الحق في الغباء، كسائر حقوق الإنسان المهملة، هو حق مشروع، مثل الحق في الجنون والحق في الحقد، والحق في التفاهة، كلها حقوق لو اعترفنا بها، لأمكن ترويضها بعد قبولها من حيث المبدأ والطاقة الدافعة، بدلا من أن تعمل في الخفاء فتعمينا وتشوهنا.
أفخر كثيرا -بيني وبين نفسي- بعدم قدرتي على فهم ما يفهمه غيري ببساطة ومباشرة، نعم، أغلب ما لا أفهمه، خصوصا في السياسة، يفهمه غيري بسهولة، أو هو يتصور أنه يفهمه، أو لعله يكسل أن يكتشف أنه لم يفهمه. حين كتبت في التعتعتين السابقتين عن الغباء والذكاء السياسي، ثم عن التغابي، انتبهت إلى أنه علي أن أعلن موقفي، وقصوري بصفة شخصية لعلني أكون أصدق وأوضح. يبدو أنه من الأفضل أن نتوقف عند مالا نفهمه، مهما طال الزمن هذا حقي وحقك، بدلا من أن نتعسف الفهم غصبا عنا، عدم الفهم ليس بالضرورة غباء، وهو بالتأكيد ليس تغابيا. خذ هذه الأمثلة:
المثال الأول:
أنا لا أفهم البيانات الختامية للقاءات الثنائية حين يلتقي زعيمان جدا، أو رئيسان جدا، مختلفي الثقافة والدين والذكاء والاقتصاد، ثم يصدر بعد لقائهما بيانا يقول: إن وجهات نظرهما متطابقة في كل المسائل والمشاكل، يا خبر!! أتحدى أيا منهما يستطيع أن يزعم ذالك مع زوجته التي عاش معها بضعة عقود، ثم أنبه نفسي أن السياسة شيء آخر وأنني لا أفهم في السياسة بوجه خاص.
المثال الثاني:
أتأمل صور الرؤساء والزعماء والقادة وهم يبتسمون، بل يضحكون ضحكات متسعة جدا كل ضحكة تكاد تأكل بقية ملامح الوجه، أحاول أن أذكر نفسي أن هذا ليس دليلا على سعادتهم (ولا على بلاهتهم) وأن هذا لزوم التصوير (كلنا كده عايزين صورة أو: عشان الصورة تطلع حلوة) لكن في الوقت نفسه لا أستطيع أن أستبعد ما يلوح لي وراءهم في خلفية الصورة بما يشبه الهلوسة التي يعانيها مرضاي، حيث أرى أشلاء الأبرياء المتناثرة، ويا ليت الأمر يتوقف عند ذالك، بل إنني ألمح أحيانا أرضية الصورة وهي تتموج وكأنها لم تعد مجرد صورة بل "فيديو" يعرض دماء طازجة ومتخثرة وهي تتدفق متماوجة، ينبعث منها رائحة الغدر والإبادة من باب الاستباق الوقائي (يعني ماذا!!)، أفيق وأرفع بصري فوق الدم المتماوج، فأجد الابتسامات هي هي، بل ربما تكون قد اتسعت أكثر لتزيدني غيظا، أو لتعلن مدى غبائي السياسي الدبلوماسي.
المثال الثالث:
أقرأ البيانات الختامية لمؤتمرات القمة المتعددة الأطراف، أعجز عن فهم كيف يصل رؤساء وزعماء عدة دول مختلفة إلى قرارات مصيرية جوهرية بعد ساعات من لقائهم أو على الأكثر بعد يوم أو حتى يومين، وبالإجماع، يا سبحان الله!! صحيح أن وزراء الخارجية يكونون قد قضوا أياما وربما أسابيع يجهزون هذا البيان الختامي، أتساءل: إذا كان الأمر كذالك، ألم يكن من الأفضل أن يرسلوا ما انتهوا إليه إلى رؤسائهم ليوقعوا، بدلا من خداع الناس هكذا وكأنهم تناقشوا واختلفوا، ثم اتفقوا، فأصدر ذالك البيان الجماعي الإجماعي الختامي؟ يرضي جميع الأطراف، ترى هل يعدونا -نحن الناس- من هذه الأطراف؟ لست متأكدا.
المثال الأخير:
أعجز تماما عن فهم أبعاد وطبيعة ودلالة الحضور الواقعي لهذه الكتلة النيابية المسماة "الإخوان"، وهي كتلة منتخبة من فئة -مهما كانت محدودة- من الشعب، لكنها الفئة التي تكبدت مشقة المشاركة وإيجابية التنظيم والمبادرة، لا أفهم كيف تصدر البيانات الرسمية، كما تترى الأخبار في الصحف القومية وغير القومية باسمهم وصفتهم، وكيف تعقد المؤتمرات الصحفية تحت لافتات عليها اسمهم بالبنط العريض، ثم تروح السلطة تقبض على بعض الأفراد بتهمة الانتماء إلى جماعة محظورة بنفس الاسم.
(أي والله)، من الذي يقبض عليه منهم؟ ومن الذي يترك يتكلم تحت قبة البرلمان وفي المؤتمرات الصحفية غير المحظورة؟ لا أعرف. أتمسك بحقي في الغباء أهون من الغيظ حتى الانفجار. ما يبلغني مما يعرض في الفضائيات من مقابلات وأحاديث يزيدني تمسكا بحقي في الغباء، فأهرب من هذا كله فأجد أن غبائي هذا انتقائي، وقاصر على السياسة والدبلوماسية في الأغلب، لأنني فهمت لعبة "العبيط" التي لعبها جد "قندلفت" بناء على طلب الساحرات في حكاية الخطاب الضائع من "حكايات قرب قرية ديكانكا" لنيكولاي جوجول في القراءة الأخرى كما أنني أفهم حكايات أندرسون الخرافية للأطفال، أسهل وأسرع من هذه الألغاز السياسية والدبلوماسية. فعذرا.
اقرأ أيضا:
تعتعة : فحتى المحاكاة ليسوا لها / تعتعة: الحلم والشعر والواقع والسياسة / تعتعة: التغابي حيث لا داعي للتحايل!