ارتمى جسدها النحيف على فراش المرض.. وتعلقت بأذرعها الأنابيب التي تنقل لها الدالين..!! – الدم والدواء- وعجزت عن التقاط أنفاسها فاستعيض عنه بأنابيب أخرى تنقل لها الهواء.. وأخذت تنظر في أرجاء غرفتها يمنة ويسرة ببطء شديد بما تبقى في جهدها من قوة وكأنها تودع المكان الذي آواها آخر أيامها وساعاتها في هذه الدنيا وتودع من لاقت من أشخاص فرضوا عليها بحكم مهامهم.. واستقرت عينيها على عيني التي بذلت جهدا أن أدعهما تفران من أعينها.. هذه العيون التي شعرت بقرب لقائها من بارئها.. ثم فرت.. فرت ابتسامة بسيطة من شفتيها... و.. فرت عينيها.. إلى الأبد.. وفرت.. دموعي على مريضتي الغالية.. فقد ذهبت سعاد..
بعدها.. قبعت أذكر ما حكته لي هذه المريضة عن قصتها في هذه الحياة القصيرة فلم يتجاوز عمرها حين ماتت الرابعة والعشرين..
أعدت بذاكرتي الشريط.. كيف دخلت علينا بأسقامها التي ما لبثت أن شخصت بمرض عضال.. فذهبت إليها أعودها في غرفتها بالمشفى أتعرف عليها وكيف انتقل هذا المرض إليها.. وهي زهرة صغيرة.. فقالت:
توفي والدي وأنا في السابعة وما لبثت والدتي أن تزوجت بآخر.. كان كبير السن عنها ضخم الجثة يبعث في نفسي الشعور بالتقيؤ!! وكان يعمل بوظيفة كذا.. ومنذ اللحظة الأولى لحياته معنا وأنا قد بذر في قلبي الخوف.. وكانت عيونه تنظر إلي بنظرة غريبة.. فهمتها بعد ذلك.. أمي لا تعمل.. وهي تحب الرجال!!؟؟
لذا عندما سألتها عن سبب استمرارها في هذه الزيجة على ما تلاقي منه من عذابات نفس وجسد قالت: ضل الراجل يا بنتي ولا ضل الحيطة!!..
مرت السنون.. وانسحب الإيذاء علي ليس بتارك أمي.. وكان ضربه لي يأخذ منحى عجيب.. في مواضع غير مألوفة.. وتعرفي أن مقامنا في منطقة عشوائية شعبية كان كفيلا بتشكيل شخصيتي من طريقة كلام وأسلوب ومشية وغيره.. بلغت الحادية عشرة من عمري وبلغت معها مبلغ الشباب.. فقد نفر عودي وجسدي وأصبحت بذا عز الطلب!!!..
فقد أتى زوج الأم يقنع والدتي بأن أعمل في خدمة البيوت حتى أعين على ضائقة الرزق.. فرفضت أمي في البداية ولكن لم تصمد الغلبانة أمام طوفان السباب والضرب وفعلا.. عملت بالخدمة في البيوت.. وكان زوج الأم يقبض راتبي من صاحبة البيت ولا أمسه بيدي.. إلى أن جاء زوج الأم يأخذني من المنزل الذي أعمل فيه.. بلا عودة.. يقول:أنك وصلت سن الزواج وأتاك عريس يطلبك.. قلت: أأتزوج من غير أمي؟؟ إلى أين تأخذني!! هل لن أرى العريس؟؟ طيب مش هجهز نفسي!!؟؟
دخلت شقة غريبة وعجيبة.. ومريبة.. تتعالى فيها الضحكات.. جزعت مما رأيت.. وصرخت على زوج أمي وفررت من يديه نحو الباب.. وسبحان من نجاني..
رجعت منزلي ولم أقو على محادثة أمي.. كما أنها لم تسألني.. رغما عن أنها ترى في عيني الخوف وتقرأ على وجهي البأس.. ولكنها آثرت السلامة..
فذلفت إلى غرفتي وارتميت على سريري.. وغطت عيني في النوم.. لم أفق إلا على زوج أمي يلطمني بقوة : لماذا خرجت دون إذني؟ .. لم تكن زواجة يا عمي بل كانت...
وماذا في هذا هي مهنة مثل كل المهن.. إذا أثبت جدارة يمكن حد يلمك ويجوزك.. قلت وأنا لم أتعدى الحادية عشر من عمري طب ليه؟؟ ما أنا باشتغل في البيوت.. والمرتب كفاية؟؟ خذه كله مش عاوزاه.. قال: هتيجي معايا بالذوق أو بالعافية..
حاولت الاستعانة بأمي ولكن.. لم أسمع لها صوت؟؟ ولم تأتيني لما سمعت صراخي.. على يقيني بوجودها في البيت.. رفضت.. فقال: إذا أنا هأعرف أجيبك إزاي؟؟..
و...مزق من على جسدي ملابسي... و.......
بذا.. أصبحت جاهزة للمهمة المسندة إلي.... وباركت أمي .. بصمتها..
وقد كان .. تنقلت بين البيوت أخدم بكافة الصور.. وألبي طلبات أصحابها ... ومرت السنين.. لا أعرف إلا أيوة نعم.. حاضر.. عيني.. تأمرني..
إلي أن بدأت علي مظاهر الإعياء والمرض.. وأنت عارفة الباقي..
بعد هذه القصة.. سألت نفسي.. هل سيعاقب الله هذه الفتاة على ما فعلت؟؟ وقد فاضت روحها.. وليس لنا إلا الترحم عليها..
هذا سؤال يلح علي.. ليس تألها على الله.. معاذ الله .. وحاشاي أن أفعل.. ولكن 24 عام 11عام طفولة13 سنة كهولة مبكرة.. لم تنعم الفتاة رحمها الله بمن يرشدها ومن يعلمها.. بل ربما كانت ترفض ما عرض عليها في بادئ الأمر من منطلق الفطرة.. قبل أن تلوث..
قد أكرهت الفتاة.. قد قولبها أهلها.. واختاروا لها طريقها.. لم تعطى الفرصة لفطرتها النقية الصافية.. حتى تصطبغ بها أعمالها..
فهل تكون في نظرنا مجرمة.. آثمة.. تستحق الرجم في الدنيا والعقاب في الآخرة .. والنسيان من الترحم عليها بعد مماتها..
هل هي مثل الكثيرات اللاتي يعرفن ماذا يصنعن.. واختارت أقدامهن بإرادتهن الطريق الذي فيه هن سائرات؟؟
هل تتساوى تلك الفتاة رحمها الله.. مع من نبتت في منزل حسن ووسط عائلة من أب وأم محترمين؟؟ فخرجت للمجتمع ناجحة ومؤدبة؟؟ أو خرجت عن المعروف والمألوف وأصبحت فاسدة مفسدة؟؟؟
هل لأولئك من منقذ.. هل يتقبلهن المجتمع ويحتضنهن محاولة منه لتعريفهن بلطف بأين يكون الصواب.. بدلا من ازدرائهن وإقصائهن.. وهن في الأغلب مجني عليهن..لا جانيات..ولا مفسدات بالقصد وإعمال النية؟؟
أخذت الأسئلة تعتمل في صدري ويضيق الصدر على ما فيه.. إلى أن فتحت التلفاز على قناة القرآن الكريم
والآية ترن في أذني وكأنها تمسح دموعي وتربت على كتفي وترد علي سؤالي.. قائلة:(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا..) صدق الله العظيم..
الحمد لله.. أن لنا ربا.. هو الله.. الرحمن الرحيم.. وأن ليس لنا ربا... سواه..
ولله في خلقه شؤون.. وأختم.. بسؤال..
هل ستتوالى القصص .. فنقول كل مرة ذهبت سعاد.. ؟؟؟؟
مودتي
واقرأ أيضًا:
يوميات رحاب: في الفيوم / يوميات رحاب : النظارة حرام .. !!