لم تكن المرة الأولى على إطلاقها التي تسافر فيها أمي ولكنها كانت ربما الأولى منذ وقت طويل، كبر إخوتي الآن وأصبح"آخر العنقود" في الصف الثاني الثانوي..
سافرت أمي مع والدي بالطبع ولكن ربما لأننا اعتدنا سفره وانشغاله أصبح تواجده هو المختلف وليس العكس.. هذا بالإضافة إلى سفر بقية إخوتي أيضًا لكن إلى أماكن مختلفة..
*الجميع مسافرون
خلا البيت بعد التفرق على المطارات ولم يعد سوانا.. أنا ومنى وأحمد وأسامة، (أحمد) في الحادية والعشرين من عمره، هاديء، ودود وشاعرٌ أيضًا)، و (أسامة) برج الجوزاء"نكتة العائلة" وأصغرنا.. لا يمكن أن تجلس معه لخمس دقائق متواصلة بدون أن تنقلب من الضحك وهو على طبيعته.. عاقل جدًا ومجنون جدًا يلتهم أمهات الكتب التهامًا ويحفظ المتون العلمية وفي ذات الوقت لا يفوته عدد واحد من مجلة "ميكي"، و(منى) شخصية معتدة بنفسها واجتماعية، لكني لن أستطيع الحكم عليها في هذه الظروف لأنها -وقاكم الله - في الثانوية العامة.
قبل سفرها أوصتني أمي وهي تقبلني: اهتمي بإخوتك يا هدى.. و" اعمليلهم اجتماعات"..، ابتسمت وأنا أكتم ضحكة مندهشة وأتمتم في سري "أي اجتماعات، لاشك أن أمي تمزح"، لكني عرفت أنها كانت جادة جدًا عندما اتصلت بي بعد وصولها وتوصيني على البعد:"خليكي مكاني يا هدى.. الاجتماعات" لم أطق صبرًا فسألتها ضاحكة: "اجتماعات إيه يا ماما هو حضرتك كنتي بتعملي اجتماعات من ورايا ولا إيه" لكنها (وياللعجب) أصرت على موقفها وما رأت في الكلمة أي غرابة فلم أجد بدًا من مصارحة إخوتي بالأمر..
هذا هو اليوم الثالث لسفرها.. في اليوم الأول كان معنا أخي الكبير وأسرته، وفي اليوم الثاني كنا طيلة اليوم مشغولين بحفلة تخرج ابنة عمي"أبرار" وهذا هو اليوم الثالث.. والجميع مجتمعون.. يبدو أنني نسيت شيئًا هامًا.." نداء من أسامة.. نداء من أسامة.."
كانت تلك الهتافات ما جمعنا في غرفة الطعام لنجد أسامة وأمامه سفرة فارغة يجلس أمامها ويقول بمرح: اجتماع..
انفجرنا جميعًا في ضحك متواصل لكنه قاطعنا بجدية:
0 أنا مش باهزر، دا اجتماع حقيقي..
قلت له وأنا أجفف دموع الضحك:"عن إيه بئى إن شاء الله"
نظر إلى الطاولة وهو يغمغم: "نسيتو الأكل"..
ياللخيبة.. هذا صحيح.. إننا لم نأكل وجبة حقيقية منذ يومين.. لاحظت ذلك من آثار الـ"سناك" و"الشكولا" التي غطت المنزل..، ما هذا الاكتشاف الرهيب، الله..
وكأنهم كانوا ينتظرون هذه المبادرة .. فما إن قال أسامة الكلمة حتى هتفت منى وأحمد في نفس الوقت قائلين: "آه صح والله نسينا" ووسط الضحكات تحلقنا جميعًا إيذانًا ببدء الاجتماع..
توزعت اقتراحات الاجتماع بين أن نطلب أحد المطاعم القريبة التي تقدم خدمة التوصيل، أو يتبرع أحد الأولاد بالذهاب والشراء من مكان بعيد، أو نذهب جميعًا لتناول الغداء في الخارج..
وتعالت الأصوات لسلبيات وإيجابيات كل اختيار وأنواع الأكل و...... انتهى الاجتماع بقنبلة قذفها أسامة:
0 أنا هاطبخ لكم في البيت..
لم تكن هناك أي فرصة للاعتراض.. لقد قال كلمته وأغلق باب المطبخ واختفى.. سمعنا أصواتًا وكأنها لشيء يُقلى ولم نعرف إلا بعد أن خرج بعد حوالي النصف ساعة وهو يبتسم ويقول:
0 ولا أجدع مطعم.. سندوتشات أسامة تقدم كافة الأنواع والأصناف..
0 أسامة تعال بسرعة شوف( صوت منى يأتي من أمام التلفزيون بالداخل)، ذهبت معه بدافع الفضول وبعد حوالي العشر دقائق انتفض صارخًا:- الزيت الزيت
فتحنا المطبخ وردتنا عاصفة من الدخان الأسود وبسرعة أغلقت الغاز وفتحت النوافذ وخرجنا نكاد نختنق ..
لا تسألوني عن النهاية .. لقد أكلنا وجبة دسمة من الأيسكريم والسناك مع سندويشات الشكولاتة وأسامة ينصحنا:
0والله بجد لازم نفكر كويس في كلام ماما عن الأكل الصحي، يعني مثلا فيها إيه لو كنتو أكلتو الأكل الي أنا عملته فيها إيه يعني لو ريحته حريقة ؟؟
كان يتكلم بحزن وأنا في عالم آخر، كنت أشعر بالذنب.. لا أعرف مم ؟ قطع تفكيري اتصال من إحدى صديقاتي:
0 جاي على بالي أزورك.
0لا والله معلش خليها يوم تاني.
0طيب تعالي نخرج مع بعض.
0 أنا مع اخواتي والله مش هاقدر اسيبهم، أمي مسافرة .
0تقدمت منى بخطى واثقة وقالت:
0 هدى أنا خارجة عند صحبتي ضروري.
0 ضروري إيه إن شاء الله ثانوية عامة في الامتحانات.
0 عشان هدايا التخرج لصحباتنا.
0 لا معلش .
0شوفي أصلا أنا هاروح يعني طبيعي..
نظرت لها بحدة وأنا أشعر بالمرارة والعجز، ومما زاد من شعوري تذكري لأمي وأنا أقف أمامها وأقول لها: شوفي يا ماما أنا رايحة، بس باديكي فكرة... آآآآآآآآه.. يارب اغفر لي.. هل يقودني حزني دائمًا إلى الحمق والخطأ.. أستغفر الله..
تمتمت كما تقول أمي دائمًا: طيب براحتك بس اعرفي إني مش راضية..
أين أنتِ يا أمي الآن..
قبعت منى في غرفتها ولم تخرج -تمامًا كما أفعل أنا بعد رفض أمي- حزنت عليها لأني أعرف كم هو مرّ ذلك الشعور وتأكد لي ذلك عندما ذهبت لأسألها عن شيء فلم ترد علي، أعرف كم هي مزعجة ولكني لا أتحمل حزنها، يجب أن أفعل شيئًا..
قطع علي أفكاري أخي أحمد وقد أتى متعجلا:
- هدى. المدرس بتاعي قرب يمشي ولسا مش قدمتوله أي حاجة.
- يانهار بنفسجي وهو أنا أعرف منين حكاية المدرس دي.
هرعت إلى أسامة مستنجدة فأجابني بسخرية لا تخلو من شجن:
- آه ياختي منتي لو كنتي عايشة معانا كنتي عرفتي...
حزّت في نفسي الكلمة.. في الحقيقة أنا أبعد ما أكون عنهم.. لا أكاد أخرج من غرفتي ودائمًا لدي ما يشغلني بعيدًا عن دنياهم..، الساعة قد اقتربت من الحادية عشرة، واليوم الجمعة وغدًا دراسة.. لا بأس لابد أن أغير جو البيت الكئيب...
ما إن أغلق أحمد الباب وراء المدرس حتى أمسكته قائلة: يلا هانخرج..
نظر إلي بابتسامة دهشة وقال: ياااااااهدى.. بجد؟؟ فين؟ ليه؟
قلت له: ولا كلمة يلا..
وبكل استسلام (وبعد أن كان يقول أنه مريض جدًا) ارتدى ملابسه في سرعة البرق وشعرت بسعادة لذيذة وأنا أراقب وقوفه أمام المرآة ليرتب هندامه بفرح وكأنه ذاهب إلى حفلة خرافية..
كانت منى مع صديقتها على الهاتف وأضنتني وأنا أحاول إقناعها وكذلك أسامة الذي اعتبر ما نقول ضربًا من الجنون.. ولكن بعد محاولات ومناورات وتعب.. وافقوا وأخذتهم جميعًا وخرجت..
ما إن جمعتنا إحدى الطاولات الرومانسية وامتد أمامنا الكورنيش ببهرجه حتى همست لهم: اجتماع..
وارتفعت ضحكاتنا وكادت أن تدمع عيني وأنا أشعر أنهم أولادي.. أنظر لكل منهم وكأني أراهم لأول مرة.. يا لهذي القلوب الغضة كم تحتاج لمن يضمها بحنان..
مر علينا الوقت ولم نشعر به، عندما جائت قائمة الطعام أصروا أن أختار لهم وحيث أن المطعم مخصص للأكلات المصرية الشهية فقد قلت لهم بمرح: هاختار كل حاجة ماما مش بتعملها..
أردف أسامة ببراءة: يبقى اديلو المنيو كلها يجيبها..
وضحكنا من جديد ولكني تذكرت أمي الطيبة وهي تقول لي بصراحة: أنا بكره الطبخ، ولها الحق.. فلم تجربه في صغرها وصرفتها دراسة الطب والاشتغال به عن معرفة طرقه المختلفة، وكانت الكارثة هي تعرفها على موضوع: الأكل الصحي، حتى أوشكت المستشفيات أن تطلب منها وصفاتها الصحية الخطيرة، والنتيجة الحتمية معلقة في لوحة الإعلانات بالمنزل: قاموس لجميع محال المطاعم في المدينة..
لا تنظرو إلي الآن بتهمة.. حسنًا حسنًا دعوني أكمل لكم أولاً وسأخبركم لم لا أطبخ..
رجعنا حوالي الساعة الواحدة وانطلق الجميع إلى الأسرَّة ولم أراهم إلا ظهر اليوم التالي بعد عودتهم من المدرسة..
كنت قد طبخت (أكلة ابتكارية) وأنا في المطبخ دخلت منى أولاً وما إن سمعت باب المنزل يغلق حتى هتفت من الداخل وفاجأني الصوت:
- آه، آه، الله يسامحك إنتي واجتماعاتك.
هرولت إليها فزعة وأنا أسألها: خير مالك في إيه ؟؟
- أنا امبارح شكلي كنت مسطولة إني أروح آكل في نص الليل أكل مصري، إنتي فاكراهم بيطبخوا بطريقة صحية زي ماما ولا إيه؟؟ دا كله دسم و.........
- طيب يا منى أنا طبخت انهرد...........
قاطعتني بصرخة هائلة وهي تهرول إلى غرفتها قائلة: قولي إنك عايزة تقتلينا وترتاحي.. أنا مش هاكل تاني لمدة سنتين..
لم أكد أخفف من ضحكاتي المجنونة وأنا أغلق النار على آخر صنف قمت بطهيه حتى تناهى إلى سمعي صوت إغلاق الباب من جديد، هذا أسامة بلا شك، سيأتي كعادته للسلام، لأجهز خضروات السلطة ريثما يأتي..
تأخر كثيرًا فأصابني القلق وذهبت لأتفقده في غرفة التلفزيون كعادته فلم أجده.. وعندما دخلت غرفته وجدته يجلس بصمت أمام مكتبه..
- أسامة مالك؟؟ مجيتش سلمت كالعادة
- ..............
- في إيه بس؟؟
- إنتي عارفة إني صحيت من النوم مش قادر أتنفس.. أنا طول اليوم نايم في المدرسة.. احمدي ربك إني عرفت عنوان البيت تاني.. آ..
..... لم أتمالك نفسي حتى أستمع لبقية حكايته.. خرجت لأنفجر بالضحك بالخارج.. أنا حزينة عليهم ولكن لا أعرف لماذا أضحك.. ما إن دخلت الغرفة حتى نادتني منى نداء المرضى:
- هدى أحمد عايزك. اتصل بيكي على الجوال.
- إيه دا هو فين؟ طلع من الجامعة بدري؟
- معرفش، قال انو جوا في أوضته.
ياساتر يارب..
أصبحت تأتيني تخيلات أنهم قد أصيبوا بمرض ما.. وتطور الخيال إلى ثلاثة أسرة في المستشفى وأنا المرافق الوحيد.. ياللمصيبة.. لكني أكلت معهم ولم .........
- أحمد..
قلتها برهبة وأنا أجد جسدًا ممددًا على السرير بثيابه الكاملة..
لم تعد هناك فائدة من تكرار السؤال.. أشعر بالخدر يدب في أوصالي.. يبدو أنني أصبت بالمرض أيضًا.. يجب أن أتحمل.. (إنتي مكاني ياهدى، خدي بالك من اخواتك ياهدى),, الآن سأسمع كلامًا من نوع آخر (موتيلي الولاد الي تعبت فيهم يا هدى، منك لله ياهدى..).. لا لا يجب أن أفعل شيئًا.. اجتماع.. اجتماع نعم وسأدرس فيه الحالات وآخذهم جميعًا إلى المستشفى قبل أن يكتشف الأمر..
انتظرت حتى استيقظوا مترنحين واحدًا تلو الآخر، ولم أجروء على فتح أي موضوع، وكان شكلي محرجًا جدًا وأنا أفتعل أي جلبة في المطبخ حتى يحن أي منهم للطعام.. لقد تعبت في الطهي من الصباح ويبدو أن.. أشعر بدوار.. يجب أن أجتمع بهم الآن و......
وقفت برباطة جأش في وسط الغرفة وأنا أهمس بصوت جهوري (أكاد لا أسمعه)... إحم.. إجتماع
لا أذكر الآن هل كنت أحلم أم أن عاصفة من الثورة والصراخ والاتهامات اجتاحتني.. كل ما استطاع عقلي المنهك تذكره أنني هويت إثر تعب فظيع وكان آخر خاطر يجول في عقلي وسط سماعي لكل الشعارات المناهضة لي ولاجتماعاتي اللعينة..
(الوقتي هاموت وهيعملوا اجتماعات من غيري) الله يسامحك ياماما..
واقرأ أيضاً:
يوميات سحابة: لقطات من سحابة / يوميات سحابة : ثلاثة أيام تغيرات كونية ..