على باب الله قطار الليل والنهار 9/4/2006
أعشق الترحال, أسميت نفسي ذات مرة المسافر أبدا, وربما أنا أبرر حين أقول وأردد مع الحديث، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح, وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, حالي والدنيا, مثلي والدنيا كمسافر جلس يستظل تحت شجرة ثم قام وتركها.
هذه العلاقة العابرة بالأشخاص والأشياء تقلق من حولي بل تزعج بعضهم, بل قد أتلقى منهم الهجوم, إن لم يكن اللوم فقط!! وفي ترحالي أرتبط بالسفر داخل نفسي, وعبر الدنيا, وفي وطني أنتقل بالسكك الحديدية، القطار ومترو الأنفاق, ويتضاحك من حولي حين أروي لهم حكايات, وعن شخصيات, وأحداث في المترو, وكثيرا ما قضيت بعض الوقت مصطحبا من يريد أن يراني ونتحدث, أو أريد أن أراه, ولا أجد لذالك وقتا فيكون المترو هو الحل.
مؤخرا اقترحت إحداهن استحداث عربات جديدة تسمح بلقاءات زوجية ضمن الانتقال بالمترو, وعلى خلفية أن البعض يقضي ساعات يوميا فيه فإن الفكرة تبدو لا بأس بها, تكسر البرود والجمود, أو تسمح بالتلاقي المفقود!!
وأحيانا يكون من نصيبي أن أركب القطار الأخير الذي ينطلق من محطة التحرير المسماة بالسادات حوالي الواحدة إلا الربع بعد منتصف الليل, وهو مشهدٌ أبطاله حصاد اليوم من المنهكين الذين يعودون خماصا أو بطانا بحسب أرزاقهم يتسامر بعضهم ببقايا حكايات اليوم وما قبل النوم وربما تستعد أقلية بسيطة لقضاء سهرة تليفونية أو تلفزيونية, يهرولون جميعا ليلحقوا بشيء قبل أن يرخي الليل أستاره الأكثر كثافة فيستوحش من لا يحب الظلمة والسكون!!
في قطار الليل أطفال على صدور الأمهات أو فوق أعناق أو أكتاف الآباء, نائمون ونائمات ربما يحلمون, وربما مجرد منهكين يستعدون ليوم لا يختلف عما سبقه!! قطار الليل أحسه يحمل توتر اليوم كله, وتعب النهار والمساء, هموم معارك العيش, والخلافات حول التوافه, وإحباطات الآمال التي لم تتحقق, يحمل من الآلام أكثر مما يحمل من الآمال.
أما مشهد قطار الصباح فكم تمنيت أن يراه معي كل حبيب, ما أروع تعبير المولى سبحانه وتعالى (والصبح إذا تنفس) وما أجل أنفاسه... رائحة الزهور أشمها في شوارع المعادي, وقد أتاني الربيع يختال ضاحكا, يبتسم في ورود حمراء قاتمة وفاتحة, وبرتقالية, وأوراق أشجار مغسولة بماء المطر طوال أيام مضت, وقبل أن يتلوث الجو بعوادم المركبات والبشر يمكن أن أرى الندى وهو يلم ثيابه ويسحب عباءته, وأحس إيقاع الغزل في زقزقات الطيور التي أصبحت تسبح ربها بين الأشجار والأزهار والكون كله ينفتح وينفسح لاستقبال الملكة التي ترسل الضياء أشعة تتجلى بقرصها المستدير الملهم لمن يريد طاقة وتجددا أو ضياءا وتوقدا.
لذالك فإن قطار الصباح يحمل ضحكات العجائز, وبقايا نوم لم يكتمل فيسترخي غفوة في البكور استعدادا ليوم جديد لعله أفضل من سابقه, رغم أنه لا دليل على هذا, ولا علاقة, ولا تباشير, غير الفجر والعصافير, والشمس والورود, والندى وأوراق الشجر!!
ينساب قطار الصباح مسرعا رقيقا ليكمل المشهد, وليحمل مشهده الخاص المختلف, وناسه المختلفين الذين لم يرتدوا بعد ثياب الضغوط, ولا أقنعة التحفظ, فلا مكان إلا للود الوادع, وأذكار الصباح, وأصوات الدعاء الخافتة تشارك الكون كله تسبيحة وتكبيرة.
ذكرني هذا بقصيدة بسيطة لطيفة كنا ندرسها في سنوات المدرسة الأولى مقطعها المتكرر: ما أجمل الصباح, جملة يرددها اليوم كله, والكون كله وهو يرتحل مسافرا كما أنا... ما أجمل الصباح.
اقرأ أيضا:
على باب الله من منازلهم، وموقعي المفضل/ على باب الله: أنهار سرية