ت ع ت ع ة سياسية
..... فحتى المحاكاة ليسوا لها !!!
هل نحن نعرف حتى "كيف نقلد"؟ لقد شككت في ذلك منذ كان عندي خمس عشرة سنة، كنت في شهادة الثقافة العامة (ثانية ثانوي الآن، 15 سنة) وكتبت شعرا عموديا تافها، تمنيت عرضه على أستاذي محمود محمد شاكر، وكان شاعرا جميلا لمن لا يعرفه إلا محقق تراث، (من أجمل ما قرأت له قصيدة "القوس العذراء" على قصيدة الخماش بن ضرار، في قوس عامر)، أرسلت له قصيدتي الخائبة بالبريد مع أنني كنت أتردد عليه أكثر من مرة في الأسبوع، ربما فعلت ذلك لأنني خجلت أن أناولها له يدا بيد، لم يفاتحني حتى ظننت أن الرسالة لم تصله، لكنني عدت وتشجعت حتى سألته عنها، فابتسم، ولم يعقب، ففهمت، ومن يومها تبت عن اقتراف الشعر العمودي تقريبا تماما.
أثناء كتابتي هذه التعتعة عن خيبتنا البليغة حتى في التقليد، قفز في وعيي من هذه القصيدة الخائبة بيتان:"أراهم يحاكون زيفاً وسخفا، ونصباً قديما عليل البصر"، "فـحتى المحاكاة ليسوا لها، مسوخُ قرودٍ بقايا بشرْ"، بعد حوالي ستين عاما توقفت عند البيت الثاني أتساءل: من هم هؤلاء الذين كنت أصفهم، وأتصور أنهم لم يصلوا إلى مرتبة القرود في التقليد، وأنهم: بقايا بشر"، يا ترى كنت أعني ناسنا جميعا (الشعب)، كما يفعل أبو يحيي رئيس التحرير الآن حين ينزل على الشعب المصري سلخا بلا رحمة، حتى أتصور أنه يعنيني شخصيا؟
هل كنت في هذه السن أوجه الخطاب لحكام سنة 1949 ولهم كل الحق في المحاكاة دون ادعاء؟ المهم أنني الآن انتبهت وهذا البيت الأخير يعاودني أن المسألة تنطبق علينا جميعا:
ناسا وحكاما، فلنركز على حكامنا تاركين الناس لأبي يحيي داعين أن يخفف جرعته علينا بعد حجه المبرور إن شاء الله.
حكامنا يمسحون كل أخطائهم بنظام ما ، لو تلفتّ حولك لوجدت نفس النظام الذي قالوا إنه السبب قد أثبت نجاحه عند غيرنا، ثم هم يعودون ليمسحوا نفس الخطأ في نظام آخر، الناحية الثانية، فننظر إلى الناحية الثانية، فإذا بنا نفاجأ أن هذا النظام الذي هو في الناحية الثانية، قد نجح أيضا، ونحن: أبدا.
أنا أحترم قدرتي على الحقد، و أحاول أن أوظفها لأمر ما، أنا أحقد على الصين حقدا لا مثيل له، وأحقد على دبي بنفس الدرجة، وهما نظامان – على قدر علمي – ضد بعضهما البعض، أتابع الإنجازات محسورا وأنا أغلي، حين اختفت هونج كونج في عباءة الصين، تحفزتْ دبي وفتحت ذراعيها لرؤوس الأموال وللسياحة، تصور؟ للسياحة، ودرجة حرارة الجو هناك كذا، حتى صنّعت قطبا جليديا للتزحلق في أعلى سوبر ماركت هناك !! ألتفت الناحية الأخرى وأحاول أن أتقمص صاحب المصنع الصيني، والعامل الصيني، الذي ينتج المسابح والجلباب السعودي ، المختلف عن الجلباب الكويتي (لا أعرف أيهما أضيق عند الصدر، لكنهم يعرفون)،
وأتساءل: ما هذا النظام الذي جعل هذا العامل، وصاحب المصنع يعملان هكذا؟ ما الذي يجعل معدل التنمية عندهم يقفز متحديا هكذا؟ ما الذي يجعلهم يهددون اقتصاد أوربا وأمريكا عيني عينك, وأتذكر أنه ما زال نظاما شيوعيا في سنة أولى حقوق إنسان، لكنه عرف كيف يجعل رؤوس الأموال تأتيه واثقة دون تردد. أرجع إلى دبي، وأسأل صديقي الذي لديه مالا لبدا: لماذا جعل المركز الرئيسي لمؤسسته في دبي؟ لماذا يسجل عماد أديب شركته العملاقة في أبو ظبي؟ فأسمع ما يفيد عن ضآلة الضرائب، وانضباط المعاملات، وقلة الفساد، هنا وهناك، وأتساءل:
لماذا لا نقلد أيهما ورزقنا على الله؟ إما الصين وإما دبي؟ نقلد أي حل ناجح "كله على بعضه" لننجح مثله؟
في الإصدار الأول للدستور بتاريخ 28 مايو 1997 كتبت تعتعة بعنوان : "إما مانديلا أو كابيلا"، قلت فيه إما أن نقلد جنوب أفريقيا فيتجنس الفلسطينيون جميعا بالجنسية الإسرائيلية، وهات يا خلفة وقلة تحديد النسل حتى يذوب يهود إسرائيل (فالعالم!!!) في إنتاج أرحام الفلسطينيات، وإما زحف لا يتوقف مثل زحف كابيلا أثناء الحرب الأهلية في الكونغو آنذاك.
هي نفس الفكرة:
علينا أن نقلد أي ناجح تقليدا يستوعب نجاحه بما يتفق معنا، فنتجاوزه، بدلا من حكاية الموقف النصف نصف، رقصا على السلم طول الوقت: في الاقتصاد، والفن، والحرب، والسياسة.
هل نعيد قراءة بيت هذا الصبي الشقي بعد ستين عاما من واقع خيبتنا الحالية وهو يقول:
"فحتى المحاكاُة ليسوا لَهَـا ، مسوخُ قرودٍ بقايا بشرْ"
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية تجاوز للعلم..ووشم للمرضى! / تعتعة سياسية يا رب سترك / تعتعة:الحلم والشعر والواقع والسياسة