في زيارة لي لبلدي الأصلي الفيوم*.. انتهزت والدتي الحبيبة الفرصة للذهاب لسوق كبير في المدينة تباع فيه الثمار من على الشجر كما يقولون.. فقلت لها أذهب معك.. قالت: أنت إنفة.. وحنتوفة.. ولن يعجبك التسوق، فالسوق زحام وغير منظم.. قلت سأذهب محاولة مني للتكيف!!؟؟
دخلنا السوق.. فعلا كبير جدا والناس كثيرون.. وبدأت عيناي ترصد.. التجار من صنف النساء فقط.. لا رجال.. يفترشن الأرض بجلابيبهن.. يضعن بضاعتهن أمامهن وكل خمسة أو ستة يشتركن في ميزان.. تتعالى أصواتهن بالصياح تارة على بعضهن البعض مستجلبات حاجة وتارة على الزبائن وتارة على بضائعهن يزيننها في أسماعنا برخص ثمنها..
وكل سيدة معها طفلها.. بل أطفالها.. يلعب الواحد منهم في الرمل بيد ويمسك لقمة جافة بيد وتسيل أنفه ويعقد الذباب اجتماعا مطولا على عينية.. كما أنهم جميعا اتفقوا على البقاء بغير سراويل تقيهم الحر.. والبأس!! الأظافر طويلة.. ومليئة بالسواد.. كعوبهن مشققة.. الرؤوس معصبة بمنديل أسود لا يبين إلا جدلات هزيلة لم تفك منذ نهاية شهر العسل!! الثوب شانيل.. بديكولتيه يظهر الجيب.. وهو ذا مهام فهي تضع فيه كيس نقودها ويعتبر بالنسبة لها البنك المركزي المستحيل اقتحامه!! ويزيد إحكام الثوب عند الصدر والخصر.. ثم ينطلق في وسعه بعد ذلك..
كلهن يرتدين من نفس قطعة القماش تقريبا فالألوان متشابهة أو تكاد.. والأحذية.. بلاستيكية يهيئ لي أنها تدمي أقدامهن.. قد استرعى انتباهي رجل هناك واقف بجوار حماره.. قلت.. ياه أخيرا رجل في السوق.. واتضح بعد ذلك أنه شيال ومناول لا دخل له في البيع والشراء.. بعد قليل.. اشتدت الشمس.. فوجدنا السوق في لحظة امتلأ بالشمسيات!! قطعة قماش مرقعة مربوطة الأطراف بأربع جذوع ولم أتبين كيفية تثبيتها على الأرض..
أخذت أسير هكذا وتتكرر المشاهد بحذافيرها حتى وصلت إلى بائعة مختلفة..
الأرض من فوقها مفرش بلاستيكي مزركش نظيف من فوقه جسد جميل وجه صبوح تزينه حمرة يد وأظافر وأرجل آخر تمام
ملابس غير مكشوفة ورأس معصوبة بمنديل أسود تتدلى جدلتين سميكتين منمقتين.. ابتسامة مشرقة صوت خافت وبضاعة مرتبة حسب الحجم ملمعة.. بجانبها أكياس بلاستيكية لتعبئة المشتروات.. نظرت يمنة.. قلت ناقص الطفل.. وإذا بي بقطعة من القشطة.. طفلة.. ترتدي ملابسها من قطعتين مغتسلة تجلسها أمها على المفرش النظيف وفي يدها طبق به قطع من الخبز المبلل وقطع صغيرة من البيض المسلوق.. والجبن القريش.. وبعدما تفرغ صاحبتنا هذه من الوزن والتعبئة لأحد الزبائن تغسل يديها في وعاء وضعته مخصوصا لذلك.. وتدبر بعد كل مباع.. بالهنا والشفا يا بيه أو يا هانم.. ثم تقبل النقود.. الحمد لله.. يا رب ارزقنا زي ما بترزق الطير في السما والنملة في الحوء.. – بمعنى الجحر-
في أثناء مراقبتي لها صاحت عليها إحداهن فنظرت إليها صامتة ثم أعادت ناظريها لما تنشغل به يديها من غير رد.. أصررت على الحديث معها..
اسمعهم يكنونك بأم فلان؟ أين هو؟ في المدرسة يا أبله..... جميل.. هل أنت متعلمة؟؟ بعرف أقرأ طشاش وبكتب اسمي وبسمع الراديو.. بتسمعي إيه في الراديو؟ الأخبار وربات البيوت وتمثيلية الساعة خمسة..
وما هي آخر الأخبار..؟ اليهود ولاد ال...... مش عاتقين ضربوا العراق كمان..!! هتدخلي البنت المدرسة؟؟
طبعا.. البنت زي الولد.. تضحك ماهيش كمالة عدد.. تكمل الضحك.. هل ستعطيهم الفرصة لاستكمال تعليمهم؟
أنا عايزاهم يعرفوا يقرؤا أهم حاجة بعد كده يكملوا بقى ما يكملوش مش مهم.. سألت أمال إيه المهم؟ يقرؤا القرآن والجرايد ويصلوا ويفهموا اللي يتقال في التلفزيون.. إحنا فلاحين يا أبله هنسيب الأرض لمين.. نبورها يعني؟؟ قلت لها؟ معاك حق.. بل كل الحق..
لماذا تهتمين بمظهرك وفرشتك على الأرض.. لا يا أبله إحنا بردو ناس كويسة وبنفهم الصح من الغلط
كم لديك من الأطفال؟ ولد وبنت.. سألت ناوية تجيبي تاني.. قالت آه طبعا طول ما ربنا مقدرني أعلمهم هجيب بس ربنا يقويه.. علينا!!.. سكت ريثما تفرغ والدتي من الشراء.. فبادرتني سائلة.. هو أنت مشرفة صحية من الوحدة؟؟ قلت لها: لا طبعا هو أنا قلت لك نظمي.. ولا كلمت حد غيرك؟؟ قالت آه.. بحسب..
أنا كلمتك لأني شعرت أنك مختلفة عن الباقيات.. تعتقدين لماذا؟؟ العلام** يا أبله.. العلام..
اكتفيت بهذا القدر من الأسئلة وقلت ربنا يكرمك ويبارك لك في ولدك.. ويرزقك كما يرزق الطير في السماء والنمل في الجحور.. وتبادر إلى ذهني.. اليوم درس آخر من غريب من قابلت.
* الفيوم: إحدى محافظات صعيد مصر
** العَلام: كلمة عامية تعني التعليم الرسمي
واقرأ أيضًا:
يوميات رحاب: القناعة كنز / يوميات رحاب: ذهبت سعاد..