الهزيمة فعلا هزيمة العقول، هكذا قالها أحمد: " يا ابني الهزيمة.... لا هزيمة الا في العقول" كنت احكي له عن ما سمعته في"حلقة بلا حدود" التي شاهدتها على الجزيرة ليلة الجمعة الماضية، من أخينا الأكبر الأستاذ أنيس نقاش ذلك الرجل المفكر المناضل الذي قابلناه في مؤتمر مناهضة العولمة الذي حضرناه في بيروت في أكتوبر من العام الماضي سنة أربعة وألفين؛
المهم أنني طبعا سمعت كثيرا أن هزيمة أكثر من يشعر بالهزيمة منا إنما تكون بسبب حرمان عقله أو افتقاره إلى معلومات صحيحة عما يجري في المعركة الدائرة بين من يفكرون منا وبين الأمريكان الذين يحاربون الإرهاب على أرضنا، إلا أن لوقع جملة أحمد هذه بعد ما سمعته من أنيس نقاش في تلك الحلقة كان أثر مختلفا عليَّ.
وبعيدا عن مقتل المغفور له رئيس حكومات لبنان الأسبق السيد رفيق الحريري، وعن انعكاساته الداخلية في بلدي الثاني الذي أحببته إلى حد العشق لبنان حفظه الله كما أحببت أهله جميعا، بعيد عن ذلك أجد أن كلام أنيس النقاش أثلج صدري، فأفكارنا الشائعة عما يحدثُ في العراق وما حوله بالفعل إذن هي تسويق لكذبة أمريكية؛
رغم أنها لم تعد من الممكن أن تبقى مخبأة كما بين لنا أنيس النقاش، كان عندي إذن نقص في المعلومات، وفشلٌ في التوقعات لأنني مثلي مثل كثيرين، منهم المتواضعون في تحليلهم السياسي مثلي ومنهم خبراء ومحللون أكفاء، مثلي مثلهم أحزنتني انتخابات العراق؛
وكنت أحسبها ستمكن الأمريكان وكنت أحسبهم قادرون على إجبار سوريا البلد الذي أتمنى زيارته، وقد حاولت من لبنان مرتين ولكنهم قالوا لي تأشيرتك لدخول لبنان ليست متعددة الدخول، كنت أقول شكرا وأنا حزين، لا عليكم فهذه دمعة أخرى من دموع العربي المحاصر في الحدود بينه وبينه، وأنا من أبكاه وأضحكه دريد لحام في عمله الرائع حدود.
نعود إذن إلى ما جرى، ومن الغريب أن كثيرين أصابهم القرف المعرفي الشعوري بحالة لا مبالاة بما يجري فلم يعودوا يتابعون الأخبار، أو يبحثون عن المعاني العميقة خلف العناوين، على أي حال عرفت أن غباء الإدارة الأمريكية لم يعد يختلف عليه اثنان لأنه بعيدا عن الخيبة الكبيرة التي يلقاها الجيش الأمريكي صباح مساء في العراق، فإن نتيجة الانتخابات التي أجرتها أو أصرت أمريكا على إجرائها، جاءت دعما سياسيا لإيران، وهي العضو الثاني في محور الشر الأمريكي، وتأمل الموقف بعينين نافذتين وذهن متقد كذهن الأستاذ أنيس النقاش يشير فعلا إلى سورة الخيبة التي تقرؤها أمريكا غير مأسوفٍ عليها.
لم أستطع النوم ليلتها وأنا أحاول الاتصال بابن عبد الله لكي يسمع الرجل الذي أحبه مثلما أحببته، ولكن أحمد كان هاربا من الاتصالات مغلقا محموله، المهم أنني خرجت من ذلك إلى فكرة لست أدري ماذا ربطها بالعقول والهزيمة؟ وتحليل أنيس النقاش، تلك الفكرة هي أنني تذكرت قوله تعالي: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي) صدق الله العظيم (الفجر:27-30)،
وأرعبتني الفكرة التالية: كنت في السادسة من عمري عندما انتقل الرئيس المصري والزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر إلى الرفيق الأعلى وكان أول المشاهد الجماهيرية في وعيي كطفل هو كيف اكتظت شوارع مدينة الفيوم التي قضيت فيها تلك الفترة من عمري بالناس وهم يهتفون ويبكون حاملين صورا لعبد الناصر وقد كتبت تحتها تلك الآيات؛
لست أدري متى بعدها اكتشفت أنها آيات كانت في القرآن قبل عبد الناصر، نعم فعلا كنت كطفل أحسب أنها آياتٌ خاصة به! ما معنى ذلك؟؟؟ معنى ذلك أنني لم أكن أقرأ ولا أقول أحفظ جزء عمى في ذلك العمر؟؟؟ نعم هذه هي الحقيقة وسأقول لكم لماذا!، لكنني لا أذكر التاريخ الذي عرفت فيه أن الآيات هي أواخر سورة الفجر الكريمة وأنها ليست جملة واحدة كما كنت أحسب بل أربعة آيات، فعلا لا أذكرُ متى عرفت ذلك! وأغلب الظن أنه كان بينما كانت أختي الأصغر مني تحفظ القرآن بعدما انتقلنا إلى السعودية مع والدينا.
كيف لم أكن أحفظ القرآن وأنا صغير كيف لم يكن أبي رحمه الله يفعل ذلك، أتدرون ما السبب؟؟؟ السبب أنه يرحمه الله كان أغلب طفولته في المعتقل لأنه من الإخوان المسلمين، وأذكر أيضًا أن كان زائر المساء الثقيل يزورنا أسبوعيا فيجلس في غرفة الصالون وأنا معه أتثاءبُ وأرفض أن أنام، كان يسأل أمي كل أسبوع من زاركم؟ هل حاول أحد الاتصال بزوجك؟ ألم تصلكم أي رسائل، وأذكرُ أنني كثيرا ما كنت أتثاءب متعمدا ليرحمنا ويغادر وكان يقول لي متصنعا العطف والحنان قم نام يا حبيبي فأقول كيف وأنت رجل غريب؟؟؟
وأذكر رده: أنا رجل مباحث مسئول عن أمن الناس، وكم أضحكني عندما كبرت قليلا أن عرفت أنه كاذب لأنه مسئول عن أمن الدولة وليس أمن الناس، المهم أن ذلك الوضع كان يقتضي ألا تكثرَ المظاهر الإسلامية في البيت حتى أن صديقات والدتي كن ينصحنها بأن تخبئ المصحف الشريف بعيدا عن عيني زائر المساء، وأذكر أن والدي يرحمه الله حكى مرةً أن حراس المعتقل كانوا يعنفوهم إذا ضبطوا متلبسين بالصلاة قائلين لهم:
"الصلاة دي هي سبب وجودكم هنا"، وأن بعض الحراس كان يعتذر لهم سرا بعد ذلك متعللا بأنه كان مضطرا لتنفيذ الأوامر!، كل هذه الذكريات المؤلمة تداعت إلى ذهني دون سابق إنذار، لست أدري ما ذكرني بها، ربما ذكر عبد الناصر عرضا في الإشارة لدور مصر في المنطقة ضمن برنامج أنيس النقاش الجزيرة، ما علينا.
فعلا أقنعني أنيس النقاش أن أمريكا لا تستطيع فعل شيء لسوريا لأنها أصلا موروطة حتى رأسها في العراق، وكل ما هو في إمكانها هو أحد خيارين إما العقوبات الاقتصادية وقد ثبت فشلها في أكثر من تجربة، وإما -وهذا في حال غيظها الشديد أو رغبتها في تخويف إيران- أن تستخدم الضربات الجوية؛
لكنها على أي حال لا تستطيع التورط بجنودها في سوريا، لست محللا سياسيا على أي حال ولا أحسب توجها للمقاومة أفضل مما بسطه لنا مقال الجهاد المدني: الطريق إلى فعل مختلف، المهم أنني ليلتها نمت مطمئنا على سوريا وخائفا على لبنان وحزينا على طفولتي التي عكر البريء فيها زائر المساء الثقيل، وحمدت الله لأن أولادي أسعد حالا فلهم شيخ يحفظهم كتاب الله وأب لم يعتقل إلا بإرادته في مجانين.
اقرأ أيضاً:
يوميات مجانين: الاستماع لسورة طـه / يوميات مجانين: على مشارف الوسوسة