هجر الكتب من أجل القراءة!
رفعت حاجبي تعجبا حينما ذكر لي –منذ بضع سنين- الصحفي بالجريدة المصرية الأوسع انتشارا من أنه يأتي يوما على "الصحفي" قد لا يقرأ فيه سوى صفحته بالجريدة التي يعمل بها فقط ليتأكد من أن ما كتبه قد نشر دون أخطاء!! معللا ذلك بضغوطات الحياة وشعوره بتعدد مصادر المعرفة.
والآن أراني أتفهم ما قصد دون تبريره، القراءة كانت فعلا شديد العذوبة، ظلت في سنوات الطفولة والصبا تشكل عالما موازيا، ومصدرا للابتعاد الآمن بعض الشيء عن الأقران والأهل عند الحاجة إلى ذلك دون فقدهم... ثم مرت السنوات ليأتي بعدها التمرد على الفعل نفسه في مقابل وقتا أطول لمشاهدات وتداخلات في أوساط المثقفين والنشطاء، تزامن هذا مع ممارسة مختلفة لفعل القراءة نفسه، أعني بشكل أساسي تصفح مواقع الإنترنت والبحث عما تقتضي الحاجة إلى قراءته أو الكتابة عنه، ورغم الحرص في ظل هذه الممارسة المختزلة على تقليب الموضوعات على وجوهها ورسم خرائطها للبحث عبر القراءة عما يغذيها ويختبرها إلا أنني أقلعت بشكل غير تام عما كنت أعتبره الرياضة الذهنية الأنجح (القراءة من الكتاب المطبوع) التي تحتفظ لك بمسافة بينك وبين نص تعايشه وتكتشف نفسك من خلاله.
غزتني الرغبة في المراجعة ضمن جملة مراجعات أخرى، لأكتشف عمق عبارات أحد الآباء المعلمين من أن "عمر القراءة قصير، بينما عمر الكتابة أطول" قاصداً بهذا أن من قرر الاشتغال بالكتابة عليه أن يدرك أن بناه التحتية إنما تدعمها القراءة بما يفرض عليه أن يوليها اهتماما يفوق غيرها.
تذكرت التغييرات التي طرأت على خريطة اهتماماتي بل وعلى نوعية ما كنت أقرر قراءته وأبرزها عزوفي شبه التام عن قراءة الراوية اتكاءً على مقولة كاتبنا عباس محمود العقاد "الرواية مثل الخروب قنطار خشب ودرهم حلاوة" مشيرا إلى تواضع الفائدة من قراءتها مفضلا عليها فن المقال الذي أعده العقاد الأولى بالوقت والمتابعة.
اكتشفت بعد استئناف غير منتظم لفعل القراءة أنني صرت أستقبل ما أقرأ بشكل أظنه أكثر تعرفا على مداخل ومسارات الأفكار رغم ترامي أطراف الاهتمامات، صرت أكثر قدرة على الانفتاح على المختلف... دفعني اهتمامي بالآثار الثقافية للإنترنت للالتقاء بفكرة تقول بأن ما يحول المعلومة إلى معرفة هي الحياة الاجتماعية للأفكار، تتحرك المعلومات في مدارات النقاش والتداول وشيئا فشيء تتكون المواقف والاتجاهات. القراءة تحقق لحظة تنويرية أقوى إذا صحبتها حركة إيجابية لاختبار الأفكار ومناخ عام يسمح بنقاش مجدٍ،مما يسمح بوصفها بالقراءة النشطة.
لكن يبقى السؤال حول نمط الحياة الذي يسمح بتحقق هذا؟
ومع اعتبارات التصنيف التقليدي والتعلل بالأسباب التنموية المفهومة والمعروفة سلفا عن نسب الأمية والظرف الاقتصادي تظل أسئلة مطروحة: لماذا توجد مجتمعات توصف بالقارئة وأخرى لا تتسم بهذا؟ إحساس أكبر بجدوى تداول الأفكار.. تعامل أفضل مع الموارد مثلا وعلى رأسها الوقت.. تحقق مما يطلقه المرء من آراء وأحكام بالتعرف على ظلالها عبر الثقافات والأزمنة المختلفة بدلا من الاجتراء والاغترار بالجهل أو نصفه....
لعل الأمر يستحق شيئا من التفكير، ومزيد من القراءة النشطة
ويتبع >>>>>>: منمنمات 4 (7 يونيو 2005)
واقرأ أيضاً:
في بلد البنات / ما تلبسه المصريات أيوه هي فوضى