صامتة أنا حتى الاختفاء.. انتظر الجميع مني يوميات صاخبة عن أجمل أيام قضيتها في حياتي.. ولكني لم أكتب عنها بعد.. لا أعرف.. أشعر أنني بحاجة أن اختزلها في قلبي قليلاً.. إنها تشعرني بالدفء.. وتهون عليَّ كل شيء مهما كان غريبًا..
عندما كنا في مصر.. الشهر الماضي.. انشغل إخوتي بالمصايف والزيارات والأماكن المثيرة.. وانشغلت بمجانين بسعادة واندفاع.. كنت أريد أخذ أكبر شحنة من الطاقة قبل أن أغادر..
لم تكن الأسابيع الثلاث كافية لكل شيء.. غضب مني الجميع.. "إزاي تيجي مصر من غير ما نشوفك"؟؟
لم أكن قادرة على التبرير.. لم أستطع أن ادخلهم حتى يتلمسوا إحساسي ويعذروني..
كان ذلك سببًا قاهرًا لألا أرفض الذهاب إلى مكة المكرمة حيث أن فوجًا من عائلة والدتي قد أتى للعمرة ..
وكنت سعيدة لأنني سأذهب.. فذلك اليوم 15-9 كان يحمل لي ذكرى حزينة مضى عليها عام.. وكنت بحاجة أن أذهب إلى الحرم.. وأن أبكي إلى الله..
أ.هناء.. أحبها كثيرًا.. والدتها ابنة عمة أمي.. لكني أشعر أنها أختي الكبرى.. كم أحب أن أستمع لحكمها ونصائحها وأن أستفيد من علمها.. كنا نجلس في الحرم سوية بعد عصر الجمعة.. وكان اتفاقنا أن نطوف معًا ثم أكمل السعي بمفردي لأنني معتمرة.. وجدتها تقول لي بفرحة: مارأيك أن أعتمر معك؟
ابتسمت وأنا أتخيل أنها سوف تذهب إلى مصر وتعود لكنها لم تمهلني حتى استرسل في الأفكار وشرحت لي كيف أن باصات بجانب الحرم تأخذ الناس إلى الميقات (التنعيم) حتى يقوموا بالإحرام ويعودوا للعمرة ..
هل تنتظريني؟؟ إنها نصف ساعة فحسب.. "قالت لي ذلك وكلها أمل" لكني فاجأتها بقولي : طب ممكن أجي معاكي ؟؟
كنت أشعر بشيء غريب مزيج من الإثارة والرهبة.. هذه المرة الأولى التي أذهب فيها إلى الميقات.. فأهل جدة ميقاتهم منازلهم..
كما قالت.. كانت باصات صغيرة مختلفة الشكل.. لم أركب مثلها من قبل.. ينادون عليها مثل (الميكروباص) في مصر.. لكن الشيء الوحيد المختلف هو منظر الركاب..
في رحلة الذهاب التي تستغرق بضع دقائق كان يجلس خلفنا نساء من بلاد عجيبة اللغة، عالية الصوت.. فما كدنا نصل حتى شعرنا بصداع ودوار لم تذهبه إلا ركعتي سنة الإحرام..
كنت قد أحرمت من جدة.. ولكني أعدت التلفظ بالنية.. ولم يأخذ الأمر كثيرًا وعدنا..
في العودة جلست بجواري سيدة يبدو أنها من بلاد الشام.. بدأت حديثها معي بتنبيهي أن قليلا من شعري لم يحكم عليه الحجاب.. شكرتها وتأكدت من حجابي وعدنا للصمت..
قطعت الصمت هذه المرة بقنبلة رقيقة هادئة :
- هل قمتِ بعمل عمرة للنبي صلى الله عليه وسلم؟
- نعم؟؟؟
- لا تقلقي.. الأمر بسيط جدًا.. قولي نويت العمرة عن سيدي رسول الله.. الرسول ليس بحاجة لنا ولكن نحن في حاجة له.. وعندما تقومين بعمل عمره له مرة (يعزمك) على العمرة هنا مرات ومرات.
سائلتها باستغراب: كيف؟؟
قالت بانفعال: ألا تصدقيني.. هذه هي المرة السادسة التي أتي فيها إلى الحرم للعمرة..
رددتها بهدوء قائلة: لو كانت ذات نفع وفضل لما تركها أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة خير القرون..
قالت: هذا زيادة في الخير..
قلت: لو كان خيرًا لما حرمنا من معرفته الله عز وجل الذي قال في كتابه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )
أمرنا الله بالصلاة والسلام عليه.. وأخبرنا أن علامة حبه هي اتباعه والاقتداء بسنته ونهجه دون غلو أو ابتداع..
سكتت.. فظننت أنها تفكر في الأمر ببعض المنطقية.. لكني فوجئت بها تقول لي: عمومًا أنا حبيت أنصحك وهذا الشيء عن تجربة فإذا ما حبيتي تعمليه براحتك..
ووصلت الحافلة.. وافترقنا..
بقيت كثيرًا أفكر في حال هذه المرأة التي وقع حظها معي لتنصحني.. وتخيلتها (تنصح) الكثيرات ويفعلن فعلها..
وددت أن أقول لها.. انتبهي على دينك.. لقد أصبحتِ تقولين أنه عليه السلام هو الذي (عزمك) إلى هنا وهو الذي أحضرك فأين الله؟؟ وهل أصبحت تطلبين حوائجك من غيره وهو يسمع ويرى؟؟
.. كانت العمرة ميسرة وهادئة.. غير أن شيئًا ما لفت انتباهي في المسعى وهو إنشاء خط سير لعربات كبار السن والمرضى ليس هناك من يقوم بدفعهم بل تسير أوتوماتيكيا وعليهم التوجيه فقط.. لمحت عجوزًا تهلكه القيادة اقترب منه رجل (لينصحه).. وباتباع نصائحه كاد أن ينقلب..
تساءلت في نفسي إن كان ذلك المعتمر الناصح خبيرًا في هذا النوع من الأجهزة.. أو أنه يؤدي ما عليه لمجرد أن... -وللأسف-.. (النصيحة واجبة)..
واقرأ أيضاً:
يوميات سحابة: أمي مسافرة وهاعمل اجتماع / يوميات سحابة: لقطات من سحابة / يوميات سحابة : ثلاثة أيام تغيرات كونية ..