كنت عائدة من مدرستي في القرية، فارتأيت أن أزور المكتبة التي تقع بجوار منزل جدي رحمه الله في حيّنا القديم الذي غادرناه منذ عشرين سنة، فأسعارها أرخص من باقي المكتبات، والحمد لله أن سيارة المدرسة تمر قريباً منها.. وبالفعل، ذهبت إليها، ودخلتها قبل أذان الظهر بعشر دقائق تقريباً، ولكن، يبدو أنني أخطأت التوقيت.. فقد كان وقت الذروة في الزحام لأنه الوقت الذي يذهب فيه الأطفال اإلى المدرسة القريبة منها.. فانتظرت قليلا ريثما ينتهي البائع من تلبية طلبات الأطفال.. وأخذت أتأمل رفوف الكتب وأنتقي ما يعجبني منها.. ثم.. إذا بصوت المؤذن يعلو معلنا دخول وقت صلاة الظهر..
فأخذ البائع يسرع في تلبية طلبات الصغار ليصرفهم، لأنه يريد اللحاق بالصلاة في المسجد، فقد كان متدينا وحريصاً على أداء الصلوات كلها في المسجد.. تقبل الله منه ومنا صالح الأعمال..
ولكنه سيغادر المكتبة، ولا يوجد غيره لينوب عنه في تلبية طلبات الزبائن، وهذا يعني أن الزبائن إما ستنصرف لتعود لاحقاً، أو ستنتظره ريثما يعود، فآثرت انتظاره لأن الكتاب الذي أريد الحصول عليه مهم جدا بالنسبة لي، صحيح أنني لن أشتريه هو فقط، بل قد اقتنيت ست كتب أخرى معه– فأنا من النوع الذي لا يملك نفسه في المكتبة حيث تغريني الكثير من الكتب بشرائها وقراءتها، فلا أخرج من الكتبة إلا وقد اشتريت أضعاف ما كنت أنوي شراءه- إلا أنه هو الأهم، فقد جئت أصلا من أجله.. وقلت في نفسي، انتظري، أكيد لن يتأخر.. هل سيتأخر أكثر من 5 دقائق، عشرة في أسوأ الاحتمالات.. ثم طلبت منه أن لا يتأخر.. فرد بالإيجاب..
وخرجت من المكتبة، لأن صاحبها سيقفلها.. فلا أحد فيها..
وأخذت أنتظر أمام بابها، وحتى لا أضيع الوقت أخذت أتمعن بالكتب المعروضة على واجهتها.. ووجدت أن منها ما أنا بحاجة إليه، فازدادت حصيلة الكتب التي دخلت قائمة الشراء!!
مرّت عشر دقائق.. ولم يعد البائع بعد، بدأت أتضجر، خصوصا أنني أصلاً متعبة، فقد عدت من العمل إلى المكتبة فورا دون أن آخذ أي قسط من الراحة.. تلفتت حوالي أرقب المارّة.. كلهم من طلبة المدرسة القريبة، تلاميذ صغار في الصفوف الابتدائية الأولى، وطلاب كبار في الصفوف الثانوية العليا.. التلاميذ يذهبون للمدرسة لأداء الامتحان، والطلاب الكبار غادروها بعد أن أدّوا الامتحان.. وهم يسبّون ويشتمون ويستهزؤون بهذا المدرّس الذي يستعرض عضلات دماغه على ورقة الأسئلة، فقد جاءهم بأسئلة صعبة جدا.. غير متوقعة، والطلاب لا يرون الأسئلة متوقعة إلا تلك التي يصرّح لهم أستاذهم بأنها أسئلة الامتحان!!.. ففشلوا في الامتحان، ولكن رغبة إثبات الذات لا تزال متّقدة في أعماقهم، فأخذوا يثبتون ذواتهم من خلال أول ما يفعله الذكور حين يبلغون مبلغ الرجال ليثبتوا أنهم بلغوا مبلغ الرجال وهو: تدخين السيجارة، ومعاكسة البنات المارّات في الشارع.. الحمد لله أن أحداً منهم لم يفكّر بمعاكستي.. يبدو أنهم رأوني أشبه أمهاتهم، إذاً فأنا لا أصلح للمعاكسة أصلا..!!
مللت من تأملهم وأنا أرى مستقبلهم الضائع إذا استمرّوا على ما هم عليه بعينيّ بصيرتي، فحرفت بصري ناحية المسجد لأرى البائع العابد، ربع ساعة وأنا أنتظر أمام الباب.. ولم يعد بعد.. عدت ببصري إلى حيث أقف، وأخذت أتأمل منزل جدي القديم، فقد كان قبالة المكتبة تماما..
أخذت أتأمل جدرانه المسودّة، هذه الجدران المكسوّة بالحجارة الفاخرة والتي كانت أيام بنى جدي هذا البيت (منذ عام 1940) مظهرا من مظاهر الغنى والترف. لقد اسودّت لطول الزمان الذي انتصبت فيه شامخة تشكّل منزل الحاج عبد الله.. عذراً، فاتني أن أعرّفكم بجدي.. إنه الحاج عبد الله، من أكابر مدينة حلب ووجهائها وأتقياء تجّارها..
نظرت إلى شرفاته التي كثيراً ما لعبت فيها أنا وابن عمّي، ها قد بدأت تتهدّم.. لن تحتمل بعد الآن وطئ أقدام أحد.. رحت أتأمل حجارته السوداء.. و شرفاته ونوافذه.. وستائر الخمرية اللون التي كانت يوما ما فاخرة.. وقد أخذت النسيمات تلعب بها، فتطل من النافذة ثم تعود إلى الداخل.. فتمزقها، يبدو أنها هرمت هي الأخرى فلم تعد تقوى حتى على ملامسة هذه النسيمات..
يا الله.. أهذا هو بيت جدي؟؟
عندما ولدت كان جدي في التاسعة والسبعين من عمره، وتوفي وأنا في الرابعة عشرة، لقد كان رحمه الله معمرا.. عاش أكثر من تسعين سنة.. عندما أتأمل السنة التي وُلد فيها وهي سنة 1896، أحس أن الزمن قصير جدا..
عندما كنت صغيرة- في السادسة من عمري، كنت أرى إخوتي الذين يكبرونني ببضع سنوات كبار جدا.. وكنت أرى من يصل إلى الثانوية العامة كبيييييييييييييييرا للغاية، أما من هو في الجامعة، فقد كان خارج نطاق استيعابي.. ولم أكن أستطيع أن أتخيل من هم في سن الثلاثين والأربعين إلا رجالا ونساء على حافّة قبورهم..
ولكن.. كلما كبرت.. كلما ازددت إدراكا لمفهوم الزمن، وكلما أصبح معنى قوله تعالى: "ويوم تقوم الساعة، يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة" واضحاً أكثر فأكثر.. فعلا .. الدنيا ساعة.. وكل يوم يمر يكون أسرع من الذي قبله، وكل سنة تمر تكون أسرع من سابقتها.. وهكذا.. كما لو كانت الحياة قطارا.. ينطلق متهادياً بطيئاً، ثم يزيد سرعته شيئاً فشيئا.. إلى أن يصل إلى سرعة القصوى فيمرّ كلمح البصر.. وهذا ما أراه الآن، ولا أدري هل سيزداد قطار حياتي سرعة، أم أنه سيخفف قليلاً ريثما ألتقط أنفاسي!
أعود بكم إلى منزل جدي.. عندما تأمّلته أدركت حقيقة الحياة، ها هو هذا البيت الذي بقي ولعشرات السنين عامراً بالأولاد والأحفاد. لقد أصبح الآن خاوياً، لا يسكنه إلا الفراغ، لطالما اشتكى جيرانه من ضجيج الأطفال وصخب لعبهم، ولكن.. لا تسمع منه الآن إلا صفير الرياح، ولطالما كان عامراً بالحركة والعطاء والبذل.. أين كل هذا الآن؟؟
لا يحضرني كوصف بليغ لما رأيته ذلك اليوم إلا قول الشاعر الذي لا أذكره جيداً:ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها *** فكأنها وكأنهم أحلام
هاهو الذي كادت أن تنهد جدرانه وأرضياته من كثرة الحركة واللعب عليها، هاهي ذي تكاد أن تنهدّ من تلقاء نفسها تعباً ووهناً، بل لقد لقد سقطت فعلاً دعامة أحد أبواب الحديقة.. لم يكن جدّي فقط مسناً ومعمراً، بل لقد أصبح بيته مسناً ومعمّراً أيضاً..
أحسست بحنين جارف للماضي، أحسست برغبة عظمى في أن أضم جدّي الذي لم أعرفه إلا شيخا منحني العود، لقد كنت أحبه كثيرا.. صحيح أنه لم يكن من ذلك النوع من الجدود الذين يحتوون أحفادهم ويلونون حياتهم بالفرح والبهجة، فلم تكن علاقتي به تتعدى الخدمة وتلبية طلباته حين يزورنا أو حين نزوره.. بل إنني لا أعرف عن حياته إلا ما يحكيه والدي عنه، ولا عجب، فمن كان يحكم بيته حكما عسكريا في شبابه، فبالتأكيد لن يعرف كيف يتواصل مع أحفاده.. ومع ذلك كنت أحبه، أحبه وأحنو عليه كثيرا.. وإلى الآن.. كلما تذكرت شيبته ووجهه المجعّد وعيناه الغائرتان ويداه اللتين لم تُبق منهما السنون إلا الجلد فوق العظم، أبكي شوقاً إليه.. ربما هي الرحمة التي يقذفها الله في قلوب البشر ليرحموا بها الأطفال والمسنين والمرضى وذوي الحاجة.. رحمك الله يا جدي، وأسكنك فسيح جنانه..
ها هو ذا بيت جدي يقف وحيداً دون أنيس يؤنس وحدته في أواخر أيامه، إنه يعاني الوحدة في النهار رغم صخب الحياة من حوله، والبرد في الليل رغم دفئ جيرانه، يراقب كل ما حوله نهارا، ليبكي وحدته وغربته ليلاً، لقد تغيرت الدنيا من حوله وتبدّلت.. لم يكن بيت جدي وحيدا في سالف أيامه، فقد كان رفاق حياته جاثمين حوله، فهذا بيت عم والدي، وهذا بيت خالة والدي، وهذا وهذا.. ولكن الآن أصبح بيت جدي وحيدا لأن كل الدور القديمة المحيطة به قد تم هدمها ونهضت مكانها عمارات حديثة، إلا هو..
أحسست تماما حين رأيته وحيدا في أرض أصبحت غريبة عنه وبين رفاق رحلوا، أحسست بل وأدركت حقيقة هذه الأرض، وكيف تغير جلدها ما بين الفترة والأخرى.. مسكين يا بيت جدي.. لو أنهم أعدموك، أقصد هدموك أنت أيضا لكان هذا أرفق بحالك.. ولكن اعذر ملّاكك الجدد، فهم مسافرون، وما اشتروك إلا ليستثمروا أموالهم في العقارات، فهم ليسوا بحاجة لك الآن، ولكن عندما يصبحون بحاجة لك، سيهدموك بالتأكيد.. وستلحق برفاقك الذين سبقوك.. وستنتهي من على وجه الأرض كما انتهوا..هل هذه هي الحياة ؟ياااااه .. كيف تغرّنا إذاً ؟؟
أكثر ما آلمني هو منظر النوافذ المكسّرة الزجاج، يبدو أن الأطفال لم يعودوا يحترمون شيبة أحد، كيف استطاعوا أن يتطاولوا على هيبة هذا الصرح فيقذفوا نوافذه بالحجارة؟ أما يكفي ما أحدثته يد الزمن والوحدة من تهديم ووهن لهذا البيت العزيز؟ كنت قد تضجرت في البداية من هذا الانتظار، ولكن.." وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"، "وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيرا" .. لقد جعلني هذا الانتظار أقف على أطلال بيت جدي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه..
كل ما سأتعلمه من الكتب التي سأشتريها حين يعود البائع، لا يضاهي ما علّمتني إياه يا ربي حين رتّبت لي هذه المقابلة مع الماضي.. لأدرك، وبعمق حقيقة الحياة.. عندما أتأمل بيت جدي، بل عندما أتأمل جدي رحمه الله، وأتأمل كيف أن جدي هو من مواليد القرن التاسع عشر، أشعر أن الزمن يمتد ويتجمّع ليصبح خطاً مستقيماً متّصلاً وليس قطعا متفرقة..
عندما كنت أدرس التاريخ في كتب المدرسة، كنت أحس ببعد شاسع بيني وبين ما أدرسه، وكأنه عالم آخر ودنيا أخرى.. ولكن نظرة واحدة إلى جدي وبيته تجعلانني أدرك أن الحقيقة ليست كذلك.. كل ما درسته في كتب المدرسة من تاريخ حديث، ومنذ الحرب العالمية الأولى وحتى حرب تشرين سنة73 – والتي كانت آخر حدث بارز نفخر به-، عاشه جدي ووعاه..يااااااااه .. وإذا كان جدي قد عاش حوالي المائة عام، فهذا يعني أنه ليس بيني وبين النبي إلا أربعة عشر جيلا فقط.. لكم هو قريب..!!
هذا بالنسبة للماضي، فهل أستطيع أن أقول نفس الكلام بالنسبة للمستقبل أيضاً؟ بعد مئة عام، ستغير الأرض جلدها بالتأكيد، ولن يبقى بعد مئة عام إلا بضعة معمرين من البشر والحجر يبقيهم الله ليأتي من هو مثلي فيتأملهم ويدرك حقيقة الزمن وحقيقة الحياة والماضي والمستقبل.. يا سبحان الله..
عندما أفكر بهذه الطريقة، أزداد وعيا بمحلّي من الإعراب في هذه الحياة، ويقينا بالله عز وجل، وبالجنة والنار وباليوم الآخر.. وأزداد إدراكاً لقيمة هذه الحياة ولفنائها.. ها هو الحاج عبد الله الذي كان من رجال حلب المميزين جدا جدا، وتجارها المشهورين، ليس بالغنى فقط، بل بالورع والتقى والجود و الكرم.. ها هو الحاج عبد الله قد رحل.. انتهى.. انتهى دوره ليبدأ دور أبنائه، ويكاد دور أبنائه أيضاً أن ينتهي ليبدأ دور أحفاده.. أنا.. ومن هم في جيلي.. ومن هم أصغر مني.. وسيأتي اليوم الذي سينتهي فيه دوري ليبدأ دور أبناء أحفاد الحاج عبد الله.. رحمه الله... وسيأتي اليوم الذي يُقال فيه: رحم الله الحاج عبد الله وأبناءه وأحفاده.. وأتمنى حين يقول الناس ذلك أن يتبعوها بما قالوه عن الحاج عبد الله، كانوا قوماً صالحين طيبين.. قلوبهم لله.. أتمنى ذلك فعلا، ومن كل قلبي..
كل هذا أثارته حجارة قديمة مسودّة وأبواب مخلّعة وستور متهتكة ودعامات متهاوية.. إنه بيت جدي.. رحمه الله..
ها هو صاحب المكتبة يظهر من المنحنى الذي يختبئ خلفه باب المسجد، هذا المسجد الذي يُعرف باسم جدي لأنه هو الذي أشار ببنائه وساهم فيه وسعى لإتمامه.. لقد بنى المسجد قبالة بيته تماما، فهو لا يستطيع أن يعيش دون أن يسمع الأذان خمس مرات كل يوم، ودون أن يؤدي الصلاة في المسجد خمس مرات كل يوم، تماما مثل صاحب المكتبة..
حفيدة الحاج عبد الله
واقرأ أيضاً:
حكايات بنت الفرات: مدارس ماريا / حكايات بنت الفرات: في مدرسة القرية