مقدمة..
في أجواءٍ كانت تحوطني بالكآبة والظلام.. والبعد كل البعد عن السماح لي بمجرد الحلم برحلة كرحلة الحج.. بكيت إلى الله في صمت (يا رب.. عايزة أحج يا رب.. يا رب)
وقبل الحج بأسبوع واحد..
وكل فرد في العائلة قد اطمئن على الحملة التي سيذهب معها للحج..
تمتمت لأمي في صمت.. أريد أن أحج
قالت لي بفزع؟؟ لم لم تقولي ذلك من البداية.. كل الأماكن قد حجزت الآن..
قلت لها.. لا تبحثي.. لقد دعوت الله فإن كان قد كتبها لي فستأتيني..
وقبل الحج بيومين فقط..
لم أصدق أذني وأنا أسمع من تتصل بي..
هل تريدين الحج؟؟
بالطبع أتمنى..
إذن قد كتبها الله لكِ..
وبكيتُ للهِ شكرًا..
الرفيقة..
شيءٌ جعلني أتوجس خيفة.. سأذهب بمفردي بعيدًا عن أمي وشقيقتي.. أقضي 6 أيام مع أشخاص لا أعرفهم من قبل..
آه.. يا رب.. آنس وحشتي..
في صباح اليوم السابع..
صاحب الحملة يراجع كشوف الأسماء.. يقرأ اسمي واسم شقيقي فيفاجأ أن والدنا هو الطبيب الذي يذهب إليه بصفة دورية لعلاج ابنه المريض.. يتصل به في لهفة.. يطمئنه أننا سنكون في رعايته.. يسأله إن كان يعرف طبيبة تخرج معهم في الحملة..
تتصل أمي بإحدى زميلاتها والتي لم تكن قد ارتبطت بحملة بعد..
(طنت إيمان) إنني أحبها جدًا..
سوف تأتي معنا..
شكرًا لك يا رب..
بداية الرحلة
تحركنا مساء يوم الاثنين (السابع من ذي الحجة) صوب مكة المكرمة للقيام بالطواف والسعي كلٌ بحسْبِ نسكه.. كنت مفردة فكان الطواف لي طواف قدوم والسعي سعي الحج. وكان أخي متمتعًا فكانت له عمرة..
قمنا بأداء الطواف من الدور الثالث (السطح) والمسافة قد تكون تعادل أضعاف أضعاف الطواف بالأسفل.. المنظر من فوق مبهر.. سبحان الله.. مهما صورت كاميرات التلفاز ليس كالإحساس الروحاني الرهيب الذي يتخللك ويجعلك بلا وعي منك تتمتم.. سبحان الله.. العظيم
وفي السعي انتقلنا للدور الثاني فقد كان أقل ازدحامًا.. وأكملنا بعد صلاة الفجر بساعة تقريبًا على خير والحمد لله
ما أصابنا بعد ذلك بالإعياء هو انتظارنا الطويل للباص المكلف بنقلنا إلى منى وبعد ذلك عدم معرفة السائق للطريق فلم نصل إلى منى إلا قرب الظهر..
يوم التروية..
خيمة منظمة.. تتكون من صفين من الفرش مقابلة لبعضها.. نائمات ومتيقظات.. لم تأتِ معي صديقة أمي في ذات الخيمة.. فكان يجب أن أتعرف.. وكانوا رائعين..
قضينا ذلك اليوم في حضور المحاضرات التي نظمتها الهيئة الإرشادية في الحملة.. وكان أهمها عن يوم عرفة وعن بقية مناسك الحج.. ووزعت الأوراق والجداول.. وأغلب الحجاج أحبو أن يختموا القرآن في أيام الحج.. فكان يومًا روحانيًا هادئًا.. وهو اليوم الوحيد في الحج الخالي من الأحداث..
في المساء.. حضرت كل واحدة حقيبة صغيرة وجمعت بها ما ستحتاجه غدًا في عرفة بإذن الله
يجدر بالذكر أن موجة قارصة من البرودة اجتاحتنا.. جاءت لطيفة على القادمين من كل من أبها / المدينة / الرياض / لكنها حطمت مناعات أهل جدة غير المعتادين على البرد وأصابت أغلبهم بنزلات معوية وهذا ما اكتشفته عندما أيقظني ألم بطني في منتصف الليل..
يوم عرفة
استيقظت قبل الفجر من آلام البرد من ناحية.. وربما عدم التعود بعد على المكان.. وبسبب امرأة تحكي لمن يجاورونها بصوت عال عن حريق هائل حدث في منى هذا الصباح وبسببه تم إغلاق الطرق لأربع ساعات..
شعرت بفزع.. صديقاتي / عائلتي جميعًا في حملات متفرقة.. اتصلت بهم جميعًا لأطمئن على سلامتهم..
توجهنا إلى عرفة بوعي حاضر وحماسة لهذا اليوم العظيم.. نراجع ما قيل لنا من دروس ليلة الأمس ونزيد عليه بقراءة الكتيبات المختلفة حتى وصلنا قبيل الظهر تقريبًا..
بعد حضورنا لدرس هذا اليوم الفضيل استمعنا لخطبة عرفة ثم صلينا الظهر والعصر جمع تقديم.. وقرب لنا الغداء ثم انصرف كلٌ إلى مصلاه..
جمعت الأوراق التي كنت قد كتبت فيها دعوات كل من أوصاني.. وأسماء كل من سأدعو لهم حتى لا أنسى أحدًا فالفرصة لا تعوض..
غاب الجميع في سكرة منتشية لا يعادلها وصف.. إحساس بالقرب القوي جدًا من الله.. لم تعد تسمع إلا نهنهات المتضرعين إلى الله. والله من فوق سبع سماوات يباهي بهم ملائكته..
كان الإيذان بالرحيل مشهد حزين.. وكأنك بالأم تنزع منها وليدها.. القلوب خاشعة.. العيون باكية.. الهامات منكسرة ،يبدأ الموكب في المغادرة إلى المزدلفة.. ويغفو الجميع حتى الوصول..
في مزدلفة..
وقفت باصات الحملة بشكل عمودي متراصة مع إبقاء مسافة بين كل حافلتين.. وفي هذه المساحة تم وضع الفرش وأكياس النوم للنساء والرجال خارج الفاصل.. وبعد تقديم وجبة خفيفة .. كان يجب أن نخلد للنوم..
تسللت وإحدى صديقاتي نبحث عن رفيقة لنا في باص مختلف وقضينا معها وقتًا مرحًا قبل أن نعود أدراجنا..
بصراحة، كنت أتهرب من النوم.. من شعوري بأني سأنام في الشارع خصوصًا أني كنت على الطرف بحيث أني أرى أسفل الباص والإسفلت وأنا نائمة على جانبي الأيمن..
سبحان الله، تأملت في الحكمة..
هذا يوم واحد ننامه في الخلاء مع توفر كل عناصر الراحة، ونكاد نجن، كيف بالذين لا يجدون ملجأً لهم سوى الطرقات، الحمد لله..
قبيل الفجر استعدينا للصلاة وقمنا بجمع الحصيات السبع استعدادًا لرمي جمرة العقبة الكبرى.. حتى يحصل التحلل الأصغر.. وبدأ الجميع بأرواح منتعشة استقبال فجر العيد.. وهبت نسمات باردة حملت معها بعض زخات من المطر، جعلت القلوب تلهج لله شكرًا..
يوم العيد..
على مدار اليوم كان الجميع يتوافدون للرمي حتى يتحللون من الإحرام، بعد الظهر توجهنا للجمرات، كان الجو به بعض القيظ والزحام، ولكنا كنا نتعزى بالعودة والراحة والماء البارد..
مع رمي أول حصاة، تشعر بشعور غريب، مزيج من الرهبة والقوة والتصميم وحب الله، وكأن كل خلجة من خلجاتك تهتف: نحن لك يا رب
مر باقي اليوم في بهجة وتهنئات وحديث وبرامج توعوية ومسابقات، ووزعت الحلوى والهدايا
وانهمك الجميع في جمع الحصيات ال21 تأهبًا لرمي الجمرات الثلاث صباح اليوم التالي..
هناك أيضًا من ذهب لطواف الإفاضة، ولكننا قررنا تأجيله مع طواف الوداع في اليوم الأخير
أيام التشريق..
في اليوم الأول: كان السؤال الذي يجول بين الحجاج عن التعجل أو البقاء . الجميع يسألون ويتشاورون ويقررون، هناك من سيتعجل ويسافر غدًا وهناك من سيبقى.
كنا على راحتنا فلا داع من التعجل في الرمي، وذهبت مع بعض الرفيقات للجمرات مع زوج إحداهن بعد العشاء، كان الجو رائعًا، لكنا دخلنا من طريق مخالف أملاً في أن يكون أقرب ولكنه كان أكثر زحامًا وكدنا نختنق حتى وصلنا للرمي من الدور الثاني..
ورمينا، ووقفنا بين كل جمرة والأخرى ندعو الله ونبكي.
بعدها بقليل خرجنا لشراء بعض الهدايا من البسطات المتفرقة مابين تذكارات للحج وغيرها..
في اليوم الثاني: وبعد الزوال مباشرة توجهت أعداد مهولة من الحجاج للرمي في وقت واحد حتى يتعجلوا ويتمكنوا من مغادرة منى قبل الغروب حتى لا يجب عليهم البقاء، وحدثت حوادث شنيعة جدًا بسبب الزحام وهناك من رجعت وهي تبكي بكاءًا مريرًا لأنها رأت الموت بعينيها وكادت أن تخرج روحها من تدافع الناس..
حتى إن إحداهن تحكي وتقول: أنك لا تشعر بجسمك وكأنه ريشة تطير، لم يعد هناك تحكم ذاتي في الاتجاه على الأقل، فقدت السيطرة ومع الاختناق والالتصاق سقط المئات من الضحايا رحمهم الله
في الساعة الثانية صدر بيان من وزارة الداخلية بإغلاق الجمرات وعدم إدخال أي حاج إلى هناك حتى تتم السيطرة على الوضع..
وفي نفس الوقت جاءت أعاصير قوية جدًا، الهواء طير كل شيء، حطم الحواجز البلاستيكية وخيام الحجاج المفترشين، وبقينا مختبئين في خيامنا متدثرين من البرد..
بعد الهواء القوي جاءت أمطار، أقل ما يقال عنها بأنها سيول..
كان موقفًا مرعبًا..
البكاء والدعاء يرتفعان (اللهم حوالينا ولا علينا)
الرجال العاملين يقتحمون علينا الخيمة بسرعة جنونية حتى يسحبوا أفياش الكهرباء..
ألقوا لنا بمظلات، اذهبو للباصات فورًا، مجموعة ترفض الذهاب، لو أراد الله لانقلبت الباصات في هذه الأعاصير والسيول، بقينا متحفزين لأي طارئ ندعو الله ونبتهل..
كان حظنا أفضل بكثير من غيرنا، فهناك من حدثت لهم أهوال وأهوال، لكن الأمر انتهى على خير، ومع حلول الظلام كان المطر قد توقف، ومازالت الألسنة تلهج بالدعاء..
خرجنا للرمي وعمال النظافة منتشرون في كل مكان يحاولون جهدهم إظهار الأرض من أكوام القمامة والماء المتدفق وكأنك تنظر إلى نهر يجري أمامك، كان أبسط ما يمكن أن تفكر فيه أنك لست أنت الذي تمشي هنا وهذه ليست قدمك ثم تستغفر الله وتحتسب الأجر وتمضي في طريقك، فما كان أصعب من أن يوصف..
أخذنا معنا المظلات تحسبًا لأن تمطر في أي وقت، لكنها لم تمطر حتى عدنا والحمد لله..
يجدر بالذكر أننا قمنا بغسل عباءاتنا بعد هذه المغامرة..
في اليوم الأخير: كان النوم في الليلة السابقة صعب جدًا فقد ابتل جزء كبير من الخيام والفرش، وتكدس الموجودين في مكان ضيق متزاحمين وكنت آخرهم نومًا فاستيقظت وأنا أشعر بالألم يفت من عظامي، ومع الاستيقاظ الباكر استعد الجميع لإغلاق حاجياتهم وجلسنا جلسة رائعة مفيدة مع مشرفة الحملة أثناء الإفطار ثم ذهبت للرمي مع أخي وصديقة أمي وزوجها هذه المرة ، وعدنا سريعًا استعدادًا للانطلاق..
وصلنا إلى مكة واقترح زوج صديقة أمي أن نطوف من الدور الثالث كما فعلنا في طواف القدوم، لكننا اعترضنا جميعًا فالمسافة أضعاف الأضعاف، ونحن متعبون جدًا، فوافق على مضض وأنهينا الطواف بسرعة والحمد لله،وعلى أذان المغرب، جلست في أقرب مكان وجدت وبقينا ننتظر أخي حتى يسعى لأنه متمتع، وبعد العشاء التقينا بهم وتوجهنا إلى الحافلات..
كنت أجلس بجوار صديقتي التي أحببتها في هذه الرحلة ونحن في آخر اللحظات وقد اقتربنا من جدة..
انتهت الرحلة، تذكرنا معًا كل تفاصيلها، اتصلنا بصديقاتنا الباقيات نطمئن عليهم..
كانت رحلة، ممتعة، ممتعة بكل ما فيها من تعب وفرح وشعور.
وتواعدنا جميعًا أن نلتقي بعد خمس سنوات كما تقتضي الأنظمة..
لأحكي لكم قصة أخرى
واقرأ أيضاً:
حكايات صفية: نسيم أهل الحجاز / ساعات سكينة ساعة طبيب نفسي / يوميات سحابة: أطرف المواقف في رحلة الحج.