عود على بدء: المصرية... صور وأصول
سافرت إلى بريطانيا لحضور منتدى عن الإسلام والغرب وكان الأمر يستدعي الاستقرار هناك مدة تزيد عن شهر... طبعا وكالعادة لم يكن الأمر سهلا على أسرتي بل لم يكن يمكن الحصول على موافقتهم بدون تجارب سفر سابقة (لم أحظى بفرصة سفر إلى الآن إلا في إطار مهمة عمل أو تغطية حدث عام لفترة قصيرة) حاولت دوما خلالها أن اثبت لهم إمكانية إدارتي لأموري على نحو مطمئن، كما لم يكن ذلك ممكنا دون وجود من أعانوني كثيرا في محيط عملي شديد الاستثناء فيما يخص العلاقات الإنسانية والإيمان بما يتم إنجازه.
عموما سافرت بحمد الله وفضله في تجربة أعدها من أهم ما مر بي.
وهناك تعرفت على الكثير من أنماط المعيشة والبشر خاصة في أوساط مسلمي بريطانيا، وأزعم أنني وجدي بينهم قدرا من الرعاية والتعاون مكنني من الاستفادة بإقامتي هناك.
إلا أنني استدعي معكم الآن أمرا كان أسرع من لقطة ربما كان مجرد لحظة وجدتها مدخلا مناسبا لإعادة الحديث عن اختلافات الطبع والتطبع بين نساء العرب على أساس قطري (المغربية، اللبنانية، الخليجية والمصرية وهكذا).
لقد همست القطرية - التي كانت وزوجها الفاضل سبب دعوتي لحضور المنتدى- للعراقية التي استقرت منذ سنين في بريطانيا بأنها تخشى علي تركي في الشقة التي أستأجرها المركز المنظم للمنتدى فردت العراقية هامسة أيضا: "متخافيش على مصرية" !
ولأنني مصرية فيبدو أنني لمحت الهمس ودلالته
لم يكن ذلك يعني لي على الإطلاق أن أي منهما لا تحبني أو لا تكترث لشأني بل على العكس كانتا وأخريات الضامن الحقيقي لأن أحظى برحلة مفيدة آمنة، ولكن ما جرى يثير أمر الصور الذهنية التي تستقر في العقول ويتم تداولها بل وإشهارها احيانا عند اللزوم. أراني عادة من كارهي النعرات القومية والاثنية وخلافه وتربيت على الأقل في العقد الأخير على خطأ التعميمات المخلة، لكن إدراكي شيئا فشئ للثقافي والاجتماعي بتعقيده وتفاصيله جعلني أحبذ مناقشة هذه الصور نقاش هادئ حتى لو استخدم في ذلك السخرية والانطباعات حيث يصعب الحديث في هذه الأمور بموضوعية خالصة دون تحيزات.
ما أثير على مجانين من حديث عن مقارنات ومفاضلات بين نساء العرب وخاصة ما قدم على أنه نقد موزون للمصريات وما تلا ذلك من ردود حماسية، كل هذا هام في فهم تركيبتنا المعاصرة وخاصة فيما يتعلق بالمرأة.
وتعليقي المتأخر – كعادتي- ربما اقتصر على حال ووضع المصرية لكوني هي من ناحية ولانطماري في التربة التي أفرزت هذه الأحوال والأوضاع من ناحية أخرى.
لا يمكننا الحديث حتى عن مسألة اهتمام المرأة بمخبرها ومظهرها وحسن تبعلها دون النظر ل 3 أشياء:
التركيب الحضاري..
المحيط العمراني..
الظرف الاقتصادي...
مصطلحات تبدو متقعرة بعض الشئ لكن لا أرى مفرا من استخدامها . المصرية تحديدا تحمل تراثا مركبا من الخبرة والتجربة في داخل بيتها بشكل إداراتها له ولعلاقاتها الذي يصل أحيانا إلى حد التفرد بتلك الإدارة، وخارج بيتها بالمشاركة المبكرة نسبيا عن نظيراتها العربيات (اتفقنا أو اختلفنا في تقييم طبيعة وجدوى تلك المشاركة) في الشأن العام (العراقية كان لديها الحق فيما قالت، أليس كذلك؟ ).
يذكرني حديثنا هنا بدعابة أستاذة الإعلام المصرية لنا في إحدى المحاضرات ساخرة من نفسها ومنا مشيدة بجمال اللبنانيات واهتمامهن بأنفسهن مقارنة ذلك بالمصريات لتقول: هكذا تكون النساء أما المصريات فقد خلقهن الله يحملن على ظهورهن فئوسا استعدادا لتحمل المشقة... الشاهد هنا أن التركيب الحضاري للمصرية ربما رشح حديث المسئوليات والضغوط الحياتية ليكون دائما الأعلى صوتا في حياتها كزوجة على الأقل بينما يخفت كثيرا صوت مسئوليتها – المفترض أن تكون مسئولية محببة – في العلاقة مع زوجها ذلك الصوت الذي – مع احترام الاستثناءات – لا يصمد أكثر من سنين أولى في عمر الزواج على أفضل تقدير..
لا يعني ما ذكرت بطبيعة الحال إدانة للمرأة لكونها الفاعل الأوحد المقترف لإثم جفاف العلاقة الزوجية وروتينيتها وإنما يفسر جانبا من أسباب ما يحدث عادة خاصة وأن المحيط الاجتماعي قد يدين الأم المقصرة أو الزوجة التي لا تشد من أزر زوجها في المحن بينما تتضاءل الإدانة كثيرا إذا كان التقصير فيما تعودنا النظر إليه على أنه صغائر الأمور التي يمكن التعايش مع التقصير فيها ثم يكتشف الجميع وكأنها المفأجاة أن تلك الصغائر سببا في فشل زيجات كثيرة وتقويض أركان بيوت عدها الغافلين راسخة.
وإذا ما أتينا للطلسم الثاني: المحيط العمراني فيمكن فك شفرته بقولنا أن الزحام الخانق والفقر أصبحا سمتين أساسيين ومؤثرتين بقوة لا يمكن الاستهانة بهما على حياة المصريين ذكورا وإناثا.
شعور المرأة بإنسانيتها ثم بأنوثتها مشروط بتوفير المساحات، مساحة متسعة في المجال العام تجعلها تتعرف على ما يدور حولها وتشارك فيه مع التزامها بقواعد هذا المحيط واحتفاظها بكرامتها، ومساحة أخرى في المجال الخاص تسمح لها وهي بعد فتاة صغيرة بأن تنشأ وهي مهتمة بأنوثتها غير كارهة أو محتقرة لها و هو ما يؤهلها حينما تصبح زوجة ألا ترى عيبا أو إهدارا في تقربها لزوجها بما تملك من ملامح للسكن – اللفظ القرآني الذي نردده في وصف العلاقة الزوجية دون ادراكنا بأن له شروط لا يتحقق إلا بها.
هذه المساحات التي تحدثنا عنها ليست متخيلة فقط ولكنها مادية أيضا ، مادية تحتاج إلى بنى تحتية فهل عمارة بيوتنا وشوارعنا ومرافقنا تسمح للمرأة بالحركة على النحو الذي ذكرناه؟
أشعر أحيانا أنني أرى أنصاف صور أو قل صورا متشظية بين بيئاتنا العربية، غالبا لا يسمح الظرف المصري سوى باختلاط – استخدم الكلمة مع اعترافي بالواجب الغائب لتحريرها وتوضيحها – دون توافر مكان ملائم للمرأة (خاصة قبل الزواج) داخل بيوتنا تستشعر فيه حرية أكبر لممارستها وتدربها على اهتمام أكبر بمظهرها وحياتها الخاصة، بينما تظهر صورة أخرى خاصة في بعض من دول الخليج حيث يمتد فصل المساحات من داخل البيوت التي تسمح عمارتها وتقاليدها بهذا الفصل إلى الخارج أيضا حيث يجب التعارف والتعامل مع المحيط المجتمعي (وإلا لما شرع الحجاب).
إيقاع الحياة وأجوائها في المجتمع المصري على وجه التحديد- والتي ساهمنا جميعا في صنعها- له أثره الواضح على حياة المرأة اليومية وبالتراكم على نمط الحياة الذي اتخذته: تلوث ...تردي في الخدمات والمرافق أو ارتفاع أثمانها بما تعجز عنه غالبية الأسر حتى من الطبقات المتوسطة... الوجبات الجاهزة وأساليب التغذية غير الصحية... ساعات العمل الطويلة في القطاع الخاص والمهينة في القطاع العام... الجلوس أمام التلفزيون استجابة للجسد والعقل المنهكين... مكالمات المحمول الطويلة للتنفيث والتسلية..... كل هذا إضافة لشبكة علاقات اجتماعية مهترئة في الغالب... الجماعة الاجتماعية (الأهل والأصدقاء...) في بعض الأحيان تتقدم حيث يجب أن تتأخر (بالتدخل في المشكلات الخاصة والنصائح غير المطلوبة والمقارنات المفسدة...) وتتأخر حيث يجب أن تتقدم (توفير الخبرة والتجربة، المساندة المعنوية والتواجد عند اللزوم...)
أما الظرف الاقتصادي فلا يحتاج مني لحديث طويل، جميعنا يكتوي به . لقد أصبح فيما يخص العلاقة بين الزوجين خلط يدعو للتساؤل أكثر ما يدعو لتبادل الاتهامات.
التطور الاجتماعي الاقتصادي المعاصر في بلادنا وأثره على ما يخص العلاقات المالية الأسرية بين الرجل والمرأة يمكن النظر إليه عبر مراحل محددة ولنقل عبر أجيال:
جيل الجدات حيث بدت العلاقة (في الأغلب الأعم) فاصلة واضحة وبالتالي مريحة، الرجل هو الوحيد الذي يعمل بالخارج وينفق بينما المرأة تتحمل مسئولية البيت في الداخل (ونحن هنا ننظر لهذا العامل معزولا عن مسائل الدور الثقافي والاجتماعي للمرأة وما يجب وما لا يجب، فقط نصف ما كان وما هو كائن دون تدخل).
جيل الأمهات اللاتي تعلمن وتقدمن بنقاء إلى حياة تقوم على فكرة البدايات الصفرية والمشاركة والتدرج في سلم التحقق الاقتصادي ثم ما لبثت أحلام كثيرة لهذا الجيل ككل تتبدد تحت وطأة مجتمع انهزم سياسيا واقتصاديا وتخبط اجتماعيا لأسباب مركبة ويطول شرحها.
هذا الجيل ربى أجيال البنات وفي فمه مرارة التضحية دون حلاوة الثمرة وشدد في تربيته – مع احترام الاستثناءات مرة أخرى- على فكرة عدم جدوى التضحية وضرورة البداية وقد اكتملت أسباب الراحة وعدم الحاجة للصعود التدريجي الذي لا طائل من ورائه وتزامن هذا النمط من التفكير وترعرع في ظل غياب حلم كبير لهذا المجتمع بل وتشظي الأحلام الجماعية والشخصية.
بالطبع الحدود ليست فاصلة بين الأجيال وظهور نماذج مختلفة في كل جيل أمر وارد إلا أن السمة الغالبة بدت كما ذكر آنفا.
وعبر الأجيال الثلاثة كان استدعاء الدين أحيانا – وللأسف – مستفزا، نشهره نصا في وجوه بعضنا البعض تارة لربط القوامة بالإنفاق إذا ما أرادت المرأة أن تعير رجلها، وتارة للتشديد على الطاعة وحسن التبعل إذا ما أراد الرجل إحراج زوجته.كأننا لا نختلف عن حكامنا في شيء إذا ما أرادوا توظيف النصوص الدينية دون ممارسة قيمية له. حديث الاستحقاقات وتبادل الاتهامات غير مجد إذ نحتاج لإدارة مناقشات مفتوحة ومتعددة لضبط العلاقات حتى المالية بين الزوجين.
أدرك أن كل ما ذكرت سببا ونتيجة لأمور عديدة وأن البعض قد يراني وقد أخذتكم بعيدا عن موضع تركيز هذه السطور لكني أراها شبكة خيوط تداخلت دون انتظام علينا فضها حتى نتمكن من نظمها مرة أخرى كما اتفق.
دعونا نعترف بأن المرأة المصرية قد تكون مرهقة ومرتبكة، أحوالها الشخصية غير منتظمة غالبا... تحتاج للوعي بمشكلاتها والاعتراف بها أمام نفسها تماما كما تحتاج للدعم دائما والإشادة أحيانا.
الرجل هنا يظهر ساخرا يشكو غباءات الزوجة وتقصيرها أو يدخل كهفه ليلوذ بالصمت. نحتاج هنا إلى أن نستمع إلى الرجل ونسمع منه حديثاً لا يكتفي بالسخرية ولا يتسربل بالصمت.
ويتبع >>>>>>: منمنمات 2 (5 يوينو 2005)
واقرأ أيضاً:
في بلد البنات / ما تلبسه المصريات أيوه هي فوضى