض الناس ببيع أو تأجير أطفالهم وبناتهم للقوادين لاستخدامهم في هذه التجارة الآثمة والمخالفة للأعراف والقوانين والأخلاق كما هي مخالفة لكل الأديان السماوية.
وهذا لا يعني أن كل من أصابهم الزلزال موصومون بهذا الأمر ولكن حين يحل الانتقام أو ينزل البلاء تكون له أحيانا صفة العموم فيأخذ في طريقه أناسا لم يشاركوا في الإفساد بشكل مباشر إما لسكوتهم عن ذلك أو لابتلائهم وتعويضهم حسب حكمة الله ومشيئته التي لا يعلمها إلا هووهذا لا يعني أن من أصيبوا بالزلزال هم أسوأ البشر ولا يعنى أخذ موقف سلبي شامت أو متشفى فيهم فكل هذا ضد مبادئ الرحمة والشفقة, ومن يفعله يكون أشبه بالطبيب الذي ينظر إلى المريض متشفيا لأن المريض لم يتبع نصائحه العلاجية أو لم يكن عند توقعاته من ناحية الحمية الغذائية.
كما أن الرسالة المقصودة بالزلزال ليست قاصرة على من أصابهم فقط بل هي للناس عامة. والقرآن الكريم حافل بالآيات الدالة على أن الله يعاقب عباده إذا تجبروا أو أفسدوا بشتى القوى والظواهر الطبيعية [وما يعلم جنود ربك إلا هو, وما هي إلا ذكرى للبشر], ونذكر من هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: "اقتربت الساعةُ وانشق القمر* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ*وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ*وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ *حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ"( القمر 1-5 )
وقوله تعالى "فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ* وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ*سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ* فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ" (الحاقة 5-8)وقوله تعالى "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ*وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ" (الفيل 1-5). والمصيبة تقع فتكون للمؤمنين ابتلاء (لتكفير ذنب أو رفع درجة) وتكون للكافر انتقام على ما جنت يداه ولكي تستريح الأرض ويستريح الناس من فساده.
ثم ماذا يضير البشرية حين تعتقد بأن الزلزال –وهو ظاهرة طبيعية جيولوجية تنشأ عن حركة طبقات الأرض– له جانب آخر غيبي, خاصة أن هذا الجانب الآخر يستلزم صلاح الإنسان على وجه الأرض وأن هذا الصلاح يعتبر جهدا وقائيا يمكن أن يقلل من حدوث الزلازل خاصة وأنه لا توجد حتى الآن أي طريقة تنبؤية أو وقائية من الزلازل.
وماذا يضيرنا لو أصلحنا نفوسنا وسلوكياتنا لكي تصلح معنا وبنا بيئة الأرض التي نعيش عليها سواء كان ذلك بدافع ديني (لدى المؤمنين) أو بدافع دنيوي (لدى الدنيويين). ولماذا نلجأ دائما إلى اختزال رؤانا للأحداث على الرغم من أن العلم الحديث قد أثبت للمؤمنين وغيرهم أن كل الظواهر تقريبا متعددة العوامل والمستويات؟.
شارك معنا برأيك فى إستفتاء كارثه تسانومي على مجانين
واقرأ أيضاً:
طبيب نفسي أم طبيب كيميائي