بسم الله الرحمن الرحيم
لما فرغت من امتحاناتي السابقة، سافرت لمحافظة الفيوم للاستجمام..
وكل زيارة لي لهذه المدينة يسترعي انتباهي أمرٌ مختلف، لا أجده في المدينة التي أعيش بها، فالحياة المدنية تفقد من يعيش فيها جزءا من الإنسانية..
أسافر أغلب الأحيان بالعربة الخاصة بالأسرة، هذه المرة سافرت بالحافلة - الباص- وجلست خلف السائق، الذي بدأ مع بداية الرحلة يقص حواديته للكومسري!! - مساعد السائق - يحاولان تخفيف الطول النسبي للرحلة..
في البداية لم ألق سمعي لما يقول ولكن أسعدني حظي بسماع القصة التالية.. قد كان السائق ضمن من اختيروا كسائقين في رحلة الحج في موسمه.. وأخذ يقص كيف كان يواصل الليل بالنهار سائقا لا يرتاح الا لبعض دقائق تصل لساعتين في المساء وكل ذلك حتى يصل الحجاج للمقدّس من أماكن العبادة والنسك.. لا أدري ما إذا كان حاجا معهم أم يقتصر عمله على كونه سائقا.. المهم يصف صاحبنا يوم عودته لمنزل عائلته حيث أمه وزوجته وأبناؤه وكيف احتفلوا بعودته وأعدوا له الطعام الذي اجتمعوا على الطبلية لتناوله.. وهو من عظم ما يعانيه من تعب السفر نعست عيناه وهو يتناول طعامه.. فنبهته والدته قائلة له وداعية: ربنا يقويك يا بني.. قوم يا حبة عيني نام.. فرد عليها بأدب الفلاحين: أنا قاعد على شان خاطرك والله يا أمي.. يعني تسمحي لي أقوم؟؟ كررت: قوم يا بني الله يقويك..
تعجبت من منزل يجمع الأم والزوجة يعدّ الطعام شراكة والجلوس على الطبلية شراكة .. والرجل شراكة بين بر والدته وحب زوجته..
هكذا تهيأ لي من حديثه السلس.. وليتها الحقيقة.
ثم في الطريق وبالقرب من مدينة الفيوم ونحن مرور على الأخضر الناصع من الأرض المزروعة
وأشعة شمس الغروب تنعكس لمعة على الورق والشجر.. رأيت عجوزا طاعنة تقريبا تحبو في مشيتها بمقتضى ضعف في جسدها الضامر وفي بصرها المنطفئ.. ولكن هي تتخذ عكازا من طفلة صغيرة تضع العجوز يدها على كتفها وتسير الطفلة حيثما أرادت العجوز.. رأيت كيف لكبير السن في هذه البلاد قيمة وقدرا.. بل يسخرون له من يساعده ويزيل معوقاته.. التي تحول عندنا - في المدن الكبرى - بين كبير السن وبين مزاولته لنشاطه فتحيله لحقبة سوداء مما بقي من حياته ينتظر الموت البطيء..
وقبل نهاية الرحلة فوجئت بإحدى السيدات تقترب من الباب وتقول للسائق: عايزة أنزل عند نخلة العمدة!!! ففرت من ثغري ابتسامة عريضة .. قلت في نفسي: هم يحددون مآلاتهم بالشجر والنخل ويتعارف الناس على المسميات فتتوحد الوجهات فلما وقف عند إحدى النخلات!!! قالت السيدة: لا مش هنا.. فرد عليها السائق يبقى أنت قصدك نخلة المأمور!! قالت: أيوة أيوة صح!! قال: عيني يا ست..
كنت أتمنى لو قالوا لي كل شجرة عندهم ما مسماها.. غير أني أعتقد أن النخل القريب من مصالح محددة وبيوت معروفة هو فقط الذي أطلق عليه مسمى.. المهم أنهم أناس بسطاء.. يعيشون في سلاسة نفتقدها..
كان موعد وصولي مقترنا بموعد انصراف الفلاحين مع بهائمهم من الأرض الزراعية مع آخر شعاع للشمس الغاربة..
كانت رحلتي هذه المرة مختلفة.. ممتعة.. ولله الفضل والمنة..
واقرأ أيضًا:
يوميات رحاب: عاتبوني أنا..... / يوميات رحاب الآه