في دنيا التسامح وعدتكم أن تكون رحلتنا هذا الأسبوع.. ولا أخفيكم فإن فيها الكثير من المتاهات والمجاهل.. التي تستفز العقل والقلب..كما فيها من الدفء والصفاء ما تأنس به الروح.. سنكتشف معا كيف تتلاقى المتناقضات بل وتتواءم في فضيلة واحدة لتكون بعمقها وتميزها فضيلة السعادة..
وفاء لدروثي!
رحلتنا في دنيا التسامح ما كنا لنبتدئها لولا دروثي طومسون وكتابها (شجاعة السعادة).. والسعادة كما فهمتها دروثي لها جناحان.. الرضا والتسامح.. وكلاهما صفتان تتطلبان من صاحبهما الشجاعة ليحسن التحلي بهما.. شجاعة في مواجهة الشعور الجاثم بالحزن أو الظلم أو الأذى..
تقول دروثي: ((الشخص لا يمكنه أن يسعد إذا كان لا يزال يحمل في قلبه ضغينة أو إساءة، وأجمل مظاهر الشجاعة يتطلب التسامح: الشجاعة لننسى))
في قصة ((جريمة العيد)) للكاتبة البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي يدور حوار بين زوجين.. يشكو الزوج من مشاعر البغض والكراهية التي تعمر قلبه تجاه والده الذي أهمل والدته ، وجرح كرامتها دوما بعلاقاته النسائية المتعددة، ويعلل تلك المشاعر السلبية التي أبت أن تفارقه بعدم قدرته على النسيان.. فتقول له زوجته.. ليست المشكلة أنك لا تستطيع أن تنسى.. بل أنك لا تريد أن تنسى.. ثم ألم تفكر يوما أن والدتك بسلبيتها وخنوعها قد تكون قد ساعدت والدك بشكل ما على التمادي في غيه؟.. ولعله من الرجال الذين إن وجدوا امرأة قوية تكبح جماحهم.. وتدافع باستبسال عن حقها في الحياة الكريمة.. احترموا ذلك.. ورجعوا إلى الجادة السوية..
أجاثا كريستي على لسان الزوجة أرادت أن تقول لنا أن التسامح تصنعه شجاعة النفس.. وقدرتها على تفهم طبيعة النفس البشرية.. وقد سمعت الأستاذ عبد الوهاب مطاوع – رحمه الله رحمة الأبرار- يقول في برنامجه (لحظة صدق).. كلما فهمنا أكثر.. تسامحنا أكثر..
ومن جميل ما قرأت في تفسير قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام- أورده الشيخ سعيد حوى في كتابه الأساس في التفسير-:((قال رب اشرح لي صدري))سورة طه. آية 25 . أي ارزقني سعة الصدر لأحتمل رديء الأخلاق.. وكأن سيدنا موسى لما وجهه الله تعالى إلى دعوة الطاغية فرعون إلى الحق.. ((اذهب إلى فرعون إنه طغى)). سورة طه . آية 24..
توجه إلى ربه بطلب العون والقوة والشجاعة ليكون متسامحا واسع الصدر مع أهل الطغيان والبغي في دعوتهم إلى الحق!
وسأنقل لكم فقرة من مذكرات الأديب الكبير يحيى حقي –رحمه الله رحمة الأبرار- (خليها على الله).. وجدت فيها نموذجا راقيا من التسامح.. وجمال الخلق.. لم أستطع فهمه على وجه الكمال.. ولعلي أفهمه يوما لأكون قادرة على مزيد من التسامح..
كتب الأستاذ يحيى حقي يقول:
(( سعدت بتلقي العلم على يد أساتذة أجلاء أفاضل لا أنسى جميلهم... ولكن إلى جانبهم عرفت مع الأسف – وهذا شأن الحياة – أساتذة يجاملون رياء ونفاقا وظلما أبناء الوزراء... وأساتذة هم أقرب إلى التجار الجشعين منهم إلى حملة العلم، وأساتذة فارغين يسرقون وقت الطلبة بالعبث والمماحكة . هذا كلام ثقيل الوقع على نفسي، أخرج به عن حد الأدب الذي هو في طبعنا منذ حفظنا ((من علمني حرفا صرت له عبدا)) . ولكني اعتزمت في هذه المذكرات الإدلاء بشهادتي صادقة، لا أكتم شيئا ولو بدا للناس أنني قليل الأدب، ناكر للجميل. وبعد فهذه شهادة رجل واحد لا تصلح نصابا للشهادة، وقد تهدمها شهادة أخرى، قد يكون العيب فيّ أنا لا فيمن وصفت)) اهـ
فوضى التسامح !
-1- لم يشعرني بحث موضوع ما بالشتات والتيه كما فعل معي صديقي (التسامح).. فالكل يدعي وصلا به.. وهو لا يقر بالوصل إلا.. لمن؟ هذا هو السؤال الذي أقدم لكم محاولة للإجابة عنه!
حمى الدعوة إلى التسامح تجتاح البلد التي أحيا بها.. وأحبها دينا و هوى.. الدعوة إلى قبول الآخر.. الحوار المتزن الهادئ.. دعوة أراها هنا تفتقر إلى النضج والعمق إلا قليلا من الطروحات التي لم تتأصل في وجدان المجتمع بعد!
هل أبغي مهاجمة الطرح (السلفي) –كما اصطلح على تسميته – وهو النهج الذي انتهجه بعض الكاتبين عن التسامح وثقافة الحوار! لا.. ليست هذه غايتي.. ما أبغيه حقا هو دعوة صادقة للتنقيح والتأصيل.. يطرح فيها بعض ما يبدو أنه من المسلمات جانبا.. ليعاد النظر فيه بروية وحياد ومنهجية..
أذكر أني حضرت يوما محاضرة لإحدى الداعيات – وهي دكتورة في كلية الشريعة – تتحدث فيها عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم.. كان كلامها جميلا يمتلئ حبا.. ويفيض صدقا.. ملك علي قلبي.. فما إن بدأت تتحدث عن الإتباع وكونه من لوازم المحبة حتى بدأ حديثها ينحى منحى آخر.. فإذا بها تصم بالابتداع والشرك من يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم.. ويحتفلون بمولده الشريف.. وحمّلت كلامها من عبارات السخرية والاستهزاء الشيء الكثير..
فلما أتمت محاضرتها.. ذهبت إليها وطلبت منها حديثا جانبيا فوافقت برحابة صدر.. بدأت حديثي بثناء لم أجاوز الصدق فيه.. وشكرتها على عطائها الطيب.. فتبسمت بارتياح
قلت لها.. إني قد تخرجت من كلية الدراسات الإسلامية.. ولدي بعض الإشكالات التي أود الاستفسار عنها..
قالت.. تفضلي .
قلت.. لقد درست أن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم من المسائل التي اختلف فيها العلماء.. فذهب جمهورهم إلى جواز التوسل.. فكيف يستقيم وفقا لقواعد الشريعة في عدم التكفير بل الإنكار فيما اختلف فيه من الفروع أن نذهب إلى أن المتوسل مشرك؟!..
قالت.. كلامك صحيح في أن المختلف فيه لا إنكار فيه.. ولكن لا بد أن نحتاط لمسائل العقيدة..
قلت لها.. لا زال لدي إشكال..
قالت.. تفضلي أنا أسمعك باهتمام لأزيل الشبهة التي لديك!
قلت.. مسائل العقيدة التي يكفر المخالف فيها كما أفهمه هي المسائل القطعية التي لا تحتمل الاختلاف.. وهي أصول أركان الإيمان الستة.. أما المسائل التي تحتمل الاختلاف، فكيف يقال بكفر المخالف فيها؟ إذ لولا جواز الاختلاف فيها لما جعلها الشارع ظنية محتمِلة لأكثر من وجه!
قالت.. كلامك صحيح.. لكن لابد من الاحتياط في مسائل العقيدة.. لابد.. أين درستِ يا ابنتي؟
قلت.. في حضرموت .
قالت.. حضرموت مليئة بالعلماء لكنهم للأسف يخلطون علمهم بالخزعبلات.. ولذلك حصل هذا التشويش لديك!
قلت لها وأنا أرسم معالم الحيرة على وجهي.. فما جوابك عن هذا التشويش؟!
قالت بارتباك.. الجواب يطول، خذي رقمي واتصلي بي ليكون لنا لقاء آخر..
توقف حوارنا عند هذه النقطة.. وسألت الله أن تكون في تساؤلاتي تلك ما يثير لديها حافز المراجعة وإعادة النظر، ليستبين لها أن نهج التكفير يفتقر إلى المنهجية ..
كيف تصح دعوى التسامح ممن يعتقد أن من خالفه في ظنيات العقيدة ضال تجب معاداته.. ومن خالفه في فروع الفقه فهو فاسق أو متساهل بدين الله يجب اجتنابه.. هذا الاضطراب الواضح في الطرح السلفي الذي بدأ يظهر للعامة.. ربما لا يبدو مبشرا لأول وهلة.. لكني أعتقد – والله أعلم – أن مرحلة زلزلة المسلمات الزائفة هي مرحلة من مراحل وضوح الحق وتجليته.. هذا الحق الذي يسع أطيافا فكرية متعددة فقهية وعقدية في إطار القطعيات الدينية..
-2- حمى فوضى التسامح التي تعم مجتمعي مَسّتني منذ شرعت في التحضير لكتابة هذه المقالة.. ونالت مني بشكل عنيف.. تساؤلات أنهكت عقلي أياما.. إذا كان مقتضى التسامح هو قبول الآخر مطلقا فمؤدى ذلك أن أحكام الشريعة كما قرأناها في كتابات المفكرين الإسلاميين تخرجها عن وصف التسامح.. في مواضيع كالديمقراطية مثلا.. في قبول اللادينيين.. في العقوبة التي تقرر على المرتد...
وبعد مزيد تأمل وبحث.. أحسب أني قد بدأت أتماثل للشفاء.. إذ تبين لي أن هذه الإشكالات سببها هو اعتقادي مبدئيا بأن التسامح صفة مطلقة، وتقييدها يناقض حقيقتها، وذلك لا يصح من وجهين:
أحدهما: أن التسامح المطلق فساد مطلق.. تماما كما أن السلطة المطلقة- في حق البشر- مفسدة مطلقة.. إذ أنه سيؤدي بالضرورة إلى إهدار الحقوق.. وانتهاك الحريات.. والاعتداء الذي لا يردعه عقاب..
الثاني: أن التسامح مع من يتخذه ذريعة للقمع والتسلط مناقض لمقصود التسامح فلا يصح.. إذ أن التسامح وسيلة وليس غاية، وغاية التسامح هو إشاعة السلام والتعايش الآمن مع الآخر، فإن أدى التسامح إلى نقيضها خرج عن معناه.
وحيث كان التقييد جائزا بمثل ما ذكرت آنفا..جاز بغيره.. وهكذا فإن الحكم الإسلامي إن ارتأى تقييدا ما للحريات، واعتمادها كدستور للدولة – بعد اختياره كشريعة ومنهج حياة من قبل الأغلبية - فلا يعد ذلك خروجا عن جوهر التسامح.. ووفقا لفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الحفاظ على وحدة المجتمع يقتضي إفساح المجال للآخر الذي لا يطبق الإسلام كشريعة – وعدم التطبيق لا يستلزم الكفر على سبيل القطع - لتداول السلطة مادامت الأغلبية قد ارتضته – والله أعلم- .
أما مسألة قبول اللادينيين – الذين لا يدينون بدين سماوي - كجزء من المجتمع الإسلامي فهي موضع خلاف بين العلماء.. ولست بصدد الترجيح وإنما هي إشارات لملامح إعادة التشكيل للفكر الإسلامي في ضوء تراثنا الفقهي العظيم..
و أختم بمسألة الردة فحيث قررنا ما ذهب إليه الجمهور من العقوبة بالقتـل حدا للمرتـد،أو تعزيـرا- كما ترجح للدكتور محمد سليم العوا -فإن العقوبة لا تتنافى مع التسامح هكذا بإطلاق العبارة.. إذ أن القيود التي نقيد بها مفهوم التسامح تختلف بحسب الفلسفة التي تصدر عنها..
تسامح اللا تسامح!
كنت صغيرة.. لم يتجاوز عمري السنوات الاثنتي عشرة.. كان ضعف بنيتي ظاهرا للعيان.. وصاحبه رقة ورهافة تصل حد الهشاشة.. لكني كنت كثيرا ما أحاول أن أوراي عجزي عن أخذ حقي بدعوى التسامح والتسامي... قال لي والدي – حفظه الله- يوما : يا ابنتي العفو والتسامح إنما يكون فضيلة حال القدرة، أما في غير هذه الحال فهو هوان وخور.. تسامحك الحقيقي مع من استمرأ الظلم هو أن تردعيه عن ظلمه لأنك بذلك تحققين مقصود هذه الفضيلة العظيمة وهو تحقيق السلام بين الناس..
وبقدر ما أعجبني كلام والدي حينها.. وعزمي على الأخذ به.. إلا أني لم أكن أستطيع مواءمته مع الخطاب الديني السائد الذي يدعو إلى المسامحة دوما.. ومقابلة السيئة بالحسنة.. ويستدل بالآيات والأحاديث في هذا المعنى بدون تقييد.. ثم إني وجدت كلاما للإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه القيم (جامع العلوم والحكم) يقول: كان السلف يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فيجترئ عليه السفهاء، فالمؤمن إذ اعتدي عليه يظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك .
وقد وجدت سندا لعمل السلف هذا في حديثين شريفين.. أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: إن لنفسك عليك حقا.. وما رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت الحجاج يخطب فذكر كلاما فأنكرته، فأردت أن أغيره فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قلت : يا رسول الله كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق)).. والحديث عام يشمل السياق الذي أورده به ابن عمر وغيره...
وإذ كان التسامح فضيلة (الشجاعة) كما هو فضيلة السعادة.. فلا ينبغي أن يدعيه من لم يقم بحقه.. فبعض الناس إذا أسيء إليهم شغلوا من حولهم بالحديث عن مسامحتهم لمن أساء إليهم، وعفوهم عنه، وهم في حقيقة الأمر يسلكون مسلكا دنيئا لئيما في التشهير بمن أساء إليهم، ويلبسون ثياب التسامح زورا وبهتانا.. ولو أنهم صفحوا حقا لما شهّروا وجهروا بالسوء من القول في غير موضعه.. ولو أنهم أخذوا بالعدل فانتقموا ممن ظلمهم بقدر ظلمه.. لكان فعلهم هذا أنبل وأشرف.. لكنه جبنهم عن الأخذ بالرخصة التي رخصها الله لهم برد السيئة بمثلها.. وزادوا على الجبن دعوى الأخذ بالفضل كذبا..
والمؤمن الحق عمله دائر بين العدل والفضل لا يدعي لنفسه فضائل ليست فيه، ولا يستحيي من الحق الذي مكنه الله من إنفاذه، ولا ينحى باللائمة على من أخذ بالعدل لم أخذ به؟.. والله أعلم.
هل رأيتم كيف أن التسامح حقا هو فضيلة المتناقضات.. بتضاد دلالاتها.. واجتماع العمق والسهولة فيها.. والشجاعة والجبن في مسالكها.. أتمنى صدقا أن لا أكون قد أثقلت عليكم.. وأن تكون رحلتي معكم في دنيا التسامح على وعورتها جميلة ومشوقة! وشكرا لوقتكم...
وفاء لدروثي!
رحلتنا في دنيا التسامح ما كنا لنبتدئها لولا دروثي طومسون وكتابها (شجاعة السعادة).. والسعادة كما فهمتها دروثي لها جناحان.. الرضا والتسامح.. وكلاهما صفتان تتطلبان من صاحبهما الشجاعة ليحسن التحلي بهما.. شجاعة في مواجهة الشعور الجاثم بالحزن أو الظلم أو الأذى..
تقول دروثي: ((الشخص لا يمكنه أن يسعد إذا كان لا يزال يحمل في قلبه ضغينة أو إساءة، وأجمل مظاهر الشجاعة يتطلب التسامح: الشجاعة لننسى))
في قصة ((جريمة العيد)) للكاتبة البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي يدور حوار بين زوجين.. يشكو الزوج من مشاعر البغض والكراهية التي تعمر قلبه تجاه والده الذي أهمل والدته ، وجرح كرامتها دوما بعلاقاته النسائية المتعددة، ويعلل تلك المشاعر السلبية التي أبت أن تفارقه بعدم قدرته على النسيان.. فتقول له زوجته.. ليست المشكلة أنك لا تستطيع أن تنسى.. بل أنك لا تريد أن تنسى.. ثم ألم تفكر يوما أن والدتك بسلبيتها وخنوعها قد تكون قد ساعدت والدك بشكل ما على التمادي في غيه؟.. ولعله من الرجال الذين إن وجدوا امرأة قوية تكبح جماحهم.. وتدافع باستبسال عن حقها في الحياة الكريمة.. احترموا ذلك.. ورجعوا إلى الجادة السوية..
أجاثا كريستي على لسان الزوجة أرادت أن تقول لنا أن التسامح تصنعه شجاعة النفس.. وقدرتها على تفهم طبيعة النفس البشرية.. وقد سمعت الأستاذ عبد الوهاب مطاوع – رحمه الله رحمة الأبرار- يقول في برنامجه (لحظة صدق).. كلما فهمنا أكثر.. تسامحنا أكثر..
ومن جميل ما قرأت في تفسير قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام- أورده الشيخ سعيد حوى في كتابه الأساس في التفسير-:((قال رب اشرح لي صدري))سورة طه. آية 25 . أي ارزقني سعة الصدر لأحتمل رديء الأخلاق.. وكأن سيدنا موسى لما وجهه الله تعالى إلى دعوة الطاغية فرعون إلى الحق.. ((اذهب إلى فرعون إنه طغى)). سورة طه . آية 24..
توجه إلى ربه بطلب العون والقوة والشجاعة ليكون متسامحا واسع الصدر مع أهل الطغيان والبغي في دعوتهم إلى الحق!
وسأنقل لكم فقرة من مذكرات الأديب الكبير يحيى حقي –رحمه الله رحمة الأبرار- (خليها على الله).. وجدت فيها نموذجا راقيا من التسامح.. وجمال الخلق.. لم أستطع فهمه على وجه الكمال.. ولعلي أفهمه يوما لأكون قادرة على مزيد من التسامح..
كتب الأستاذ يحيى حقي يقول:
(( سعدت بتلقي العلم على يد أساتذة أجلاء أفاضل لا أنسى جميلهم... ولكن إلى جانبهم عرفت مع الأسف – وهذا شأن الحياة – أساتذة يجاملون رياء ونفاقا وظلما أبناء الوزراء... وأساتذة هم أقرب إلى التجار الجشعين منهم إلى حملة العلم، وأساتذة فارغين يسرقون وقت الطلبة بالعبث والمماحكة . هذا كلام ثقيل الوقع على نفسي، أخرج به عن حد الأدب الذي هو في طبعنا منذ حفظنا ((من علمني حرفا صرت له عبدا)) . ولكني اعتزمت في هذه المذكرات الإدلاء بشهادتي صادقة، لا أكتم شيئا ولو بدا للناس أنني قليل الأدب، ناكر للجميل. وبعد فهذه شهادة رجل واحد لا تصلح نصابا للشهادة، وقد تهدمها شهادة أخرى، قد يكون العيب فيّ أنا لا فيمن وصفت)) اهـ
فوضى التسامح !
-1- لم يشعرني بحث موضوع ما بالشتات والتيه كما فعل معي صديقي (التسامح).. فالكل يدعي وصلا به.. وهو لا يقر بالوصل إلا.. لمن؟ هذا هو السؤال الذي أقدم لكم محاولة للإجابة عنه!
حمى الدعوة إلى التسامح تجتاح البلد التي أحيا بها.. وأحبها دينا و هوى.. الدعوة إلى قبول الآخر.. الحوار المتزن الهادئ.. دعوة أراها هنا تفتقر إلى النضج والعمق إلا قليلا من الطروحات التي لم تتأصل في وجدان المجتمع بعد!
هل أبغي مهاجمة الطرح (السلفي) –كما اصطلح على تسميته – وهو النهج الذي انتهجه بعض الكاتبين عن التسامح وثقافة الحوار! لا.. ليست هذه غايتي.. ما أبغيه حقا هو دعوة صادقة للتنقيح والتأصيل.. يطرح فيها بعض ما يبدو أنه من المسلمات جانبا.. ليعاد النظر فيه بروية وحياد ومنهجية..
أذكر أني حضرت يوما محاضرة لإحدى الداعيات – وهي دكتورة في كلية الشريعة – تتحدث فيها عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم.. كان كلامها جميلا يمتلئ حبا.. ويفيض صدقا.. ملك علي قلبي.. فما إن بدأت تتحدث عن الإتباع وكونه من لوازم المحبة حتى بدأ حديثها ينحى منحى آخر.. فإذا بها تصم بالابتداع والشرك من يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم.. ويحتفلون بمولده الشريف.. وحمّلت كلامها من عبارات السخرية والاستهزاء الشيء الكثير..
فلما أتمت محاضرتها.. ذهبت إليها وطلبت منها حديثا جانبيا فوافقت برحابة صدر.. بدأت حديثي بثناء لم أجاوز الصدق فيه.. وشكرتها على عطائها الطيب.. فتبسمت بارتياح
قلت لها.. إني قد تخرجت من كلية الدراسات الإسلامية.. ولدي بعض الإشكالات التي أود الاستفسار عنها..
قالت.. تفضلي .
قلت.. لقد درست أن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم من المسائل التي اختلف فيها العلماء.. فذهب جمهورهم إلى جواز التوسل.. فكيف يستقيم وفقا لقواعد الشريعة في عدم التكفير بل الإنكار فيما اختلف فيه من الفروع أن نذهب إلى أن المتوسل مشرك؟!..
قالت.. كلامك صحيح في أن المختلف فيه لا إنكار فيه.. ولكن لا بد أن نحتاط لمسائل العقيدة..
قلت لها.. لا زال لدي إشكال..
قالت.. تفضلي أنا أسمعك باهتمام لأزيل الشبهة التي لديك!
قلت.. مسائل العقيدة التي يكفر المخالف فيها كما أفهمه هي المسائل القطعية التي لا تحتمل الاختلاف.. وهي أصول أركان الإيمان الستة.. أما المسائل التي تحتمل الاختلاف، فكيف يقال بكفر المخالف فيها؟ إذ لولا جواز الاختلاف فيها لما جعلها الشارع ظنية محتمِلة لأكثر من وجه!
قالت.. كلامك صحيح.. لكن لابد من الاحتياط في مسائل العقيدة.. لابد.. أين درستِ يا ابنتي؟
قلت.. في حضرموت .
قالت.. حضرموت مليئة بالعلماء لكنهم للأسف يخلطون علمهم بالخزعبلات.. ولذلك حصل هذا التشويش لديك!
قلت لها وأنا أرسم معالم الحيرة على وجهي.. فما جوابك عن هذا التشويش؟!
قالت بارتباك.. الجواب يطول، خذي رقمي واتصلي بي ليكون لنا لقاء آخر..
توقف حوارنا عند هذه النقطة.. وسألت الله أن تكون في تساؤلاتي تلك ما يثير لديها حافز المراجعة وإعادة النظر، ليستبين لها أن نهج التكفير يفتقر إلى المنهجية ..
كيف تصح دعوى التسامح ممن يعتقد أن من خالفه في ظنيات العقيدة ضال تجب معاداته.. ومن خالفه في فروع الفقه فهو فاسق أو متساهل بدين الله يجب اجتنابه.. هذا الاضطراب الواضح في الطرح السلفي الذي بدأ يظهر للعامة.. ربما لا يبدو مبشرا لأول وهلة.. لكني أعتقد – والله أعلم – أن مرحلة زلزلة المسلمات الزائفة هي مرحلة من مراحل وضوح الحق وتجليته.. هذا الحق الذي يسع أطيافا فكرية متعددة فقهية وعقدية في إطار القطعيات الدينية..
-2- حمى فوضى التسامح التي تعم مجتمعي مَسّتني منذ شرعت في التحضير لكتابة هذه المقالة.. ونالت مني بشكل عنيف.. تساؤلات أنهكت عقلي أياما.. إذا كان مقتضى التسامح هو قبول الآخر مطلقا فمؤدى ذلك أن أحكام الشريعة كما قرأناها في كتابات المفكرين الإسلاميين تخرجها عن وصف التسامح.. في مواضيع كالديمقراطية مثلا.. في قبول اللادينيين.. في العقوبة التي تقرر على المرتد...
وبعد مزيد تأمل وبحث.. أحسب أني قد بدأت أتماثل للشفاء.. إذ تبين لي أن هذه الإشكالات سببها هو اعتقادي مبدئيا بأن التسامح صفة مطلقة، وتقييدها يناقض حقيقتها، وذلك لا يصح من وجهين:
أحدهما: أن التسامح المطلق فساد مطلق.. تماما كما أن السلطة المطلقة- في حق البشر- مفسدة مطلقة.. إذ أنه سيؤدي بالضرورة إلى إهدار الحقوق.. وانتهاك الحريات.. والاعتداء الذي لا يردعه عقاب..
الثاني: أن التسامح مع من يتخذه ذريعة للقمع والتسلط مناقض لمقصود التسامح فلا يصح.. إذ أن التسامح وسيلة وليس غاية، وغاية التسامح هو إشاعة السلام والتعايش الآمن مع الآخر، فإن أدى التسامح إلى نقيضها خرج عن معناه.
وحيث كان التقييد جائزا بمثل ما ذكرت آنفا..جاز بغيره.. وهكذا فإن الحكم الإسلامي إن ارتأى تقييدا ما للحريات، واعتمادها كدستور للدولة – بعد اختياره كشريعة ومنهج حياة من قبل الأغلبية - فلا يعد ذلك خروجا عن جوهر التسامح.. ووفقا لفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الحفاظ على وحدة المجتمع يقتضي إفساح المجال للآخر الذي لا يطبق الإسلام كشريعة – وعدم التطبيق لا يستلزم الكفر على سبيل القطع - لتداول السلطة مادامت الأغلبية قد ارتضته – والله أعلم- .
أما مسألة قبول اللادينيين – الذين لا يدينون بدين سماوي - كجزء من المجتمع الإسلامي فهي موضع خلاف بين العلماء.. ولست بصدد الترجيح وإنما هي إشارات لملامح إعادة التشكيل للفكر الإسلامي في ضوء تراثنا الفقهي العظيم..
و أختم بمسألة الردة فحيث قررنا ما ذهب إليه الجمهور من العقوبة بالقتـل حدا للمرتـد،أو تعزيـرا- كما ترجح للدكتور محمد سليم العوا -فإن العقوبة لا تتنافى مع التسامح هكذا بإطلاق العبارة.. إذ أن القيود التي نقيد بها مفهوم التسامح تختلف بحسب الفلسفة التي تصدر عنها..
تسامح اللا تسامح!
كنت صغيرة.. لم يتجاوز عمري السنوات الاثنتي عشرة.. كان ضعف بنيتي ظاهرا للعيان.. وصاحبه رقة ورهافة تصل حد الهشاشة.. لكني كنت كثيرا ما أحاول أن أوراي عجزي عن أخذ حقي بدعوى التسامح والتسامي... قال لي والدي – حفظه الله- يوما : يا ابنتي العفو والتسامح إنما يكون فضيلة حال القدرة، أما في غير هذه الحال فهو هوان وخور.. تسامحك الحقيقي مع من استمرأ الظلم هو أن تردعيه عن ظلمه لأنك بذلك تحققين مقصود هذه الفضيلة العظيمة وهو تحقيق السلام بين الناس..
وبقدر ما أعجبني كلام والدي حينها.. وعزمي على الأخذ به.. إلا أني لم أكن أستطيع مواءمته مع الخطاب الديني السائد الذي يدعو إلى المسامحة دوما.. ومقابلة السيئة بالحسنة.. ويستدل بالآيات والأحاديث في هذا المعنى بدون تقييد.. ثم إني وجدت كلاما للإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه القيم (جامع العلوم والحكم) يقول: كان السلف يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فيجترئ عليه السفهاء، فالمؤمن إذ اعتدي عليه يظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك .
وقد وجدت سندا لعمل السلف هذا في حديثين شريفين.. أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: إن لنفسك عليك حقا.. وما رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت الحجاج يخطب فذكر كلاما فأنكرته، فأردت أن أغيره فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قلت : يا رسول الله كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق)).. والحديث عام يشمل السياق الذي أورده به ابن عمر وغيره...
وإذ كان التسامح فضيلة (الشجاعة) كما هو فضيلة السعادة.. فلا ينبغي أن يدعيه من لم يقم بحقه.. فبعض الناس إذا أسيء إليهم شغلوا من حولهم بالحديث عن مسامحتهم لمن أساء إليهم، وعفوهم عنه، وهم في حقيقة الأمر يسلكون مسلكا دنيئا لئيما في التشهير بمن أساء إليهم، ويلبسون ثياب التسامح زورا وبهتانا.. ولو أنهم صفحوا حقا لما شهّروا وجهروا بالسوء من القول في غير موضعه.. ولو أنهم أخذوا بالعدل فانتقموا ممن ظلمهم بقدر ظلمه.. لكان فعلهم هذا أنبل وأشرف.. لكنه جبنهم عن الأخذ بالرخصة التي رخصها الله لهم برد السيئة بمثلها.. وزادوا على الجبن دعوى الأخذ بالفضل كذبا..
والمؤمن الحق عمله دائر بين العدل والفضل لا يدعي لنفسه فضائل ليست فيه، ولا يستحيي من الحق الذي مكنه الله من إنفاذه، ولا ينحى باللائمة على من أخذ بالعدل لم أخذ به؟.. والله أعلم.
هل رأيتم كيف أن التسامح حقا هو فضيلة المتناقضات.. بتضاد دلالاتها.. واجتماع العمق والسهولة فيها.. والشجاعة والجبن في مسالكها.. أتمنى صدقا أن لا أكون قد أثقلت عليكم.. وأن تكون رحلتي معكم في دنيا التسامح على وعورتها جميلة ومشوقة! وشكرا لوقتكم...
واقرأ أيضاً:
حكايات صفية : فليتك تحلو والحياة لذيذة .. / حكايات صفية : تفاصيل صغيرة