شعرت بكثير من الحسرة والألم في الطريق إلى رأس سدر، وقد شهدت مقابر شهداء الجيش الثالث الميداني وشعرت بشيء من الاختلاط، وعندما كنا على مشارف عبور نفق الشهيد أحمد حمدي مازحت الجالس قربي وهو أستاذ طب نفسي هزمته أمريكا منذ حربها الأولى على العراق في تسعينيات القرن العشرين، المهم أنني قلت مازحا بعد أن سألني ولدي من هو أحمد حمدي فقلت له واحد من شهداء الحرب مع الإسرائيليين، ثم أكملت مازحا أخشى أن يصبح من بين مقتضيات التطبيع مع جيراننا وشركائنا في "الكويز" أن نلغي مسميات كالشهيد والبطل ونكتفي بالمرحوم مثلا، وزاد على مزاحي الساخر أحد زملائنا قائلا:
"يا ليت بس ترسى على مرحوم أنا خايف يبقى إرهابي"، وقلت له: ممكن إذا طبق قانون معادة السامية، فإذا كانوا يريدون تطبيقه على الإعلاميين والمثقفين إذا أساء أحدهم إلى إسرائيل، فيصبح من الأولى تطبيقه على كل من تورط في حمل السلاح ضد إسرائيل يوما باعتباره معاديا للسامية وإرهابيا لا جدال، ولا أستبعد أن نجد حينذاك صيحاتٍ يطلقها مصريون مثل لا تهم الأسماء دعونا نحفظ النفق من صواريخ كروز وليكن اسمه ما يكون!، فمصر بلد فقير وليست لدينا مقدرة على بناء نفق جديد هذا إذا كان سيسمح لنا أصلا بالبناء، وبعد طول صمت رد الأستاذ قائلا: في مثل بيقول: "اللي ياكل من جيبهم يحارب بسلاحهم" كفايه بقى احنا اتهزمنا كتير ومعندناش حاجه نواجه بيها"، لم أحاول الرد عليه لأنني أعرف أننا لا نأكل من جيبهم وإنما من المسروق من خيرات أمتنا مع الأسف، وأعرف أن عندنا كثيرٌ نواجه به لكننا نجهل ما لدينا أو لا نحسن استخدامه.
وشردت بذهني بعيدا وأنا أتذكر الأغنيات التي كنا نغنيها صغارا مثلا : بابا جاب لي بندقيه.... هاضرب بيها ميه.... من إسرائيل وش الأذيه...." كانت البلد في نكسه، وكانت حرب الاستنزاف هي ما تربينا عليه، وكنت أشاهد أولاد خالاتي عائدين من الجبهة جرحى ومصابين كانت سني عمري وقتها سبع أو ثمان سنوات، وصور الجروح والأطراف في جبائر الجبس والعكاز الذي كان أحدهم يستخدمه وذلك الذي فقد القدرة على إنجاب الأطفال لأن شظية أصابته في ظهره، ولم أكن أفهم كيف ولماذا فقد تلك القدرة وما علاقة الظهر بإنجاب الأطفال أصلا؟ كنت طفلا تقليديا ككل أطفال تلك السنوات،...... تذكرت أيضًا مجموعة أغنيات كنت نغنيها لوزير دفاع إسرائيل وقتها موشى ديان..... ياه ... ياه ..، وأذكر كيف كان عبد الحليم يغني ... سكت الكلام.. والبدنقيه اتكلمت... والنار وطلقات البارود..... شدت على إيدين الجنود... واتبسمت" أفقت من هذا كله على انتصار أكتوبر وأسر الإسرائيليين ولواء عساف ياجوري وخط بارليف..... و... و وفجأة أفقت على مطلع قصيدة لا تصالح لأمل دنقل أذكر منه: لا تصالح!....،.. ولو منحوك الذهب...، أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟ ... هي أشياء لا تشترى..: ،، يــاه كم في مصر صدقوه وقتها؟؟ كم يبيع الناس في بلادنا ذاكرتهم، كنا شعبا نسي ذاكرته وأصبحنا أمة تنسى ذاكرتها!
وتداعت إلى ذهني قصيدة الحظيرة لأحمد مطر، لم يفهمه أحدٌ وقتها كان يقصد انفرادنا بالسلام مع إسرائيل، نحان أمة أيضًا لا تفهم شيئا فيما يبدو، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودهمتني أيضًا قصيدة طاووس عن بغداد إبان حرب تدميرها الأمريكي الأولى: يا شهرزادَ سمِعي شهرَ زاد.... تُ في "لندنْ" : بأنَّ الديكَ ماتْ !..... بالطائراتْ.... و بأن طائرةً تدُكُّ بكلِّ ليْلهْ."مِلْيونَ" ليلهْ!، لم يكن شعراؤنا يفهمونها خطأ، لكن الغالبية الصامتة كانت، وأتذكر مقالات الأستاذ عادل حسين رحمة الله عليه التي كنت أتلقفها كل ثلاثاء يوم صدور جريدة الشعب، خاصة أيام الحرب الأولى، قال الرجل ما سيحدث بناء على استقرائه للواقع والتاريخ، ودخل السجن، ولم يصدقه كثيرون مع الأسف، وهكذا مررنا كأمة بأحداث جسامٍ لكن لم يكن للشعر دورٌ أكثر من التنبؤ الذي لا يصدقه أحد، ماذا عنا الآن، إن أمريكا الآن خلعت برقع الحياء، ولم يعد خافيا على أحد أنها تريد أمركة المنطقة وعندنا تعبير مصري اسمه (أنطجة من أونطجي) وكانت أنطجة الأونطجي الأمريكي طريقه إلى وضع المنطقة في جيبه، وما يزال يحاول وضع الرافضين الفاهمين في جيبه، ماذا أقول؟ إن انقلاب المفاهيم بهذا الشكل الذي شهده جيلنا لم يحدث في التاريخ أصلا فالتسارع الحاصل في قلب مفاهيم الناس بالخداع أو بالسلاح إن أبوا أكبر وأعمق من أن يستوعبه الصاحون، واليوم انقلبت الأنطجة إلى بلطجة "عيني عينك"، وأصبحنا كلنا نعرف من المحيط إلى الخليج حكاما وشعوبا، ولا نفعل شيئا ما نزال!..، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أتدرون أكثر ما يقلقني الآن:
إنه خبر يقول بأن أمريكا مستعدة للتعامل مع الحركات الإسلامية التي تمثل عدوها الوحيد الذي تخشاه هي وكرسيها الشرق أوسطي المعلن "إسرائيل"، مستعدة للتعاون معهم إذا انتهجوا أسلوبها الديمقراطي، فهل هو مأزق جديد تنصبه لهم هل لديهم برامج جاهزة للتعامل مع معطيات العصر؟ أخشى أن شجاعة الفتيان وصلابة العيدان وصلاح السلطان وحلاوة الإيمان وحتى الأسلحة بما في ذلك العمليات الاستشهادية لم تعد كافية في المرحلة القادمة، والشيطان الأكبر يحتاج لأكثر من ذلك؟ فهل نحن مستعدون حقا؟؟
ما الذي يعنيه أن مجلس الشيوخ الأمريكي يناقش الآن قانونا يسمح للولايات المتحدة الأمريكية بمقاضاة وربما معاقبة أي دولة من الدول المنتجة للنفط إذا رأوها تسببت أو تتسبب في رفع أسعار البترول، يفكرون في تطبيق مفاهيم مثل الاحتكار والتلاعب بالسوق وهكذا... يا إلهي ما الذي يمكن أن يتطور إليه نقاش كهذا؟ وكيف ذلك يفهم في إطار ما نشرناه من قبل على أخبار وتقارير مجانين تحت عنوان: براءات الاختراع غير بريئة!! ، هل لذلك معنى يستبعد أن تقوم أمريكا بضرب أي دولة من الدول منتجة النفط لأنها تسببت في ارتفاع سعره مما أثر على مصروفات المواطن الأمريكي، وهل لما أشرنا إليه في الشهادة حق للفلسطينيين..محرمة على العراقيين!! ، هل في ذلك ما يجعل تخوفي من أن يصبح الشهيد مجرد مرحوم وربما لا سامي أو إرهابي بعد سنوات؟ ممكن طبعا إذا كنا كما اعتدنا أن نكونَ أمة بلا ذاكرة!
اقرأ أيضاً:
يوميات مجانين: حسن خاتمة / يوميات مجانين: سمك... زعل.. آه يا أبو هندي